الأصل الخامس: دور الحرب في التنبيه والتأديب
القانون التكويني الحاكم على الحرب هو نظام التأديب والتنبيه، إذ تقتضي الحكمة الربانيّة أن تكون الحرب في بعض الأحيان لتأديب فئة من المؤمنين المضطرين لفعل مجموعة من الأخطاء والمعاصي وتقريعهم، وهذه الحرب قد تفضي إلى هزيمة المؤمنين، وربما تكون هزيمتهم على مجموعة أخرى من المؤمنين الصلحاء، ولكن كيف كانت نتيجة الحرب؟
كثير من المؤمنين وأهل الدين لا يقصدون العناد والتمرّد على الله والاستكبار على سلطته وأحكامه؛ ولكن بسبب تأثير الهوى وتحت ضغط الميول النفسية ووساوس الشيطان ينحرفون عن الجادة والطريق المستقيم، فيسلكون سبيل الظلم والفساد، هؤلاء وأمثالهم لا ينكرون وجود الله وليسوا أعداء للدين؛ ولكن بسبب تأثير الرغبات أحياناً والميول النفسية انحرفوا عن التعاليم الدينية وضوابطها، ولم يعملوا في ضوء الأحكام والأوامر التي يجب ويلزم أن يكون الفعل في ضوئها.
بل إنهم وبصورة وزمن محدود ومؤقت ابتلوا بالضيق والعسر ومجموعة من المصائب، فلما أرادوا الخروج من تلك البلايا والمحن وقعوا في شراك الأعمال القبيحة والمخالفات السيئة، ولكن عقوبة مثل هذه لا تحصل على أيدي المؤمنين الطاهرين الخلص ليحاربوا هؤلاء المؤمنين الذين طرأ عليهم النقص وتلوثوا ببعض المعاصي؛ ذلك لأن المؤمنين الذين بلغوا هذه الدرجة من الطهارة والنقاء لا يمكن أن تتلوّث أيديهم بالدماء، ولا يصدر عنهم الأذى والضرر من هنا إن إجراء هذه العقوبة على هؤلاء الأفراد.
إما أن يكون بأيدي فئة مؤمنة أخرى لم يكتمل إيمانها بعد، وتلوثت نفوسها ببعض المعاصي، أو بأيدي الكفار وغير المؤمنين، فإنهم مملوؤون حقداً وعداوة، ويسعون في أذى المؤمنين وظلمهم، وهم مهووسون بقهر الصلحاء من الناس وتعذيبهم؛ ووقتئذ سوف تتسع الهوة بينهم وبين الإنابة والتوبة والرجوع إلى الصواب.
والحاصل هو أن تأديب الأشخاص من ضعفاء الإيمان، وتقريع ذوي الأعمال القبيحة هو أيضاً أحد القوانين التكوينية الأخرى الحاكمة على وقوع الحرب وظهورها، رغم أن هذا القانون غير قابل للتبرير والتوضيح أبداً من وجهة نظر فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع المادي في العصر الحاضر، لأن مثل هذه المدارس تنكر هذا القانون أساساً.
الأصل السادس: جدوى الحرب لدى المجاهدين
إن الجهاد في سبيل الله غالباً ما يرافق البؤس والعناء والألم، إلا أن هذا العمل والفعل لا يخلو عموماً من فوائد ومنافع أيضاً، تقول الآية حكاية عن ذلك: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[1].
الجملة الأولى من هذه الآية تبيّن القانون التشريعي المتعلق بالحرب وهو ليس موضوع بحثنا الآن، ما تبقى من الآية هو موضوع بحثنا وهو تبيين أحد القوانين التكوينية الأخرى المتعلقة بالحرب، ففي هذه الآية هناك جملة: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ)، تدل على أن الحرب والنزال غالباً ما يصاحب القتل، والضرب والجرح، والإصابة، والأسر، والضياع، والتشرد، والشكل، والدمار، والخراب والقحط، وعشرات المحن والبلايا.
أجل فهي ظاهرة مرة بالغة الإزعاج وليست من طبع الإنسان وسليقته ولكن الجملة الآتية في الآية: (وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ)، تشير إلى هذه الحقيقة وهي أنه رغم الصعاب والمحن التي ترافق هذه الظاهرة فإن هناك فوائد وأموراً إيجابية كثيرة إلى جانبها أيضاً، والتي لا ينبغي التغافل عنها، وهذه الفوائد والحسنات هي التي يمكن أن تبرر وقوع الحرب والصراع في العالم.
فوائد الحروب وحسناتها
وتجدر الإشارة هنا إلى بعض فوائد تلك الحروب وحسناتها وهي على النحو الآتي:
١ـ إيجاد النشاط والحيوية والحيلولة دون الجمود والاسترخاء والكسل
من جملة نتائج الجهاد في سبيل الله هو أن الله سبحانه وتعالى يريد بمثل هذه الحروب تخليص الناس من الكسل وتحريرهم من الجمود والاسترخاء، ويقصد من ذلك أن يتفاعل الإنسان بنشاط وحيوية وكامل الطاقة مع الحوادث والوقائع التي تدور حوله، إذ من الطبيعي أن الإنسان وعلى مدى فترة طويلة لو كان ينعم بالراحة والرفاه، والأمان والهدوء والسكون، فإنه ينحدر إلى الخمول، ويعتاد على الكسل والاسترخاء، وبالنتيجة يتثاقل عن الحركة ويتوقف عن النشاط.
ومن جهة أخرى إن روح القتال والمقاومة والمجابهة تصبح ضعيفة لديه، فالحرب تخرج المجتمع من الكسل وتنأى به عن الخمول والاسترخاء، من هنا إن أفراد المجتمع يشعرون عندما تدور رحى الحرب أن كل شيء من حولهم في خطر، فتستيقظ كل القوى الخاملة والنائمة فيهم، وتنشط كل الطاقات الثملة لديهم، إن الحرب تقذف في نفس الإنسان الحماس، والإقدام، والمنافسة، والصلابة والاستقامة، وترفع درجة النشاط إلى مستوى أكبر.
من هنا إن الحرب في مثل هذه الأحوال يكون حكمها حكم اللقاح فيما يخص لبدن الإنسان عندما يعيد له النشاط والجاهزية مرة أخرى، ويعبئ القوى الداخلية في مواجهة غارات واجتياح الفايروسات والميكروبات إلى جسمه.
٢ـ رفع الإحساس بالنقص والفاقة
الثمرة الأساسية الأخرى من ثمار الجهاد هو انتباه المجتمع وإحساسه بالحاجة والفقر الموجود في شرائحه، وهذا الشعور يدفع أفراده إلى النهضة والاجتهاد في إزالة ذلك النقص، ويسعون لتأمين الحاجة، وملء الحلقات المفقودة من الفاقة لديهم. وعندما تقدم أمة من الأمم لأي سبب كان على الحرب مع الأجنبي والعدو وبالطبع فإنها أيضاً ستكون بحاجة للحرب جراء إحساس أفراده بضرورة البقاء على قيد الحياة، فإن تلك الأمة ستبادر تدريجاً إلى مكامن النقص، ومواطن الاحتياج المنتشرة في مفاصل الدولة، وعند تشخيصها تسعى بكل طاقتها إلى رفع النقص الحاصل، ولو قلبنا صفحات التاريخ لوجدنا أن نسبة مئوية غير قليلة من الاكتشافات والاختراعات في الفن والصناعة بدأت وتبلورت إبان وقوع الحرب والمعارك.
٣ـ ترويج الإسلام وزيادة عدد المسلمين
من ثمار الحرب الأخرى هي أن السعي والإيثار والتضحية والتفاني الذي يبرزه المؤمنون والمجاهدون والمضحون لاسيما عندما ينتصرون في المعارك على أعدائهم – سوف تتحقق لهم الشهرة، وسيتعرف الناس عليهم في الأرض أكثر، ويشعر من يرافقهم بصدق دينهم ويفهم أهدافهم، ومقاصدهم، وعقائدهم.
وبعد أن يستوعب المجتمع والناس البواعث والدواعي الإنسانية والإلهية لدى المؤمنين سوف يدفعهم ذلك إلى المشاركة في إدارة الحرب، والمساهمة في القتال ودفع نفقاتها، وتحمل الخسائر التي تنشب جراءها، الأمر الذي سيثير فيهم روح اعتناق الإسلام وعبادة الله، يعني أن أولئك المؤمنين عندما حازوا على القدرة في الهجوم والغارة على العدو جعل ذلك الأمر لهم مكانة لامعة، وكسبوا درجة ممتازة بين الناس، وأتاحت لهم الحرب أيضاً تبليغ الدين الحق وإذاعته.
الأصل السابع: الحرب وسيلة للاختبار والتطور
إن المؤمنين الموحدين عندما يتحملون عناء المعارك، ومرارة القتال فإنهم بذلك يرتقون درجات الكمال المعنوي والروحي، وهي من الأمور والفوائد الحسنة الأخرى للحرب، وفي إثر ذلك جعلها الله تبارك وتعالى وفي ضوء إرادته الحكيمة تلك الحسنة والفائدة ولحظها في النظام التكويني والتعاليم التشريعية لحياة الإنسان.
فيمكن القول هنا: إن ساحة المعركة والحرب بنحو عام هي أفضل مكان يمكن من خلاله أن يصل الإنسان إلى الهدف الأساسي من خلقته وتكوينه، والدنو من الكمال النهائي، ومعنى الهدف الحقيقي من خلقة الإنسان هو بلوغه الكمالات المعنوية والروحية كلما تسامى في المسير إلى قرب الله، فلو أراد المرء السير والسلوك نحو الله والقرب الإلهي فإن الوقت الوحيد الذي يمكن فيه الوصول إلى مراده ومقصوده هو تحمل الصعاب والنوائب والمحن والنكبات وتجرع كثيراً من المشاكل والشعور الحرمان.
إن الوصول إلى الكمال المعنوي، والنمو الروحي يتحقق في صورة واحدة فقط، وهي أن يخالف الإنسان هوى نفسه، ويقف أمام أهوائها ورغباتها، ويركن بإخلاص محض إلى الأوامر الإلهية والقوانين الربانية، وهذا الأمر يحتاج إلى صبر واستقامة، إن الإنسان الذي يمكن أن يبلغ الدرجات العالية من الكمال هو الذي لا يقع ضحية غرائزه، ولا تكبله الميول الشهوانية، ويتحقق ذلك فقط عندما يكون ذلك مرضياً الله تعالى، حتى لو خالف هوى نفسه مئة بالمئة.
الأصل الثامن: الانتصار النهائي للحق
إن نهاية حياة الإنسان وخاتمتها، وصراعاتها، وكفاحها الإنساني ستكون هي الانتصار النهائي الذي يختم هذه المسيرة للحق والحقيقة وسيستولي عباد الله والصالحون على كل العالم.
إن الله تعالى يعطي المؤمنين الصالحين والمجاهدين في سبيل الله الحرية والإرادة في العمل والاختيار، ويعطي المخالفين والأعداء ذلك أيضاً، وكل واحد من الفريقين يحظى بالأرضية المناسبة للنشاط والفعالية، ويمد كل واحدة من المجموعتين بالعدة والعدد، والأسباب والأدوات الكافية، لكنه سبحانه يعتني بالفرقة الأولى المجاهدة والمقاتلة في سبيل الله عناية خاصة، وفي معرض تأييده ونصره لهؤلاء سينالون في النهاية النصر الحقيقي.
وهذا النصر ليس دون حساب أو تدبير وليس دون ضوابط وشروط خاصة بذلك النصر، وكيفما كان الأمر فإن الحكمة الإلهية له تعالى اقتضت النصر النهائي لأهل الحق من عباد الله الصالحين في تلك الحرب، وفي هذا السياق آيات عديدة وردت في القرآن، منها: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)[2].
ويستفاد من مجموع الآيات القرآنية أن عاقبة الحرب والقتال الحاصل بين أهل الحق وأهل الباطل ستكون النصر النهائي لأهل الحق والحقيقة، وسيكون الفوز والظفر حليف الدين الإسلامي، وأنصاره الحقيقيين أيضاً، وفي ضوء ما يعتقد به الشيعة فإن النصر النهائي والتام لدين الإسلام سيتحقق على يد أمام العصر والزمان، وفي نهاية التاريخ سيكون العالم من أوله إلى آخره تحت راية الحق والعدل الخفاقة، وهي الراية التي سيرفعها.
الاستنتاج
إن من الأصول الحاكمة على الحرب من وجهة نظر القرآن هي: حرية الإنسان واختياره في الحرب، والتقسيم النسبي للقدرة والسلطة، والحيلولة دون ظهور السلطة المطلقة الباطلة، ونزول العذاب، والتنبيه والتأديب، وإن الحرب لا تخلو عموماً من فوائد ومنافع، وإنها وسيلة للاختبار والتطور، والانتصار النهائي للحق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] البقرة، ٢١٦.
[2] آل عمران، ۱۳۹.
السيد عباس نور الدين
الشيخ محمد مصباح يزدي
عدنان الحاجي
الشيخ محمد الريشهري
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ مرتضى الباشا
الشيخ محمد جواد مغنية
الشيخ محمد مهدي الآصفي
الدكتور محمد حسين علي الصغير
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
ما الذي ينبغي أن نفعله لجعل مجتمعنا إسلاميًّا بالكامل
أقسام الحرب وأنواعها الواردة في القرآن الكريم (1)
المركز الأوّل لحسين آل هاشم في مسابقة فوتوغرافيّة في مصر
مجموعة عصبونات في جذع الدماغ مسؤولة عن الشهية للملح
لقمان الحكيم (3)
لقمان الحكيم (2)
خطورة ذياع صيت الإنسان بين الناس واشتهاره بينهم
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ
هل الكون كسوريّ؟
الشيخ عبد الكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (10)