قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطهراني
عن الكاتب :
عُرف بين الناس باسم العلامة الطهراني، عارف وفيلسوف، ومؤلف موسوعي، من مؤلفاته: دورة المعارف، ودورة العلوم، توفي عن عمر يناهز الواحد والسبعين من العمر، سنة 1416 هـ.

منطق القرآن هو التوحيد الخالص (1)

قال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْ‏ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهيدٌ بَيْني‏ وبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ ومَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى‏ قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّني‏ بَري‏ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}.[1]

القرآن هو الوحي الصادر من الله تعالى إلى الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم الموجّه لجميع أفراد البشر: سواءً الذين كانوا في ذلك الزمان أو الذين جاؤوا من بعدهم وتمّ إبلاغهم به.

قل ـ يا أيّها الرسول ـ: إنّ الله تعالى أفضل شاهد بيني وبين الناس، ولقد أُوحي إليّ هذا القرآن لكي أُنذركم وأُنذر الذين بلغهم هذا القرآن من عذاب الله.

كما أنّ خاتم النبيّين قد بُعث لجميع الناس: سواءً الذين عاشوا في ذلك الزمان أو الذين جاؤوا بعد ذلك: {هُوَ الَّذي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ ويُزَكِّيهِمْ ويُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ والْحِكْمَةَ وإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ (أي: قبل أن يأتيهم هذا الرسول) لَفي‏ ضَلالٍ مُبينٍ ! وآخَرينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ (فإنّ هذا الرسول سيُعلّمهم الكتاب والحكمة ويُربّيهم ويتلو عليهم الآيات) وهُوَ الْعَزيزُ الْحَكيمُ}.[2]  

 

الدعوة إلى التوحيد

ونظراً لكون القرآن قائماً على أساس التوحيد، فإنّ جميع آياته جاءت لدعوة الناس إلى التوحيد والعروج بهم من عالم التشتّت والتفرقة إلى الوحدة والتجرّد. ومن الطبيعي حينئذٍ أن يرتقي الأُفق الفكري للناس من المستوى السافل لعبادة المادّة والشهوة في اتّجاه الأفق الواسع للإيثار والتقوى والطهارة، وهو ما تعنيه التزكية التي هي بمعنى الرشد والنموّ. والمراد: أنّ هذا النبيّ يهدي على الدوام إلى الله تعالى بواسطة تلاوة الآيات، فيكون المقصود من بيانه للدلائل والعلامات الإلهيّة هو الله تعالى. كما أنّه يقوم من خلال هذه الآيات بمساعدة الناس والأخذ بأيديهم في سبيل العروج الدائم بأرواحهم نحو الأعلى، وتنمية قواهم الروحيّة التي هزلت وضعفت وتكدّرت بسبب الانغمار في الأمور المادّيّة، واقتلاع أعشاب الغفلة والشهوة التي تُؤدّي إلى حرمان شجرة الروح الطيّبة من المواد الغذائية، وتطعيمها وسقيها بواسطة يد الشفقة، والتربية المستديمة لهذه الشجرة من خلال إشراق شمس التوحيد؛ لِتخرُج بذلك من حالة الخمول والكسل والضعف وتُنتج ثماراً نافعة وغزيرة. ويقوم أيضاً بتنوير أرواحهم وقلوبهم بالعلم والحكمة.. ذلك العلم وتلك الحكمة التي لا حدّ لها من الفيوضات الأبديّة والثمار السرمديّة. وخلاصة القول: أنّه يُخرجهم من الضلال والانحراف والعدم والخُبث والغيّ، ويجعل وجودهم ـ من خلال تعليمهم الآيات والحكمة ـ نافعاً واستفادتهم كبيرة وأرواحهم حيّة ومصابيحهم المحترقة والمنطفئة لامعة ومزهرة. إنّه يُخرج الإنسان من سجن النفس والهوى وجهنّم الاعتبارات والخيالات، ويُحلّق به إلى سماء الفضيلة والحقيقة، ويبدّل الخُبث بالطهارة.   

 

الشجرة الطيبّة والشجرة الخبيثة

كم هو لطيف وعذب ذلك التمثيل الذي يصف به الله تعالى في القرآن المجيد حال هاتين الطائفتين وأسلوب حياتهما من حيث ضيق الأُفق وسعة الفكر!

{وَأُدْخِلَ الَّذينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدينَ فيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فيها سَلامٌ ! أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وفَرْعُها فِي السَّماءِ ! تُؤْتي‏ أُكُلَها كُلَّ حينٍ بِإِذْنِ رَبِّها ويَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ! ومَثَلُ كَلِمَةٍ خَبيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ ! يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وفِي الْآخِرَةِ ويُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمينَ ويَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ ! أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ ! جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وبِئْسَ الْقَرارُ}.[3]

في تلك الجنّة لا تحيّة إلاّ السلام؛ فهناك الصفاء والمودّة والرأفة والحميّة والإيثار والتقوى والطهارة والتوحيد. وأمّا ذاك الذي لم ينقَد وأفسد قواه الروحيّة وضيّع النعم الإلهيّة ووضع حجاب الغفلة والشهوة والمجاز على عين الحقّ والبصيرة، وأورد نفسه وقومه موارد الهلاك والضلال، فحكمه كحكم تلك الشجرة الخبيثة التي انفصلت عن الأبديّة، وبقيت يابسة على الأرض دون أن تتّصل بالمبدأ، فما لها من قرار ولا ثبات، فصارت طُعمة لجهنّم والحريق. ومن الواضح أنّ مصير مثل هذه الشجرة هو النار، وأنّ مقرّها في ذلك المقام.

{يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وهُدىً ورَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنينَ ! قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}.[4]

 

دور القرآن في رقي الإنسان وهدايته

إنّ القرآن لموعظةٌ من المواعظ الإلهيّة بحقّ، وشفاء للأمراض الكامنة والمتراكمة في الصدور، وكتاب هداية وسبب لنزول الرحمة. وعلى المؤمن أن يسعى لمباشرة هذا الكتاب، وأن يكون مسروراً مبتهجاً ـ بفضل الله ورحمته ـ بتعلّم القرآن، لا بحطام الدنيا الذي هو من نصيب البهائم والجهّال. لقد بلغ المسلمون على إثر تعليم القرآن منزلةً يعجز العقل عن وصفها حقّاً، فببركة اتبّاع القرآن المجيد، استقرّت المحبّة والأُلفة بين قلوب تلك الجماعة من عبدة المادّة ـ المتعطشّين للدماء المفتقرين إلى الغيرة والعاطفة والإنصاف، والذين كانوا يدفنون بناتهم أحياءً ـ إلى درجةٍ يصعُب تصوّرها وإدراكها.

هناك رواية عن حذيفة عن هشام قال: أخذتُ إناءً في معركة بدر لأسقيَ أحد إخوتي في الله، وكان قد سقط في جانب من الميدان تشخب الدماء منه وهو على شفير الموت، فلمّا دنوتُ منه قال: ناول هذا الماء ذلك الرجل المجروح الساقط على الأرض هناك، فلمّا أخذتُه إليه قال: إنّ بدن أخي فلان في ذلك الجانب من الميدان مضرّج بالدماء: خذ الماء إليه؛ فهو أشدّ منّي ظمأً! وعندما أخذت الماء إليه، وجدتُه قد فارق الحياة. وحينما رجعت إلى الثاني لأُعطيه الماء، وجدتُه بدوره قد فارق الحياة. ولمـّا وصلت عند الأوّل، فارق الحياة هو أيضاً. كان قدح الماء القُراح في يده، لكنّ شهداء طريق الحقّ الثلاثة ماتوا مُؤثِرِين، يهدّهم العطش والجراح. ولقد كان هؤلاء جميعاً على أعتاب التوحيد، {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} فلقد اختمرت قلوبهم وضمائرهم وأرواحهم بهذه الآية.[5]  

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] ـ سورة الأنعام (6)، الآية 19.

[2] ـ سورة الجمعة (62)، الآية 2 و3.

[3] ـ سورة إبراهيم (14)، الآيات 23 إلى 29.

[4] ـ سورة يونس (10)، الآيتان 57 و58.

[5] ـ نور ملكوت القرآن، ج 3، ص 276.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد