منذ نزول القرآن، إلى وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله، نجد أن من سمع القرآن وتلاه وحفظه لم يكونوا بالعشرات، بل بالمئات، وحتى بناءً على روايات المدرسة الأخرى فيما حدث في معركة اليمامة، والإخبار بأن المسلمين فقدوا أو استُشهِدَ منهم ٧٠ حافظًا من حفظة القرآن الكريم، فهذا عدد من استشهد من حفظة القرآن، وليس كلهم، فليس كل من حضر المعركة استشهد، قسم من الحفّاظ لم يذهب للمعركة، وقد كانوا من الحفاظ أيضاً، فكان عدد حفاظ القرآن كبيرًا لاسيما مع تأكيد الرسول صلى الله عليه وآله على الحفظ والتلاوة[1]، ولذا نتعجب من القصة التي تذكرها مصادر مدرسة الخلفاء حول جمع القرآن.. وكأنما كان القرآن قد ضاع، واحتاجوا إلى النداء في الناس: من سمع آية من القرآن فليأت وليذكرها، ومن جاء بآية أو أكثر فليأت بشاهدين للتأكد من كلامه!!..
نعتقد في مدرسة أهل البيت أن القرآن وصل في كل عصر إلى أعلى درجات التواتر، فمئات في زمان رسول الله وما بعد زمانه قرأوا القرآن وحفظوا القرآن واهتموا به، وأخذه عنهم آلاف، وهكذا كلما ارتقينا في عصرٍ زاد العدد.. لذلك لو قال شخص أنا أروي القرآن وطريقي إليه بسند عن فلان عن فلان عن فلان، نجيب عليه بأن هذا ظلم للقرآن، لأن هذا الكلام يفتحُ باب التشكيك في القرآن الكريم. ويؤيد مقالة بعض المستشرقين الذين شككوا في سلامة وصول القرآن للمسلمين!
مهام أمير المؤمنين علي بعد وفاة رسول الله:
يتحدث الإمام علي عليه السلام عن قربه من رسول الله وانسجامه معه، وعن شدة اهتمام النبي به بما نقله الشريف الرضي في نهج البلاغة: (وقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وآله بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ والْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ، وَضَعَنِي فِي حِجْرِه وأَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِه، ويَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِه ويُمِسُّنِي جَسَدَه، ويُشِمُّنِي عَرْفَه، وكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيه، ومَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ ولَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ، ولَقَدْ قَرَنَ اللَّه بِه صلى الله عليه وآله مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِه، يَسْلُكُ بِه طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، ومَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَه ونَهَارَه، ولَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُه اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّه، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِه عَلَماً، ويَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِه، ولَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ، فَأَرَاه ولَا يَرَاه غَيْرِي، ولَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإِسْلَامِ، غَيْرَ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وآله وخَدِيجَةَ وأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ والرِّسَالَةِ وأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ، ولَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْه صلى الله عليه وآله فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّه مَا هَذِه الرَّنَّةُ، فَقَالَ هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِه، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وتَرَى مَا أَرَى، إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ ولَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ[2])
وفي ذلك الوقت المبكر لم يكن هناك زيد بن ثابت ولا غيره من أصحاب النبي الذين بدؤوا بكتابة الوحي بعد الهجرة غالبًا.. وحده الإمام علي عليه السلام كان من اليوم الأول للبعثة مع النبي وشهد تنزل القرآن منذ ذلك الوقت، ولعل هذه الجهة هي التي يشير إليها حديث الإمام محمد الباقر: (ما جَمَعَ من هذهِ الأمة أحدٌ القرآن غيرُ وصي مُحمد).
وفي نص آخر في تقرير هذه الحقيقة يقول الإمام علي عليه السلام (ما من آية في كتاب الله إلا وهي إملاء رسول الله وخط يدي)[3].
وبالنسبة لجمع القرآن، فقد كان مكتوبًا عند رسول الله صلى الله عليه وآله، ونسخته في بيت النبي، لكن حيث أنه ما دام النبي على قيد الحياة فإن القرآن الكريم لم يُختم بعد، ويُحتمل أن ينزل عليه الوحي بآية مثلاً. لذلك فإنه في آخر لحظات حياته صلى الله عليه وآله أوصى عليًّا عليه السلام أنه إذا قضيت نحبي، هذا المصحف خلف فراشي وهو في القراطيس والحرير والقماش وغير ذلك، فخذه واجمعه حتى لا يختلف المسلمون فيه كما اختلفت اليهود في التوراة، فجمعه عليّ كما أُنزل[4].
أخذ الإمام علي عليه السلام هذه القراطيس والجلود والأقمشة وذهب إلى بيته، وكان الناس قد انشغلوا في ذلك الوقت بقضية الخلافة والسقيفة، بينما أمير المؤمنين بقي في بيته وقام بمهمتين:
المهمة الأولى: توحيد كتابة هذا القرآن:
كل قسمٍ من القرآن الكريم كان مكتوبًا في شيء مختلف، بعضه على ورق وبعضه على قماش وجلد وغيرها، فقام أمير المؤمنين بتوحيد هذا المكتوب وكتبه في شيء واحد.. يعني وحد ما يكتب عليه.
المهمة الثانية: جمع القرآن كما أُنزل
جمعه الإمام عليّ كما أُنزل. بمعنى لم يكن فيه أي زيادة أو نقيصة، وفي بعض الروايات لم يُغادر ألِفًا ولا لامًا، أي حتى من الناحيةِ الإملائية والخطية. وأيضًا يحتمل أن يكون الإمام عليه السلام رتب السور بحسب نزولها التاريخي، يعني مثلاً أول ما بدأ بالترتيب كانت سورة العلق (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ - خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ)، فمن المعروف أن هذه السورة أو على الأقل آياتها الخمس الآوائل كانت أول ما نزل إيذانًا ببعثة رسول الله صلى الله عليه وآله، البعض يقول كل السورة والبعض الآخر يقتصر على الآيات الخمس الأوائل، وهذا له بحثه.
إذن إن أردنا ترتيب القرآن ترتيبًا تاريخيًّا، المفترض أن تكون هذه السورة هي الأولى. ثم نظر إلى السورة الأخرى التي نزلت بعدها في قضية رجوع النبي صلى الله عليه وآله إلى بيته وهي سورة المدثر (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)، فتكون هذه السورة هي الثانية، السورة الثالثة بحسب الترتيب سورة نون (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ)، تأتي بعدها سورة المزمل (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) وهكذا.
وإن ترتيب السور في هذا القرآن الموجود بين المسلمين ليس ترتيبًا توقيفيًّا، أي لا يوجد دليل على هذا الترتيب وإنما هو أمر تم التعارف عليه، وهو الترتيب الذي حصل في زمان الخليفة الثالث كما هو مشهور، ورُتب على أساس حجم السور، أولاً بدأوا بالسبع الطوال كما يسمونها، البقرة، آل عمران، النساء وهكذا، ثم بعدها تأتي الِمئون وهي السور التي آياتها حوالي المئة، ثم بعدها المفصل ثم قصار السور فالترتيب هنا كان على أساس كمي وعلى أساس عدد الآيات في كل سورة.
فائدة الترتيب التاريخي للقرآن الكريم:
هناك فرق بين أن يكون الترتيب في القرآن الكريم على أساس تاريخي أو أن يكون على أساس كمي، الترتيب التاريخي ينقل للإنسان تطور مرحلة الدعوة الإسلامية وحركة النبي صلى الله عليه وآله شيئاً فشيئاً، وكأنك تُرافق النبي صلى الله عليه وآله من الناحية التاريخية، وفي هذا الترتيب منافع عظيمة، ولذلك بعض علماء القرآن، حتى من مدرسة الخلفاء، يقولون إنه لو كان الأمر على طبق الرواية من أن عليًّا عليه السلام رتب القرآن كما أُنزل من الناحية التاريخية فإن فيه علمًا كثيرًا جدًّا وقد فات الناس.
لنأخذ على سبيل المثال لو كنت طبيبًا، وأتى إليك مريض، وكان بإمكانك أن تعرف تاريخ مرضه من ١٠ سنوات وأنه كان يعاني من كذا ثم بعدها بسنتين تطور الحال إلى شيء آخر، كطبيب ستكون الرؤية لديك واضحة من ناحية تطور المرض في هذا المريض. وهذا كما ينطبق على الأفراد ينطبق كذلك على المجتمعات.
وبالنسبة للرسالة والدعوة لو عرفنا تاريخ هذه السور، والآيات وكيف تماشت مع حركة النبي صلى الله عليه وآله سيكون لدينا رؤية واضحة ولكن ما حصل كان غير هذا...
ضمانات عدم تغيير القرآن الكريم:
هذا الاهتمام بالجمع من قِبَل رسول الله صلى الله عليه وآله وبمباشرة علي عليه السلام يتوافق مع مقتضى الاعتبار، في أنه لو أن النبي (لم يكتب لأنه مأمور بذلك) ولم يأمر بالكتابة فلم يجمع القرآن في زمانه لكان ذلك يُعد والعياذُ بالله تضييعًا لأهم قضية تربط الأمة وهو القرآن.
وأما بناءً على ما يراه الامامية فإن الله عز وجل أوحى، والنبي تلقّى الوحي وعلي وليس أي كاتب وإنما كاتب معصوم، وليس برواية غير مباشرة عن أحد وإنما من لصيق برسول الله من اليوم الأول للبعثة. سمع رنّة الشيطان في أول وحي، وبقي مع النبي إلى أخر لحظة عند رأسه، وكان في هذه المدة لا يُفارقه، وبين غيره، هذه ضمانة أكيدة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). مثلما روي عنه رسول الله: (اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه). وعنه (يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها). (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده). (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول (الم) حرف ولكن: ألف حرف ولام حرف، وميم حرف). (يجيء صاحب القرآن يوم القيامة، فيقول: يا رب حلّه، فيلبس تاج الكرامة. ثم يقول: يا رب زده فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه، فيقال اقرأ وارق ويزاد بكل آية حسنة). (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).
(2). نهج البلاغة 2/ 157
(3). تقدم ذكر مصدره
(4). كما ورد في خبر الإمام الصادق عليه السلام
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
المعروف والمنكر والأكثريّة الصّامتة
الإسلام ونظريّة الأخلاق
رؤية المدرسة الإماميّة في جمع القرآن
الشيخ عبدالكريم الحبيل: أخلاق فاطمة الزهراء عليها السلام
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (5)
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (4)
مقدّمات البحث
تأبين الشّيخ الحبيل للكاتب الشّيخ عباس البريهي
حاجتنا إلى النظام الإسلامي خاصّة
القرآن يأسر القلب والعقل