إنّ الذكر الحكيم يشتمل على معارف وأصول كما يشتمل على أحكام وفروع، والغاية المتوخّاة من المعارف والأصول، هي تحصيل العلم والمعرفة أوّلاً، والإذعان والإيمان ثانياً، كما أنّ الهدف من تشريع الأحكام والفروع هو الدعوة إلى العمل والتطبيق.
فلو كان شرف كل علم بشرف موضوعه، فالعلم الأوّل ـ بما أنّه يبحث عن معرفة الله سبحانه ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله وما ينبغي له وما لا ينبغي له ـ يكون هو الأشرف والفقه الأكبر، كما أنّ العلم الثاني ـ بما أنّه يبحث عن حكمه سبحانه بما يتعلّق بأفعال العباد ـ يكون هو الفقه الأصغر. ولكلٍّ أئمّةٌ وقادة مفكرّون، وكثيراً ما يكون الإنسان إماماً في باب المعارف والعقائد، وفي الوقت نفسه يكون غير رفيع المستوى في باب معرفة الأحكام، وربّما يكون على العكس، فالكل إذا تكلموا فيما أحسنوا، أرشدوا إلى الطريق المهيع والحق المبين، فإذا نطقوا في غيره أتوا بما تندهش منه العقول ويقضي منه العجب(1).
فاللازم على روّاد العلم حسب ما أمر به الرسول من تنزيل كل أمرئ منزلته(2) والأخذ عنهم فيما برعوا وفاقوا فيه، وترك الاقتفاء والتبعية فيما لا حذق لهم فيه ولا براعة، وهذا هو دأب الدين، وهي السنّة القرآنية الّتي أمر الله سبحانه بها حيث قال: (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا)(3).
وكذلك علم الحديث والسنّة، فربّما يكون الرجل قدوة في الحفظ، عارفاً بمتون الأحاديث وأسانيدها، وليس له مقدرة علمية لتحليل مفادها والغور في أعماقها، فيكون ذلك من موارد قوله صلى الله عليه وآله: «نضّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلّغها، فربّ حامل فقه غير فقيه، وربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه»(4).
فليس كل من روى كلاماً للنبي صلى الله عليه وآله، يقبل رأيه الّذي رأى، ولا كل من حفظ اللفظ، كان أهلاً لبيان كنه المعنى، وما يستنبط منه، بل لكل من الحفظ والنقد والتحليل رجال متخصّصون، ولكل فن أهل وأرباب، فمن خاض في علم بلا كفاءة كان خطاؤه أكثر من صوابه وكان ما يفسده أكثر ممّا يصلحه.
هذا هو الأصل الّذي دعا إليه القرآن، واستقرّت عليه سيرة العقلاء، ولكن الغفلة عن هذا الأصل في بدايات القرون الهجرية الأولى، أحدثت تخبّطاً في الأوساط الإسلامية فنجمت بين المسلمين بدع يهودية وآراء مسيحية، من القول بالتشبيه، وإثبات المحل لله تعالى، والجهة له سبحانه، فوصف الباري ـ المنزّه عن كل نقص ـ بالجلوس، والنزول إلى الأرض، وأثبتت له الأجزاء والأعضاء كالوجه والعين واليد والرجل، ونسب إليه الاستعلاء الحسي على العرش، وكان السبب لهذا التخبّط أمران:
أوّلاً: الاغترار بما وضعه أعداء الإسلام من الأحبار والرهبان الذين تظاهروا بالإيمان وأضمروا الكفر تنفيذاً لحقدهم وعدائهم، ويقف القارئ على نماذج كثيرة من هذه الإسرائيليات فيما روي عن كعب الأحبار، ووهب من منبه، وعبد الملك بن جريج، ومن شاكلهم من المتأسلمين لا المسلمين الحقيقيّين.
ثانياً: الجمود على ظواهر بعض الآيات والأحاديث من دون تعمّق في أغوارها، ولا تفحّص في مفاهيمها وأعماقها، حتّى عاد التفكّر في مفاد الآية والحديث تأويلاً بغيضاً، فعند ذاك هاجت بحار الفتن وتلاطمت أمواجها بالبدع المهلكة، فسمّي التفكّر في القرآن والتدبّر في كلمات الرسول «كفراً» و«زندقة» وعدّ إقصاء العقل وعزله عن القضاء في المعارف والأصول «قداسة» و«نزاهة»!!!
ففي هذه الظروف والأحوال قامت قيامة تأسيس المناهج، ونجمت فرق كثيرة، كلٌّ يدّعي الانتساب إلى الوحي والسنّة.
وكلٌّ يدّعي وصلاً بليلى
وليلى لا تقرّ لهم بذاكا
وإليك تسمية بعض هذه الفرق وبيان رؤوسها:
1. مبتدعة السلف:
وهم المغترون بكل حديث وقعت أعينهم عليه، فجمعوا في حقائبهم كل رطب ويابس، وأخذوا بالظواهر وتركوا الاستعانة بالقرائن، وسمّوا كل بحث من أيّ أصل من الأُصول والمعارف «تأويلاً» و«خروجاً عن الدين» وكبحوا العقل بتهمة الزندقة، واستراحوا لما رووا عن أئمّتهم من ذمّ علم الكلام، فوصفوا الجمال المطلق والكمال اللامتناهي بالمحل والجسم، والنزول والصعود، وخرقوا له كثيراً من الأشباه والنظائر.
ترى كثيراً من هذه الأحاديث في مرويات حمّاد بن سلمة، ونعيم بن حمّاد، ومقاتل بن سليمان، ومن لفَّ لفّهم، ففي مروياتهم تلك الآثار المشينة، وقد قلّدهم كثير من البسطاء في القرون المتأخرة، فحسبوها حقائق راهنة وألّفوا فيها الكتب.
وعلى هذا الأساس أُلّف كتاب «التوحيد» لمحمد بن إسحاق بن خزيمة (المتوفّى عام 321 هـ)، وكتاب «السنّة» لعبد الله بن أحمد بن حنبل، وكتاب «النقض» لعثمان بن سعيد الدارمي السجزي المجسّم فإنّه أوّل من اجترأ من المجسّمة بالقول: بأنَّ الله لو شاء لاستقرّ على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته، فكيف على عرش بعيد(5).
ولقد عزب عن هؤلاء المساكين أنّ التفكّر في آي الذكر الحكيم والغور في أعماقها ممّا أمر به منزّله سبحانه حيث قال: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ)(6). وليس صرف آيات الاستواء على العرش والوجه واليد والعين وما شابهها، عن الظاهر المتبادر من مفرداتها، إلى ما هو المتبادر عند أئمّة البلاغة، تأويلاً وخروجاً عن ظاهر الكلام، إذ للكلمة بمفردها حكم، وللجملة المتكوّنة من بعض الكلمات حكم آخر.
وإن كنت في ريب من هذا فلاحظ لفظ الأسد بمفرده، ونفس اللفظ في قول القائل: «رأيت أسداً يرمي»، فحملها في الجملة الثانية على الحيوان المفترس صرف لظاهر الكلام بلا دليل، وتأويل بلا مسوّغ.
وبهذا يظهر أنَّ الصفات الخبرية الواردة في القرآن كالوجه وغيره لها حكم عند الإفراد، ولها حكم آخر إذا ما جاءت في ضمن الجمل، فلا يصحّ حملها على المعاني اللغوية إذا كانت هناك قرائن صارفة عنها، فإذا قال سبحانه: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا)(7)، فيحمل على ما هو المتبادر من الآية عند العرف العام، أعني: الإسراف والتقتير، فبسط اليد كناية عن الإنفاق بلا شرط، كما أنّ جعل اليد مغلولة إلى العنق كناية عن البخل والتقتير، ولا يعني به بسط اليد بمعنى مدّها، ولا غلّ اليد إلى العنق بمعنى شدّها إليه.
وعلى هذا يجب أن يفسّر قوله سبحانه: (الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ)(8)، فالعرش في اللغة هو السرير، والاستواء عليه هو الجلوس، غير أنّ هذا حكم مفرداتها، وأمّا معنى الجملة فيتفرع الاستظهار منها، على القرائن الحافّة بها، فالعرب الأقحاح لا يفهمون منها سوى العلو والاستيلاء، وحملها على غير ذلك يعد تصرّفاً في الظاهر، وتأويلاً لها، فإذا سمع العرب قول القائل:
قد استوى بشر على العراق
من غير سيف ودم مهراق
أو سمع قول الشاعر:
ولـمّا علونا واستوينا عليهم
تركناهم مرعى لنسر وكاسر
فلا يتبادر إلى أذهانهم سوى العلو والسيطرة والسلطة، لا العلو المكاني الّذي يعد كمالاً للجسم، وأين هو من العلو المعنوي الّذي هو كمال الذات.
وقد جاء استعمال لفظ الاستواء على العرش في سبع آيات مقترناً بذكر فعل من أفعاله، وهو رفع السماوات بغير عمد، أو خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، فكان ذاك قرينة على أنّ المراد منه ليس هو الاستواء المكاني بل الاستيلاء والسيطرة على العالم كله، فكما لا شريك له في الخلق والإيجاد لا شريك له أيضاً في الملك والسلطة، ولأجل ذلك يقول في بعض هذه الآيات: (أَلا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)(9).
فالتأويل بلا قيد وشرط، إذا كان ضلالاً فكذلك الجمود على ظهور المفردات، وترك التفكّر والتعمّق أيضاً ابتداع مفض إلى صريح الكفر، فلو حمل القارئ قوله سبحانه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(10) على أنّ لله مثلاً، وليس لهذا المثل مثل... إذن يقع في مغبّة الشرك وحبائله، وقد نقل الرازي في تفسيره لهذه الآية كلاماً عن ابن خزيمة فراجعه(11).
وما أحسن قول ابن العربي في هؤلاء المجسّمة المشبهة:
قالوا الظواهر أصل لا يجوز لنا
عنها العدول إلى رأي ولا نظر
بينوا عن الخلق لستم منهم أبداً
ما للأنام ومعلوف من البقر
وهؤلاء سلف المشبهة وأئمّة المجسّمة، وقد اغتر بقولهم جماعة من البسطاء المحدثين إلى أن طلع إمام الأشاعرة فادّعى في الفترات الأخيرة من حياته أنّه تاب من الاعتزال وصار من شيعة منهج أحمد بن حنبل، وأنّ مذهبه لا يفترق عنه قيد شعرة، فقام بتعديله وإصلاحه بشكل خاص خال عمّا يناقض عقول الناس، إلّا فيما شذ وندر. وليس مذهب الأشعري إلّا صورة معدلة من مذهب الحنابلة وأهل الحديث، فصار القول بالتشبيه والتجسيم الصريح متروكاً بعده إلى قرون.
ولكن العجب أنّ هذه البدع بعد إخمادها، أخذت تنتعش في أوائل القرن الثامن بيد أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحرّاني (المتوفّى عام 728 ه)، فجدّد ما اندرس من آثار تلك الطائفة المشبهة، وقد وصفه السبكي في السيف الصقيل: «بأنّه رجل جسور يقول بقيام الحوادث بذات الرب»، ولكنه يقول بأنكر من ذلك، وقد أتى بنفس ما ذكره الدارمي المجسّم في كتابه «غوث العباد» المطبوع بمصر عام 1351 ه في مطبعة الحلبي.
وعلى ذلك فابن تيمية إذن إمام المدافعين عن بيضة أهل التشبيه، وشيخ أهل التجسيم ممن سبقه من الكرامية وجهلة المحدّثين، الذين اهتموا بالحفظ المجرّد، وغفلوا عن الفهم والتفكير، ولأجل ذلك نرى أنّ الشيخ الحراني يرمي المفكّرين من المسلمين كإمام الحرمين، والغزالي، في كتابيه «منهاج السنّة والموافقة المطبوع على هامش الأوّل» بأنّهما أشدّ كفراً من اليهود والنصارى. مع أنّه (أي ابن تيمية) يعتنق عقائد يخالف جمهرة المسلمين وأئمّة أهل البيت عليهم السلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). قال أمير المؤمنين عليه السلام: «لو سكت من لا يعلم لرفع الاختلاف» لاحظ درر الحكم للآمدي.
(2). روى مسلم في صحيحه: ( 1 / 5 ) عن عائشة أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله أمرنا أن ننزل الناس منازلهم.
(3). البقرة: 189.
(4). سنن الترمذي: 5 / الباب 7، كتاب العلم، الحديث 2657 ; مسند أحمد: 2 / 225.
(5). لاحظ مقدمة الشيخ محمد زاهد الكوثري على كتاب الأسماء والصفات للبيهقي.
(6). ص: 29.
(7). الإسراء: 29.
(8). طه: 5.
(9). الأعراف: 54.
(10). الشورى: 11.
(11). مفاتيح الغيب: 8 / 388.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان