{وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا *وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا *فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا *فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا *عُذْرًا أَوْ نُذْرًا } (1)
المرسَلات إلى الفارقات هي الرياح:
قيل إنَّ المراد من المرسَلات – بصيغة اسم المفعول – هي الرياح يُرسلها اللهُ عزَّوجلَّ على عباده رحمةً بهم نظراً لما يترتَّبُ عليها من آثارٍ محمودة تعودُ بالنفع عليهم في أبدانهم ونفسياتهم ومعائشهم كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}(2) وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}(3) وقوله تعالى:{وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ}(4) وقوله تعالى:{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ}(5) وقد يرسلُها نقمةً ونكالاً على العصاة من عباده كما في قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ}(6) وقوله تعالى: {أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا}(7) وقوله تعالى: { كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ}(8) وقوله تعالى:{بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}(9) وقد يرسلُها لتكون وسيلةً للتنبيه والتذكير بعظيم شأنه وشديد بأسه جلَّ وعلا كما في قوله تعالى:{وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}(10) وقوله تعالى: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ}(11) وقوله تعالى: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(12)
فالآية من سورة المرسلات تُقسم – بناءً على هذا القول بالرياح، ومعنى قوله:{عُرْفًا} هو أنَّها متتابعة، يقال جاء القوم عرفاً أي متتابعين يتبع بعضهم بعضاً تشبيهاً لهم بعُرف الفرس وهو الشعر الذي يكون على عنقه. وبناءً على ذلك يكون: {عُرْفًا} منصوباً على الحال، فمفاد الآية هو القسم بالرياح حال كونها متتابعة الهبوب.
وعليه تكون العاصفات والناشرات والفارقات صفات للرياح، فالعاصفات هي الرياح الشديدة الهبوب، التي مِن أثرها القصف كما قال تعالى: {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ}(13)
والناشرات هي الرياح التي تنشر السحاب فيكون منها المطر كما قال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} (14) وقال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ}(15) فالرياح ينشرها الله تعالى نشراً بين يدي رحمته.
والفارقات هي الرياح التي تفرِّق السحب وتبسطها وتسوقها حيث الأرض الميِّتة كما قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} (16) وقال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ}(17) وكذلك فإنَّ الرياح تفرق الأشياء المجتمعة والمتراكمة وتُبدِّدها يميناً وشمالاً كما قال تعالى: {فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ}(18)
فالـمُقسَمُ به في الآيات الأربع - بناء على هذا التفسير- هو الرياح المختلفة في صفاتها وآثارها، والقسم بها سيق للتعبير عن كونها من المنبِّهات البيِّنة على عظمة الله جلَّ وعلا وكمال حسن تدبيره، وهي كذلك من المنبهات على ما ينبغي أن يكون عليه العباد من الامتنان لله تعالى والخشية من نقمته.
المرسلات والصفات التي تلتها هي الملائكة:
وفي مقابل هذا التفسير استظهر العلامة الطباطبائي(19) أنَّ المراد من المرسلات والصفات التي تلتها -إلى الآية السادسة- هم الملائكة، والتأنيث لهم نشأ عن تقدير جماعات الملائكة.
فالآية الأولى تُقسم بجماعات الملائكة المرسلة من قبل الله تعالى بالوحي لأنبيائه (ع) و{عُرْفًا} بمعنى التتابع أي أنَّ الآية تُقسم بجماعات الملائكة المرسلة بالوحي بنحو التتابع على أنبياء الله تعالى، ولعلَّ في ذلك إشارة إلى أنَّ الله تعالى قد والى وتابع الإرسال لملائكته بالوحي لأنبيائه لطفاً منه بعباده وتأكيداً للحجَّة عليهم، وقد يكون المراد من العُرف هو المعروف أي أن جمعات الملائكة مرسلات لأجل البيان للمعروف فتكون {عُرْفًا} في موقع المفعول لأجله.
وأمَّا العاصفات فهي معطوفة على المرسلات من العصف وهو سرعة السير، فالآية -بناءً على هذا التفسير- تصف المرسلات من الملائكة بسرعة السير، فهي تُشبِّه الملائكة في سرعة سيرها وإنفاذها لأمر الله تعالى بالرياح العاصفة السريعةِ الهبوب.
وأمَّا الناشرات فهو قسمٌ آخر بجماعات الملائكة المرسلة، ووصفُها بالناشرات لبيان أنَّه تنشر صحائف الوحي الذي أُرسلت به كما يُشير إليه قوله تعالى:{كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ *فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ *مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ *بِأَيْدِي سَفَرَةٍ *كِرَامٍ بَرَرَةٍ}(20) فالآية تُقسم بالملائكة حين تنشرُ الصحف المشتملة على وحي الله تعالى ليتلقَّاه منهم أنبياؤه. أو أنَّها تنشر صحائف الأعمال يوم القيامة كما قال تعالى: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ}(21)
وأمَّا الفارقات فهي الملائكة المرسلة بالوحي، فهي بذلك تفرِّق بين الحق والباطل، فهي صفة متفرِّعة على إرسالها بالوحي ونشرها للصحائف المشتملة على الوحي والذي يُعرف به الحق من الباطل، والمشروع وغير المشروع، والخير الصالح للعباد من الشر المفضي للشقاء.
وأمَّا الـمُلقيات فهم جماعات الملائكة الذين يُلقون بالوحي على الأنبياء(ع) فالذكر هو الوحي الذي تحملُه الملائكة لأنبياء الله فيكون حجَّة معذَِرة ومنذرة، يصح اعتذار العباد بهذا الذكر عند الله تعالى كما أنَّه حجة معذِّرة لله على عباده إذا عاقبهم على تجاوزه كما أنَّه يكون منذراً للغواة المتهاونين بأمرِ الله ونهيه. وعليه يكون الذكر مفعولاً به للمُلقيات يعني لاسم الفاعل ويكون قوله تعالى:{عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} مفعولاً لأجله أي أنَّهم يُلقون الذكر لأجل الإعذار والإنذار.
القرينة على تعيُّن التفسير الثاني:
هذا ولم يقع خلافٌ -ظاهراً- في أنَّ المراد من الـمُلقيات ذكرا عذراً أو نذراً هم جماعات الملائكة بل إنَّ الآية كما أفاد – السيد الطباطبائي(22)- كالصريحة في إرادة الملائكة المرسلين إلى الأنبياء لإلقاء الوحي عليهم، وهذه هي القرينة المقتضية لاستظهار إرادة الملائكة من المرسلات والصفات التي تلتها إذ معه يتحد سياق الآيات، وأمَّا مع البناء على إرادة الرياح من المرسلات والصفات التي تلتها فإنَّ الربط بينها وبين الملقيات المتعيِّنة في الملائكة لن يكون واضحاً، إذ ليس ثمة من تناسبٍ ظاهر بين القسَم بالرياح والقسَم في سياق واحد مع الملائكة المُلقية للوحي، وعلى خلاف ذلك البناء على إرادة الملائكة من مجموع الآيات فإنَّ السياق سوف يكون متَّسقاً ومتناسباً تماماً كما هو المستظهَر من الآيات التي افتُتحت بها سورة الصافات وهي قوله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا *فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا}(23) فإنَّ المقصود مِن مجموعها القسَم بالملائكة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-سورة المرسلات: 1، 6.
2- سورة الأعراف: 57.
3- سورة الفرقان: 48.
4- سورة الروم: 46.
5- سورة الحجر: 22.
6- سورة فصلت: 16.
7-سورة الإسراء: 69.
8-سورة آل عمران: 117.
9- سورة الأحقاف: 24.
10- سورة يونس: 22.
11- سورة الروم : 51.
12- سورة البقرة : 157.
13- سورة الإسراء: 69.
14-سورة الروم: 48.
15- سورة الحجر : 22.
16- سورة الأعراف : 57.
17- سورة فاطر: 9.
18- سورة الكهف: 45.
19- الميزان في تفسير القرآن - السيد الطباطبائي- ج20/ 144.
20- سورة عبس: 11، 16.
21- سورة التكوير: 10.
22- الميزان في تفسير القرآن- السيد الطباطبائي- ج20/ 145.
23- سورة الصافات: 1، 3.
الشيخ محمد مهدي النراقي
الشيخ محمد صنقور
عدنان الحاجي
الشيخ مرتضى الباشا
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ باقر القرشي
السيد جعفر مرتضى
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
الشيخ عبد الحميد المرهون
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
ياسر آل غريب
اكتساب الفضائل
معنى قوله تعالى: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا..}
نفاذ الصبر من الناحية التطورية
دروس في الحلم الحسني
شموخ الإمام الحسن (عليه السلام) أمام غطرسة معاوية (2)
المنطقة تحتفل بناصفة شهر رمضان المبارك، فرحة وبهجة وتراث أصيل
الشّيخ الحلال، ولقاء رمضانيّ للأطفال
الحسن المجتبى: معقد النّبوّة والإمامة
أربعة لا يستجيب الله تعالى لهم
ما هي حقيقة الصوم؟