قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مصباح يزدي
عن الكاتب :
فيلسوف إسلامي شيعي، ولد في مدينة يزد في إيران عام 1935 م، كان عضو مجلس خبراء القيادة، وهو مؤسس مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحث العلمي، له مؤلفات و كتب عدیدة فی الفلسفة الإسلامیة والإلهیات والأخلاق والعقیدة الإسلامیة، توفي في الأول من شهر يناير عام 2021 م.

أقسام الحرب وأنواعها الواردة في القرآن الكريم (2)

خامساً: الأقسام الثمانية للجهاد في القرآن

 

ذكرنا أن (الجهاد في سبيل الله) لا يختص بمحاربة طائفة معينة، ولا ينحصر في القتال والجهاد الدفاعي فحسب ولبيان رؤيتنا هذه ينبغي عرض الأقسام المختلقة للحرب الإسلامية في القرآن، وتعدد أنواع القتال المبرر في الإسلام.

 

1ـ الحرب تجاه المشركين

 

يقول الله تعالى في إحدى الآيات القرآنية لبيان هذا النوع من القتال مخاطباً المسلمين: (وَقَاتِلُواْ المُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ). [1].

 

2ـ الحرب تجاه الكفار

 

وهذا النوع من القتال ذكر في آيات عديدة من القرآن ومن جملتها ما يقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ). [2]. ويقول سبحانه في آية أخرى: (فَلَا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا). [3].

 

3ـ الحرب تجاه أهل الكتاب

 

وقد جاءت آيات عديدة أيضاً تعرضت إلى قتال أهل الكتاب منها قوله: (قَاتِلُواْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِاليَوْمِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ). [4].

 

في ما يتعلق بهذه الآية هناك نقاشات وبحوث مختلفة، من جملتها هذا الأسئلة وهي: هل الآية تشير إلى فريقين أم هل تشير إلى فريق واحد؟ وإن الله يحفز المسلمين ويرغبهم في قتال الفريقين معاً بخصوصيتين منفصلتين أم يريد منهم محاربة فريق واحد أو قتال فريق واحد له هذه الخصوصيات المتباينة؟

 

فهل المسلمون مكلفون بقتال أولئك الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يكفون أنفسهم عما حرم الله تعالى ونبيه الكريم و قتال فريق من أهل الكتاب الذين لا يتبعون دين الحق أيضاً؟ أو واجبهم فقط هو محاربة فريق من أهل الكتاب الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يكفون أنفسهم عن المحرمات الشرعية والإلهية ولا يتبعون دين الحق؟ وجواب هذه الأسئلة سيتعلق بطبيعة تفسيرنا الجمل الآية الكريمة ومقاطعها.

 

إن أحد الآراء هو أن جملة: (الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِاليَوْمِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ)، الموجودة في هذه الآية تشير إلى مجموعة واحدة، وجملة: (وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الكِتَابَ) ناظرة إلى فريق آخر ومجموعة أخرى، والرأي الآخر هو أن هذه الآية من أولها إلى آخرها ورغم اختلاف جملها وتباين مقاطعها تشير إلى مجموعة واحدة فقط.

 

فتبين أننا لو أخذنا بالرأي الأول تكون الآية ناظرة إلى الكفار، وإلى المشركين، وإلى فريق أهل الكتاب أيضاً، ولكن لو أخذنا بالرأي الثاني فإن الآية ستكون ناظرة إلى فريق من أهل الكتاب فقط.

 

4ـ الحرب تجاه المنافقين

 

إن الحرب مع المنافقين وقتالهم لون آخر من ألوان الحروب التي خاضها المسملون في زمن النبي (ص)، والتي ركز عليها القرآن، إذ يقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ). [5].

 

فضلاً عن جهاد الكفار فإنّ الله سبحانه يأمر في هذه الآية بمجاهدة المنافقين أيضاً، ويوصي نبيه أن يتعاطى معهم بقوة وحزم ولا يتعامل معهم باللين والمرونة، وغض الطرف أو السلم والتجاوز عن أخطائهم.

 

وفي بعض الآيات يعاتب الله المسلمين ويلومهم على اختلافهم في المنافقين وقتالهم، ويعيب عليهم اختلاف كلمتهم في محاربتهم، وتقريع من يمتنع من المسلمين عن مقارعة هؤلاء والجهاد ضدهم.

 

قال تعالى: (فَمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلَاً). [6].

 

ثم إن الله تعالى ينبئ المؤمنين بأن هؤلاء المنافقين لن يكتفوا بنفاقهم السري وكفرهم الباطني فحسب، بل لديهم رغبة جامحة بأن تكفروا كما كفروا هم وسلكوا سبيل الضلال، ليكون الجميع متساوين في الكفر، فهؤلاء لا يرتضون دين المسلمين ونهجهم، ولا يرغبون في الاتحاد والانسجام معهم، ولا يتمنون أن يكونوا في خندق واحد إلى جنبهم تحت راية الإسلام؛ ليكون المحور والقطب الذي يلجأ إليه الجميع، من هنا كانوا يسعون إلى إلحاق المسلمين بالكفر والزندقة والإلحاد.

 

قال تعالى: (وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلَا تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا). [7].

 

ورغم أن المنافقين يظهرون الإسلام ويقولون به لكنهم لم يرافقوا المؤمنين والمسلمين الواقعيين ولم يهاجروا معهم من مكة إلى المدينة، وكانوا يقصدون من ذلك البقاء على التل، ولم يُعرفوا مع أي طرف هم عند اندلاع الحرب بين المسلمين والمشركين حتى إذا ألقت الحرب أوزارها بانتصار المسلمين أو بهزيمتهم فإنهم قد نأوا بأنفسهم عن كلفة الحرب وخسائرها، وبعد الحرب يمكنهم من خلال الوقوف إلى جانب المنتصر الانتفاع والإفادة من ذلك، وهذا الأسلوب العام سياسي بامتياز، وفيه كثير من الدجل والمراوغة والدهاء، فمثل هؤلاء لا يكشفون عن موقفهم الصريح، ولا يعلنون عنه حتى يستطيعوا ركب الموج، ولا يتأخرون تحت أي ظرف من الظروف عن القافلة السائرة.

 

وكيفما كان الأمر؛ فإن الله تعالى وفي مقابل هذا الخداع، وهذه الحيل التي يمارسها المنافقون؛ يكلف المسلمين بأن يجعلوهم على المحك، ويمتحنوهم حتى تتبين صحة ما يدعيه هؤلاء من الإسلام أو من كذبه، وأحد مصاديق هذا الاختبار استسلامهم للهجرة مع المسلمين إلى المدينة وإذعانهم لها، إذ ذكر الله تعالى في هذه الآية مخاطباً المسلمين: إنهم لو هاجروا معكم إلى المدينة رافقوهم وصاحبوهم، وإلا فلا تفعلوا ذلك أبداً، بل تعاملوا معهم بحزم وقوة وغلظة، وعلى كل حال إن الله تعالى يحذر المسلمين من أن ينخدعوا بالحيل المكشوفة لهؤلاء الانتهازيين، وما لم يأتوا إلى طريق الصواب بصدق وإخلاص، ولم يطمئنوا لكلامهم وحديثهم عليهم أن لا يعتمدوا عليهم ولا يحبوهم ولا يخالطوهم.

 

5ـ جهاد أهل البغي

 

وهذا نوع آخر من الحروب الإسلامية جاء في الآيات القرآنية أيضاً، قال تعالى: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ). [8].

 

إن الجملة الأولى من هذه الآية تفترض أن فريقين من المؤمنين قد نشب بينهم الصراع والقتال، ومن الطبيعي في هذا الفرض إما ان يكون الفريقان كلاهما أو أحدهما قد غلب عليه هوى النفس، وانتصرت عليه قواه الشيطانية، أو أصابه الطمع والكبر، أو يكون الفريقان قد أخطاً جراء سوء تفاهم قد حل بينهما، ذلك لأنه في غير هذه الصور التي ذكرت لا يمكن أن نتصور فريقين من المؤمنين يقصد كل واحد منهما أن يقتل الآخر، ويزعزع الأمن والأمان الذي ينعم فيه الطرف الآخر، فلو وقعت مثل هذه الحرب وتحقق هذا الفرض، وجب على سائر المسلمين أن ينهوا هذه الحرب، ويقطعوا ديمومتها، وأن يحلوا بدل ذلك الصلح والسلام بين الفريقين.

 

ومن ثم إن هذه الآية تحتوي على فرض آخر وهو أن يعتدي أحد الفريقين على الفريق الآخر، أي أن يقوم أحد الفريقين علناً وبوضوح بالتعدي على الفريق الآخر وظلمه واغتصاب حقوقه، ومن الطبيعي أن يكون رد فعل الفريق الآخر هو مواجهة هذا التجاوز والتعدي الذي وقع حيفه عليه، ذلك لأن هجوم الفريق الأول وغارته غير مبررة، وغير صحيحة وظالمة، والحرب والمواجهة التي قام بها الفريق الآخر صحيحة وحقة، لماذا؟

 

لأن الفريق الأول هو من قام بالاعتداء والفريق الآخر دافع عن نفسه، وفي ضوء استعمالات الفقه الإسلامي إن الفريق الأول (باغ)؛ وواجب المسلمين هنا ليس هو الصلح وزرع السلام بين الفريقين، بل إن تكليفهم هنا هو قتال الفريق الباغي حتى يكف عن بغيه وتجاوزه، ويخضع للحق، وينزل لحكم الله وأمره، وأما لو كف المتجاوز والمعتدي عن اعتدائه وتجاوزه لأي علة كانت واهتدى إلى سبيل الحق وخضع لأمر الله، هنا وفي هذه الصورة يجب على المسلمين إصلاح ذات البين وبسط العدل والإنصاف والسلام بينهما.

 

وعليه نفهم من هذه الآية أن القتال المشروع لا يختص بالكفار سواء الكفار الظاهريين كالمشركين وأهل الكتاب، أو الكفار الباطنيين وهم المنافقون – بل يشمل قتال المسلمين الباغين أو أهل البغي أيضاً.

 

6ـ الجهاد من أجل خلاص المستضعفين

 

من أقسام الحرب هو الجهاد لتخليص المؤمنين المستضعفين وغير القادرين على الإفلات من العدو وإنقاذهم، ويطلق على هذا النوع من الحرب الحرب من أجل خلاص المستضعفين، فقد يعيش بعض المسلمين في بعض الدول غير الإسلامية في ظلم وتجاوز؛ ولكونهم أقلية، أو لأن القوة والقدرة كانتا بيد الكفار والمنافقين، أو لغيرها من الأسباب كانوا لا يستطيعون رد هذا الاعتداء والظلم ومواجهته.

 

من جهة أخرى لا تتيح لهم الظروف والأوضاع الخروج من تلك البلاد والهجرة إلى دار الإسلام والسفر إلى إحدى الدول الإسلامية والعيش جنباً إلى جنب مع المسلمين، ففي مثل هذه الحالة أيضاً يجب على سائر المسلمين مساعدة أولئك المسلمين والمؤمنين المستضعفين قدر الإمكان والإسراع لإنقاذهم، ويلزمهم محاربة الظالمين والغاصبين لحقوق الناس، وتهيئة الظروف والفرص المناسبة التي تساعد في تخليص إخوتهم المسلمين من الظلم والأسر الذي هم فيه، وقد أشار القرآن إلى هذا النوع من الجهاد بقوله: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا). [9].

 

7 و 8 ـ الدفاع والمقابلة بالمثل

 

الجهاد الدفاعي، والجهاد القصاصي وهذان النوعان من الحرب والقتال لا يختصان بطائفة وفريق معين، بل إن المسلمين مكلفون بمقاتلة أي شخص، أو فريق أو مجموعة يكفّر ويقصد ممارسة أي لون من ألوان الاعتداء والظلم على المسلمين؛ سواء كان ذلك الاعتداء يتعلق بالمقدسات الدينية، أم التجاوز على العرض والشرف والنفس والمال ونحو ذلك، فعليهم هنا أن يوقفوا العدو عند حدوده، ويجبروه على الكف عن مثل هذه الأعمال، هذا اللون من القتال والجهاد يسمى بحرب الدفاع أو الجهاد الدفاعي.

 

والمسلمون مكلفون أيضاً بمواجهة كل فرد أو طائفة اعتدت على المسلمين أو اغتصبت حقوقهم، وهذا النوع من قتال المسلمين هو نوع من أنواع القصاص والمقابلة بالمثل.

 

الاستنتاج

 

إن القرآن تعرض لثلاث حروب خاضها النبي (ص) في حياته، وأطلق على الحرب الحق العادلة عنوان الجهاد في سبيل الله، وعلى حرب الباطل الظالمة عنوان القتال في سبيل الطاغوت، ثم قسم الحرب إلى ثمانية أقسام، منها: الحرب تجاه المشركين والكفار وأهل الكتاب والمنافقين وأهل البغي، والدفاع والمقابلة بالمثل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] التوبة، 36.

[2] التوبة، 123.

[3] الفرقان، 52.

[4] التوبة، 29.

[5] التوبة، 73.

[6] النساء، 88.

[7] النساء، 89.

[8] الحجرات، 9.

[9] النساء، 75.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد