قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مصباح يزدي
عن الكاتب :
فيلسوف إسلامي شيعي، ولد في مدينة يزد في إيران عام 1935 م، كان عضو مجلس خبراء القيادة، وهو مؤسس مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحث العلمي، له مؤلفات و كتب عدیدة فی الفلسفة الإسلامیة والإلهیات والأخلاق والعقیدة الإسلامیة، توفي في الأول من شهر يناير عام 2021 م.

الرؤية القرآنية عن الحرب في ضوء النظام التكويني (2)

العوامل والشروط التي تدير الحرب

 

هنا يطرح سؤال آخر ينبغي الإجابة عنه أيضاً، وهو سؤال يتعلق بحجم الحرية ومساحتها التي يتحرك بها الإنسان ومديات الاختيار التي يمارس فيها إراقة الدماء والفساد والحرب والدمار. هل الله سبحانه يريد أن تستمر الحرب ويمضي الصراع الذي يقوده الإنسان إلى ما لا نهاية حتى لو أدى إلى نتائج مرة ونهايات كارثية توجب زوال الناس الصالحين أو توصل إلى انفراط عرى الحق واضمحلال العدل والقسط؟ ما هي النقطة التي تقف عندها حرية الإنسان وإرادته في الإفساد وسفك الدماء؟ وما هو الحد الذي تعجز فيه قدرة الإنسان عن ممارسة الظلم والبغي والخراب ولا يمكنه تجاوز ذلك؟ وهل تزول رغبته وشهوته في إراقة الدماء والفساد والحرب عندما يصل إلى ذلك الحد؟

 

ونجيب عن هذا بقولنا: علينا أولاً أن نقرأ آيات القرآن الكريم ونستنطقها، إذ أفادت أن الله تعالى إنما جعل الإنسان حرّاً من أجل أن يختار طريق حياته إما أن يتصاعد إلى الكمال والرقي أو يتسافل في السقوط والنزول، ولكن هذا الاختيار وهذه الحرية ليست مطلقة بحيث يمكنه أن يلغي أو يقضي عبر ذلك الاختيار على الهدف الأساسي والمقصود الأول من الخلق والإبداع.

 

لأن إعطاء الحرية التكوينية للإنسان أساساً إنما هو من أجل أن يتمكن من السير في طريق الكمال الإنساني، وضمن مسيرته هذه، فلو كانت حرية الإنسان واختياره سبباً ليسلك الناس جميعاً طريق الغواية والسقوط والحقارة والوضاعة، وأن يعتنق كل البشر الشرك والكفر، فهنا سينتقض الهدف من الخلق والإبداع وينتفي القصد منه.

 

من هنا إن الحكمة الإلهية لا تقتضي الحرية المطلقة والاختيار الدائم، الأمر الذي يفضي في نهاية الأمر إلى سيطرة المفسدين والظلمة على المجتمع البشري الربانية ويندثر الدين الإلهي، وبذلك لا يمكن لأي أحد السير على خطى الحق سيطرة تامة، على نحو تكون كل مفاصل الحياة وأحوالها وظروفها بأيديهم، فتنغلق سبل الخير وتسد منافذ العدل والصلاح، وفي النهاية ستضمحل التعاليم والعدل، بل سيقاد الناس عبر الطرق المظلمة والسبل الحالكة ويكون الظلم والجور هو سيد الموقف على المعمورة كلها.

 

إن الحكمة الإلهية اقتضت إلى هذا الوقت أن تكون الحرية نبراساً ينير طريق الحق لأتباعه ومريديه، من هنا كلما انتشر الفساد في المجتمع وضعفت قدرة المصلحين والمؤمنين فيه، الأمر الذي يؤدي إلى تلاشي حضورهم واضمحلال وجودهم، فإن الله تعالى سوف يصد الطغاة ويمنعهم من خلال جنوده وأساليبه الربانية الخاصة فيقضي على سيطرة الكفر والشرك في المجتمع وهيمنة المفسدين العريضة على المحسنين، حتى لا تمتلأ الأرض والدهور بالظلم والجور ولا تعلو كلمة الأعداء والمفسدين والظلمة والعصاة.

 

أسئلة أساسية

 

وهنا تطرح أسئلة أساسية، وهي:

 

كيف أن الله تعالى يتحكم بالحرب والفساد؟ وكيف يحيط ويحتوي وقائع الدمار والخراب في الحدود التي ذكرت؟ وكيف يمكنه كبح جماح الفساد عند الحد والمقدار والحجم الذي تقدم؟

 

ونحن نقول في معرض إجابتنا: إن الله سبحانه وتعالى يفعل ذلك على ثلاثة وجوه وضمن ثلاث وسائل للحيلولة والحد من تفاقم حجم الدمار ونمو الفساد في الأوساط الاجتماعية والمجاميع البشرية في الأرض ومن ثم يسيطر على الحرب والخراب.

 

فمرة يسخر الأسباب والسبل فوق الطبيعية كغضب السماء وبعض بلائها، فيزيل قوماً أو حزباً من رقعة الوجود، وأخرى يستخدم العوامل الطبيعية، والأسلوب الثالث هو كبح الظلم والجور والبغي والطغيان عن طريق توظيف العامل الإنساني، فيسخر الله تعالى الناس المؤمنين ويدعمهم ويؤيد المحسنين وعباده الصالحين ويأمرهم بدحر الكافرين والمفسدين والمنافقين وقهرهم، فيحاربونهم ويمنعون الحد والقدر الخطير الخارج عن الحد الطبيعي من ظلمهم وفسادهم.

 

ولكن على أية حال إن استعمال هذه الأساليب والطرق إنما يكون نهايته وعاقبته على نحو يتم فيها تأمين المصالح البشرية وتوفيرها، وعموماً تمضي وتدوم حياة الإنسان من خلال ذلك على أفضل وجه مع وفرة الخير والبركات.

 

إننا نظن في بعض الأحيان ونتوقع مثلاً أن الله تعالى لو نصر نبيه في حرب من الحروب مع الكفار والمشركين وخذل أعداءه وقهرهم، فستتحول الأرض إلى روضة من الزهور والرياحين وأن الكمال البشري سيسود العالم، مثل هذه التصورات نابعة من عدم الدقة والسذاجة في التفكير والبساطة في تمييز الأمور.

 

ففي هذه الحسابات نغفل عن حقيقة مهمة وهي أن وجود هؤلاء الناس الأشرار وبقاءهم قد يوفر آلاف التبعات والآثار الإيجابية، ويحصل جراء بقائهم وبسبب وجودهم فوائد جمة في الأقل، فإن هؤلاء يحملون في أصلابهم ذرية طيبة وسوف يلدون أشخاصاً حسني السيرة أيضاً، كذلك فإن الله تعالى يجعل من هؤلاء الكفار والمشركين أداةً ونقطة لاختبار المؤمنين والصالحين به.

 

وفي النهاية إن صبرهم وجلادتهم في مقابل المشقة والتعب والإرهاق الذي يحصل جراء مكافحة هؤلاء، والحد من انتشار رؤيتهم المضلة سيبلغهم الكمال، وسيتسامون في المراتب الإنسانية العالية ودرجات القرب الإلهي، وعليه لو لم يكن المفسدون الظالمون والمنكرون للحق ولم يقع الصراع والحرب لانتفى ميدان التمحيص ومسرح الاختبار ولم يحصل المؤمنون والصلحاء على تلك الكمالات والدرجات العليا، فلا ينبغي التعاطي مع هذه المسألة بنظرة فوقية أو قراءتها على أنها عديمة الأهمية.

 

مقتضى حكمة الله في الخلق

 

إن حكمة الخلق اقتضت أن الشرور والمفاسد مازالت تحتوي على أشياء إيجابية نافعة، فستكون موجودة قلت أو كثرت، مادامت لم تغلق طريق الحق تماماً وتعطل العدل والقسط بنحو مطبق.

 

أجل عندما يستفحل الظلم والفساد على نحو يعجز طلاب الحق ومريدو الكمال من اكتشاف طريق حياتهم الصحيح ولم يتمكنوا من معرفة الحق بنحو جلي، هنا تتدخل القدرة الإلهية في دحض هؤلاء وتعيق قدمهم في نشر الظلم والفساد وتحد من شيوعه.

 

الاستنتاج

 

إن هناك آيات قرآنية ذكرت أن الله تعالى خلق الإنسان وأعطاه الحرية والقابلية في اختيار الحرب وعدمها ولم يجبره عليها، وإن من بين هؤلاء البشر الذين عدهم الملائكة ظالمين عاصين من ستكون منزلته ومقامه أسمى وأرفع من الملائكة وهو أحق بالخلافة منهم في الأرض.

 

إن الآيات القرآنية تدل بوضوح على أن وقوع الحرب أمر معلوم، وبيّنه الله تعالى في نظام الخلق الرباني، وأن الله تعالى لو أراد أن يخلق الإنسان ويجعل تفاصيل حياته بعيدة عن كل ألوان الحرب والقتال وسفك الدماء لأمكنه، ولكنه لم يرد أن يكون الإنسان مجبوراً على ترك القتال، ويكون مرغماً على أن يسود حياته الهدوء والراحة فقط. ثم إن هذا الاختيار والحرية والإرادة تزيد الإنسان وتسمو به في مضمار التكامل والرقي المعنوي.

 

وعليه إن حرية الإنسان واختياره عين كونها سبيلاً لرقيه وكماله فهي في الوقت نفسه يمكن أن تُسخّر لممارسة مجموعة من الشرور والجرائم، وكما أن لاختياره الدور الكبير في بلوغه منزلة الخلافة الربانية، فهو أيضاً يمكن أن يساعده على الهبوط إلى أسفل درجة من الانحطاط والخزي. إن وقوع الحرب في نظام الخلق والتكوين مقصود لله تعالى، وإن إرادته تعلقت بذلك.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد