من التاريخ

ثبوت واقعة الغدير من منظور تاريخي وعلمي (2)

السيد محمد باقر السياستاني

 

3ـ متن الحدیث

 

لقد اشتملت خطبة النبي محمد المصطفى (ص) في واقعة الغدیر علی أجزاء متعددة بعضها ممهدات أو متممات ولواحق وبعضها أرکان، والأرکان فقرتان:

 

إحداهما: فقرة الولاء وهي: من کنت مولاه فهذا علي مولاه، وهذا هو المحور الأساس للحدیث. وثانیتهما: فقرة التمسك بالثقلین، وهذه أیضا فقرة أساسیة جاءت في الحدیث قبل فقرة الولاء.

 

وقد اختلفت طرق الحدیث فیما تضمّنت حکایته من ركني الخطبة وهما فقرة الثقلین وفقرة الولاء وسائر ممهداته ومتمماتهما. فاقتصر بعضها علی فقرة الثقلین في الحدیث التي تتضمّن الأمر بالتمسك بالکتاب والعترة للوقایة من الضلالة.

 

واقتصر بعضها الآخر علی فقرة الولاء: من کنت مولاه فهذا علي مولاه. واشتمل بعضها علی جمل إضافیة تصف ابتداء الخطبة ومقدماتها ونهایتها.

 

والقاعدة المعروفة عند کافة أهل العلم أن ما اشتمل علی زیادة یعتبر أکمل مما خلا عنها ویکون حجة علی إثباتها، ولا یکون عدم اشتمال بعض آخر علیها نافیًا لوجود الزیادة، لأن اقتصار الرواة علی إیراد بعض الکلام أمر متعارف، ونقل شيء لا یدل علی نفي ما عداه، لا سیما أن من المعلوم أن ما صدر من النبي الأكرم (ص) في غدیر خم کان خطبة خطب بها ولم یکن جملة أطلقها، فکان مؤلفًا من جمل عدیدة بطبیعة الحال.

 

هذا، وقد یکون للاقتصار علی بعض الحدیث دواع طبیعیة للإیجاز والتلخیص، إلا أن من الملفت إهمال بعضهم – مثل مسلم في صحیحه تبعًا لبعض مشایخه – لفقرة الولاء التي هي لبّ الحدیث ومرکزه والغایة التي أراد النبي (ص) الانتهاء إلیها في الخطبة بحسب سیاقها، وتلك هي قول رسول الله (ص): من کنت مولاه فهذا علي مولاه، فاقتصر مسلم علی روایة فقرة حدیث الثقلین منه رغم أنه رواه من طریق زید بن أرقم، الذي روی عنه جماعة هذا الحدیث مشتملاً علی هذه الزیادة وفق شروط مسلم في الصحیح.

 

علی أنه روی هذه الفقرة بلفظ ذکر فیه الثقلین، ولکن استبدل التمسّك بأهل البیت بالتذکیر بأهل البیت فقط، رغم أن المشهور في روایة زید بن أرقم وغیرها في لفظ الحدیث الأمر بالتمسك، وهو الأنسب بسیاق الحدیث. وقد صح ذلك من روایة زید بن أرقم من طرق أخری صحیحة علی شرط مسلم، ولکنه لم یشأ أن یورد الروایة بتلك اللفظة.

 

والواقع أن تغییب أهل البیت (ع) عن الموقع الملائم لهم ـ وفق ما تشیر إلیه نصوص الکتاب وتدلّ علیه نصوص الستة من التمیز العلمي والمعنوي والسیاسي ـ أدّی إلی ظاهرة محسوسة بسهولة ویسر في شأن النصوص والوقائع المتعلقة بهم، وهي إهمال النصوص المتعلقة بهم، وقلة طرقها، وتقطیعها، وتخفیف صیاغاتها. لکن مع ذلك بقیت جملة من تلك الوقائع والنصوص محفوظة بطرق معتبرة تقوم بها الحجة علی المسلم.

 

4ـ عوامل حفظ الواقعة رغم مساعي کتمانها

 

إن هناك عدة عوامل ساعدت علی حفظ واقعة الغدير وأخواتها من الأحادیث المهمة الواردة في مکانة أهل البیت (ع) في هذه الأمة، وساعدت علی بقائها في مقابل التحدیات التي واجهتها من قبل الخلفاء والساسة بعد رسول الله (ص) من المنع من تدوین الحدیث ونشره علی وجه عام، ثم ما یختص بفضائل الإمام أمير المؤمنين (ع) علی وجه خاص، ومن أهم تلك العوامل:

 

1ـ مخطط لها من قبل النبي

 

وقوع بعض أحادیث النبي محمد (ص) عن أهل البیت (ع) في وقائع تاریخیة جماهیرية، وهو فیما یبدو کان أمرًا مخططًا له من قبل النبي (ص) لأجل بقائها.

 

ومن مصادیق تلك الوقائع واقعة الغدیر، فقد کانت واقعة الغدير جزءًا مشهودًا من سیرة النبي (ص)؛ إذ کانت حدثًا جماهیریًّا ذا ملابسات فارقة، ولم یکن قولًا حدّث به بعض أصحابه، ولا حدثًا اعتیادیًّا في المسیر، بل کان حدثًا مفاجئًا قیل إنه غيّر لأجله الطریق بعض الشيء، وجمع لإلقائه من حضر حتی عرف المکان وهو غدیر خم بهذه الواقعة في التاریخ.

 

ویبدو في خصوص واقعة الغدير أن النبي الأكرم (ص) کان معنیًّا بهذا النوع من الاهتمام الخاص لیکون حدثًا تاریخیًّا یتعذر محوه من ذاکرة الحاضرین ومن بعدهم، وإذا کان نادر من أصحاب السیر کابن هشام في السیرة النبویة قد تجرأ علی حذفه فقد ارتکب خطأ فاحشاً.

 

2ـ إحیاؤها من قبل أهل البیت

 

کما تصدی لذلك أمیر المؤمنین بعد تولیه الخلافة في خطبه التاریخیة التي ألقاها علی جمهور أهل الکوفة المجموعة في نهج البلاغة، ومثل ذلك فعل ذریته الكرام (ع) اذ رووا هذه النصوص وأکّدوا علیها.

 

ولو نظرنا إلی واقعة الغدیر فإننا نجد بالنظر في کتب الحدیث عند جمهور المسلمین أن الإمام أمير المؤمنين (ع) کان أبرز رواة واقعة الغدیر، وقد استشهد علیها في واقعة معروفة بالرحبة من کان یحضره من الصحابة فشهد له العدید منهم، فعدّ هؤلاء کلهم من جملة رواة الحدیث، علی أن الراوي للحدیث لم یذکر أسماء أکثر من شهد له (ع)، ولذلك قلّ عدد من تُعلم أسماءهم من الصحابة بالقیاس إلی من کان یشهد بذلك.

 

علی أن من المعلوم أن واقعة الغدیر کانت في حجة الوداع التي حج فیها جماهیر المسلمین من المدینة وسائر الأقطار وکان فیها من المهاجرین والأنصار فکانوا ألوفًا، بل قیل إنهم کانوا یبلغون عشرات الألوف، ومن ثم فإنه مهما تعدّد الرواة فإنهم لا یبلغون عدد شهود الواقعة، علی أن ذكر الامام أمير المؤمنين (ع) واقعة الغدير أدی إلی تحرّي بعض الناس عنها بسؤال بعض الصحابة، وهذا من أسباب روایة بعض الرواة للواقعة عن زید بن أرقم، فإنّها جاءت في سیاق التأكّد منها بعد روایة الامام أمير المؤمنين (ع) لها.

 

3ـ رد فعل بعض الصحابة

 

إن نصب الأمویین العداء لأهل البیت (ع) مبکرًا ـ من خلال سبهم، وتکفیرهم، وسعیهم إلی إکراه الصحابة وسائر المسلمین علی ذلك – أدّی إلی ردّ فعل من بعض الصحابة لاحقًا، ومن المتوقع أن ذلك من أسباب روایة سعد بن أبي وقاص هذا الحدیث.

 

فقد طلب معاویة بن أبي سفيان من سعد أن یسب الإمام أمير المؤمنين (ع) فامتنع ذاکرًا بعض ما شهده من أقوال النبي محمد المصطفى (ص) الممیزة في حقه، کما یظهر مما أورده مسلم في صحیحه وأحادیث أخری، وكذلك الحال في روایة عبد الله بن عباس، فقد جاء في مقام إنکار سبّه (ع) الذي أشاعه معاویة وبنو أمیة من بعده بین جمهور المسلمین[1].

 

4ـ وجود روح الإنصاف عند البعض

 

وجود روح الإنصاف والالتزام والتحري فی فریق من أهل العلم من الجمهور أبوا معه أن ینفوا أصل هذه الحادثة أو یشککوا فیها، أو یتوسعوا في المبررات المذهبیة لکتمان الأحادیث الواردة في شأن أهل البیت (ع) کما کان شائعًا ومحمودًا في أوساط جماعة واسعة من أهل الحدیث.

 

لأنّهم وجدوه إنکارًا غیر مقبول للتراث التاریخي والحدیثي المحفوظ عن السیرة النبویة، وخروجًا صارخًا عن الموازین العلمیة في روایة الأحادیث وتوثیقها، ومخالفًا مع ما اتفق عليه المسلمون من الأمر بمودة النبي (ص) في قرباه وأهل بيته (ع)، فإن ذكر ما ورد من النبي (ص) في حقهم وفي مكانتهم من جملة المودة، حتى أن بعض أهل العلم تحملوا أذى كثيراً من المجتمع المتعصّب للخلفاء بالجهل، لكنهم لم ينثنوا عن رواية واقعة الغدير وحكايتها.

 

على أن هؤلاء العلماء الذين اهتموا برواية هذه الواقعة قد صرفوها ونحوها مما جاء في بيان مكانة أهل البيت (ع) عن مفادها مضطرين، لكي لا تمس شرعية الخلافة التي اعتبروها أمرًا لا يجوز المساس به بحال.

 

وأيًّا كان فقد بقيت واقعة الغدير التاريخية على مر التاريخ من طرق جمهور المسلمين وثبتت ثبوتًا واضحًا لمن وقف على مداركها واتفق عليها أهل العلم جميعًا، رغم عناية فريق من الحكام والرواة وأهل العلم بإخفائها لغايات سياسية أو مذهبية خاصة، وودوا لو أنها لم تكن.

 

ولذلك اقتصرنا في توضيح ثبوت الحديث على هذا الإيجاز تعويلاً على وضوح الأمر وجهود أهل العلم في إيضاح ذلك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] لاحظ: مسلم، صحیح مسلم، ج7، ص120.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد