قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة : 275] .
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا} أصل الربا الزيادة واشتهر استعماله في خصوص الزيادة التي تؤخذ في معاوضة بعض النوع بمثله من المكيل والموزون سواء كان ذلك في معاملة أو قرض. وحرمته في الجملة معلومة من الكتاب والسنة وإجماع المسلمين بل لا يبعد كونها من ضروريات الشريعة وإن خفي بعض مصاديقه عن بعض الناس كما في بعض المعاملات الربوية.
والمراد من الربا أخذه وانتزاعه من مالكه كما في قوله تعالى في السورة {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ} [البقرة : 188] وفي سورة النساء {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء : 29] {لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ} الخبط هو الضرب على غير استواء وضرب الشجر ليتناثر منه الورق. وخبطت الشجر أسقطت منه الورق. واسم الورق المتساقط من الشجر خبط بفتح الخاء والباء. والظاهر أن تخبطه مثل تزوجها وتبناه اتخذه خبطًا أي جعله كالخبط في تتابع سقوطه بسبب مسه له .
في مجمع البيان من رواية الجمهور وفي تفسير القمي من رواياتنا أن رسول اللّه أري حال هؤلاء ليلة أسري به إلى السماء. وفي روايات الدر المنثور عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وابن عباس وابن مسعود وانس وابن سلام، لا يقوم يوم القيامة إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان.
وبذلك فسره مجمع البيان وهو ظاهر المقام وفي التبيان كأنه نسبه إلى القيل {ذلِكَ} أي حالهم في القيام المذكور {بِأَنَّهُمْ} أي عقوبة بسبب أنهم {قالُوا} في باطل قياسهم وغلط اعتراضهم على الشريعة وحكمتها {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} في أنه يكون في تعاطيه ربح وتكون المالية في أحد العوضين أكثر منها في الآخر مع أن البيع متداول بين الناس وقد غلطوا في قياسهم فإن اللّه جل شأنه قد أجرى أحكام شريعته على الحكم وكثيرًا ما يظهر وجهها {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} لقيامه بنظام الاجتماع ومصلحة المدنية في تبادل المنفعة بأعيان الأموال ووجوه الحاجة إلى خصوصياتها مع ابتنائه على العدل في تساوي العوضين في المالية بحسب الاعتبار عند المبايعة، وإنما تحصل الزيادة اتفاقًا بحسب اختلاف الرغبة أو الزمان أو المكان {وَحَرَّمَ الرِّبا} لابتنائه من أول الأمر على الزيادة في العين وماليتها وعلى الإجحاف والإخلال بحسن الاجتماع بالمعروف للمفاسد وسد باب الإحسان والمعاونة.
{فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} الموعظة التذكير والتخويف من عقاب اللّه على معصيته ومخالفة نهيه عن الربا سواء كان ذلك بالتخويف الذي ذكره اللّه وخوفهم به من آي القرآن كما في التبيان، أو بالتخويف الذي ينتهي إلى وحي اللّه مما يخوف به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم الأئمة (عليه السلام) ثم الوعاظ، نحو ما روي في الكافي والفقيه والتهذيب في الصحيح عن أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام)، درهم ربا عند اللّه يعدل سبعين زنية كلها بذات محرم. وفي حديث آخر في بيت اللّه الحرام. وفيه أيضًا مثل أن ينكح الرجل أمه في بيت اللّه الحرام.
ومثل ما ورد من لعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لآكل الربا وفي روايات الدر المنثور وغيره نحو من ذلك {فَانْتَهى} عن الربا بسبب الموعظة وتاب {فَلَهُ ما سَلَفَ} الظاهر منه الفعل السالف وهو أخذ الربا وتعاطي معاملته أي أن اللّه يتوب عليه ويغفره له، وأما إرادة أنه يحل له ما أخذه فيما سلف إذا تاب فتحتاج إلى تصرف في اللفظ وقرينة دالة على ذلك وفي التبيان قال أبو جعفر «يعني الباقر (عليه السلام)» من أدرك الإسلام وتاب مما عمله في الجاهلية وضع اللّه عنه ما سلف ونحوه في مجمع البيان.
والرواية مع إرسالها لا يعلم كونها تفسيرًا لهذه الآية ولو كان موردها الربا وعرف منها أن الذي وضعه اللّه هو المال الذي أخذ ربا فيما سلف لكانت من قبيل أن الإسلام يجبّ ما قبله {وَأَمْرُهُ} في توبة اللّه عليه وتوفيقه للثبات عليها {إِلَى اللَّهِ} بحسب علمه بصدق توبته وأهليته للتوفيق للدوام عليها فإن المغفرة ليست بلازم طبيعي لمحض إظهار التوبة.
هذا من حيث الإثم، وأما من حيث المال الزائد الذي هو ربا في الدين أو أحد العوضين في المعاملة الربوية الفاسدة فالأمر موكول إلى ما تقتضيه الأحكام الشرعية في أموال الناس وإن أخذت في حال الجهل بحرمة الربا لا كما يظهر من كلامي الصدوق في الهداية والشيخ في النهاية، من أن المأخوذ في حال الجهل بحرمة الربا لا يجب رده هو حلال لآخذه، واعتمده في الدروس ومال إليه بعض متأخري المتأخرين استنادًا إلى روايات لا دلالة فيها على ذلك، فإن ما روي في الكافي عن أبي المغرا وفي التهذيب عن الحلبي وفي الفقيه ما عدا صدره مرسلًا جميعًا عن الصادق (عليه السلام) فإنما يدل صدره المروي في الكافي والتهذيب على قبول التوبة من الربا، وإن كانت حرمته شديدة مغلظة ولفظ الجهالة في الرواية مثل ما في القرآن في الوعد بالتوبة لمن يعمل السوء بجهالة كما في سورة النساء 21 والأنعام 54 والنحل 120 لا الجهل بالحرمة، ثم على حل المال الموروث المختلط بالربا ويحمل على الذي يطهره الخمس جمعًا. وأما عجزه الذي انفرد به الكافي والفقيه وعن التهذيب فبالنظر إلى قوله (عليه السلام) فأراد أن ينزعه.
وقوله (عليه السلام) فما مضى فله ويدعه فيما يستأنف لا يدل إلا على أنه يغفر له ما مضى من عمله بسبب توبته ونزع المال الربوي من ماله. وأما ما أسنده الكافي والتهذيب عن الحلبي وأرسله الفقيه عن الصادق (عليه السلام) فيمن أتى الباقر (عليه السلام) فإنما يدل صدره على حل المختلط، ويحمل على الذي يطهره الخمس جمعًا أو على ما يحتمل وجود الحرام فيه وذلك لقوله (عليه السلام) فإن المال مالك.
وأما عجزه من قوله (عليه السلام) فإن رسول اللّه قد وضع إلى آخره فلا دلالة فيه على أنه تعليل لقوله (عليه السلام) فكله هنيئًا فإن المال مالك. ولم يجر في السؤال أن مورثه كان جاهلًا حرمة الرب،ا فغاية ما يظهر منه هو أن للجاهل بحرمة الربا إذا عمل به فهو معذور من حيث الإثم.
فالظاهر أن المراد منه تطييب قلب السائل بأن العامل بالربا معذور إذا كان جاهلًا بحرمته فأنت أولى بالاطمئنان من الإثم. وأما ما رواه في التهذيب عن محمد بن مسلم عن الباقر (عليه السلام) فيمن عمل الربا حتى كثر ماله فهو شامل لصورة معرفته للربا وعلمه بتحريمه إن لم يكن ظاهر الحال والسؤال ذلك كما أن الظاهر من قول القائلين له ليس يقبل منك شيء إلا أن ترده على أصحابه هو أنهم سدوا عليه باب المغفرة وقبول التوبة إلا أن يرد الربا على أصحابه وإن جهلهم أو تعذر عليه فيكون قول الباقر (عليه السلام) مخرجك من كتاب اللّه.
فمن جاءه موعظة الآية ردًّا على تشديد هؤلاء وإن التوبة الصادقة والانتهاء مخرج من إثم الربا إلى المغفرة، وأما مال الربا فقد يكفي فيه في بعض الموارد رده إلى الإمام أو نائبه أو إلى الفقراء، فلا ينحصر قبول التوبة بخصوص رده على أصحابه على كل تقدير وقوله (عليه السلام) والموعظة التوبة يريد به أن الذي يتعلق به الغرض في قوله تعالى {فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ} إلى قوله {فَانْتَهى} ويغفر به الذنب، إنما هو التوبة وأما المال فله أحكامه {وَمَنْ عادَ} إلى تعاطي الربا مستحلًّا له بعد ما نزل القرآن بتحريمه وبلغه ذلك، أو إلى الاعتراض على الشريعة بقوله إنما البيع مثل الربا أو إلى كل من ذينك كفرًا وارتدادًا وأصروا على عودهم هذا حتى ماتوا كما هو ظاهر الآية {فَأُولئِكَ} أشير بالجمع باعتبار المعنى في الموصول.
السيد محمد حسين الطبطبائي
الفيض الكاشاني
عدنان الحاجي
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
محمود حيدر
الشيخ جعفر السبحاني
الشهيد مرتضى مطهري
الشيخ محمد جواد البلاغي
الشيخ محمد مهدي الآصفي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
الشيخ عبد الحميد المرهون
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
ياسر آل غريب