استغرقت مسيرة الحسين (ع)، من مكة المكرمة إلى كربلاء 23 يومًا، تم فيها قطع مسافة 1475 كيلومترًا، وهي المسافة بين مكة وكربلاء بحساب طرق في ذلك الزمان. وهذا يعني أن الإمام عليه السلام والركب المرافق له، كانوا يطوون ما معدّله 65 كيلومترًا في كل يوم. فمرّوا في هذه المسافة بقريب من 38 منزلاً ين بئر وحيٍّ ومنزل جماعة، بعضها أقاموا فيه برهة من الزمان، وبعضها تجاوزوها، وبعضها باتوا فيه، وبعضها لم يبيتوا فيه، إلى أن وصل الإمام الحسين (ع) إلى كربلاء في اليوم الثاني من محرم سنة إحدى وستين للهجرة.
بداية الخروج كانت في اليوم الثامن، من شهر ذي الحجة، سنة 60 للهجرة. وكان الخروج ليلاً مع السحر - كما يرى باحثون - وقد كان العرب في تلك الفترات يفضلون السير في الليل، ويسمونه: بالسّرى، ومنه يأتي المثل المعروف: "عند الصباح يحمد القوم السّرى"، يعني: يمدحون أنهم ساروا ليلاً؛ وذلك نظرًا لأن الإبل تأخذ راحتها في السير في الليل، بخلاف سيرها في النهار، حيث أشعة الشمس المحرقة، والأرض الحارة، فكان سيرها في الليل هو المفضل غالباً.
فخرجوا في الليل، بناء على هذا، ومع الصباح وصلوا إلى التنعيم، والتنعيم: منطقة كانت خارج مكة المكرمة، لكنّها الآن أصبحت داخلها على أثر التوسع العمراني لمكة.
وتشير إحدى الروايات إلى أن الإمام الحسين عليه السلام، رأى قافلة محملة بالأحمال، وعلم أنها عبارة عن هدية من والي اليمن إلى يزيد الخليفة الجديد. حيث كانت العادة أن بعض هؤلاء الولاة؛ ولأجل أن يبقوا في مناصبهم كانوا يرسلون للخليفة ما يصطفونه من بيت مال المسلمين عندهم، هدية للخليفة "عربون" طاعة وولاء، ومن الطبيعي أن يرد عليهم الحاكم الجديد بإبقائهم في مناصبهم تلك.
وتقول الرواية: إن الإمام الحسين عليه السلام استولى على هذه القافلة، وخيّر أصحاب الإبل المستأجرة بين أن يأتوا معه ويوفيهم كراءهم، وبين أن يرحلوا عنهم ويعطيهم قيمة كرائهم.
وقد رفض بعض الباحثين هذه الرواية، باعتبار أن الإمام عليه السلام لم يكن من شأنه مصادرة الأموال، بل اعتبر أن هذا من تشويه صورة الإمام بإظهاره وكأنه قاطع طريق. فيما ذهب باحثون آخرون، في أنه لو كانت الرواية صحيحة، فتوجيهها وتفسيرها واضح؛ ذلك أن هذا المال ليس مالًا شخصيًّا لوالي اليمن، مثلما أنه ليس من الأموال الشخصية ليزيد بن معاوية، وإنما هو من أموال المسلمين. وما دامت كذلك، فإن ولاية التصرف عليها، إما أن تكون من والٍ منصوب من الله ومنصوصٍ عليه، وإما أن يكون شخصًا منتخبًا من قبل الناس.
ويزيد بن معاوية مثلما لا يتوفر على الوصف الأول، كذلك لا يتصف بالثاني، فلا حق له في هذه الأموال واستيلاؤه عليها يعتبر عدوانًا غير جائز، بينما من يحتوي على الوصف الأول هو الإمام الحسين عليه السلام كما أنه أكثر من سائر الناس في توفر صفات الخلافة من ناحية رأي الناس. هذا بالإضافة إلى أنه بمقتضى الاتفاق الذي حصل بين معاوية بن أبي سفيان وبين الإمام الحسن المجتبى عليه السلام والذي بموجبه تم التوقف عن الحرب، فإن الإمام الحسين عليه السلام هو الحاكم دستوريًّا، إذ تم النص على أن الخلافة لمعاوية فإن قضى فللحسن وإن قضى الحسن فللحسين عليهما السلام.
على أنه يقال أيضًا أن هذا المال قد صرف في مصالح المسلمين العامة، وفي إنقاذ بعض المسلمين من الأسر في يد الكافرين، فإن المؤرخين يذكرون: أنه في يوم عاشوراء قد أُخبر بشر الحضرمي وهو أحد أصحاب الحسين أن ابنه عَمراً قد أسر في ثغر الري في اشتباكات مع الديالمة فقال الإمام الحسين لأبيه بشر خذ هذا واسعَ في فداء ابنك وأعطاه حللاً بما يعادل ألف دينار ولما رفض مفارقة الإمام عليه السلام أخبره أن يعطيها لابنه الآخر لكي يستنقذ بها أخاه.
فبناء على ما سبق؛ لو صحت الرواية فلا مشكلة، لأن الإمام عليه السلام هو الأولى بها بل الوالي عليها دون يزيد، وكان مصرفها في إنقاذ أسير من أسرى المسلمين، بينما لو ذهبت ليزيد لصرفت بين أرجل الجواري وأيدي الساقين للخمر.
وبعد أن تجاوز الإمام عليه السلام التنعيم، وصل إلى "الصفاح" وفيها التقى بالفرزدق بن غالب، وحسبما أخبر الفرزدق نفسه فقد قال: كنت قادماً من البصرة إلى الحج مع أمي، فرأينا ركب الحسين بن علي، فجئت إليه، فسألني من الرجل؟ قلت له: "أَنَا مِنَ العَرَبِ"، يقول: "فَلَا وَاللهِ، مَا فَتَّشَنِي أَكْثَرَ مِنْ ذَلِك". أي لم يسألني غير هذا عن شخصيتي.
وفي هذا تعليم تربوي، خلافًا لما يصنعه البعض فإنه حين يلتقي شخصاً في مكان ما لمدة خمس دقائق، تجده يتطلع إلى أن يستكشفه بالكامل، ويعرف أهله ومواقفه السياسية، وتقليده المرجعي، وما يريد وما لا يريد، بل يرتب على ذلك آثارًا، في أنه هل يقاطعه بعدما عرف عنه ما عرف أو أن يتعامل معه بشكل عادي؟
إن الإمام عليه السلام يعلمنا هذا خصوصاً في الأزمنة التي تكون فيها القضايا المختلفة منشأ لاختلاف الآراء وقد يكون الاختلاف حادّاً إلى درجة الاعتداء عند بعضهم لو علموا بأن الذي يقابلهم يحمل الأفكار المعينة، ثم سأله الإمام عليه السلام كيف تركت الناس؟ قال: قلوبهم معك وسيوفهم عليك، ثم فارق الفرزدق الإمام عليه السلام متجهاً إلى الحج كما قيل.
الفرزدق ومواقفه:
ويثير هذا الموقف من الفرزدق السؤال، في أنه هل كان مستوى علاقة الفرزدق بالإمام عليه السلام هو بهذا المقدار أن يتبادل معه كلامًا عابرًا ثم يمضي كل منهما في سبيله؟ فلا الإمام يدعوه إلى الالتحاق به لا سيما وهو خارج من مكة، ولا الفرزدق الذي لم يستفصل من الإمام عما يريد من السؤال عن الناس خلفه؟ هذا إن لم يكن قد علم بأن الإمام خارج للعراق ضمن نهضته ضد الحكم الأموي فإن السؤال يزداد الحاحاً، وكيف يوصف موقفه في هذه الحال؟ بل كيف أخفى الفرزدق شخصه عن الإمام الحسين عليه السلام فلو اعتذر الفرزدق عن الالتحاق به ـ من جهة أن أمه معه في الحج ـ لما كان معاتباً في ذلك؟ فلنفترض أنه لم يشأ أن يذكر ذلك، أفهل يناسب أن يخفي شخصه وشخصيته عن الإمام عليه السلام؟
نقول: إن الآراء في الفرزدق الشاعر والذي كان في ذلك الوقت في حدود الثالثة والعشرين من العمر، بناء على أن ولادته كانت سنة 37 هـ، على أنحاء:
1/ هناك رأي يذهب إلى أن الفرزدق لم يكن شيعياً بحسب التصنيف، وذلك أنه لم يعرف له موقف مهم في تاريخه الذي امتد حدود 73 سنة، لأن ولادته كانت في 37 ووفاته كانت 110هـ سوى قصيدته في مدح الإمام زين العابدين عليه السلام، وهي يتيمته من بين مئات القصائد التي افتخر فيها بأسرته ووالده ونفسه، وفيما عدا هذه القصيدة لا نجد موقفًا "شيعياً" يستحق أن يذكر عنه، وأصحاب هذا الرأي يجدون أن موقفه من الإمام الحسين عليه السلام في عدم المناصرة أو حتى الوعد بالمناصرة بل حتى بمقدار تعريف نفسه، يجدون هذا الموقف طبيعياً إذ لم يتوقع منه غيره.
2/ الرأي الآخر: يرى أنه رجل من شيعة أهل البيت عليهم السلام، ولذلك فقد مدح الإمام علي بن الحسين زين العابدين أمام هشام بن عبد الملك الذي كان ولي العهد في ذلك الوقت، وأن الإمام السجاد أرسل إليه مبالغ مالية، فأراد أن يردها، لكن الإمام قال له: "بِحَقِّي عَلَيكِ إِلَّا قَبِلْتَهَا فَإِنَّ اللهَ قَدْ عَرَّفَنِي نِيَّتَكَ وَمَكَانَكَ" فإن مثل هذا الكلام لا يقال في حق أي شخص، هذا بالإضافة إلى أن الناظر في قصيدته يجد فيها من المعاني العقائدية العالية والحماس الديني شيئًا كثيرًا، ولا يصدر مثل ذلك إلا عمن يكون من شيعتهم الخلّص.
3/ والرأي الثالث، ولعله الأوفق: أن الفرزدق لم يكن شاعرًا، على مستوى دعبل الخزاعي والكميت ممن كان الشعر جزءًا من جهادهم ومواقفهم، وسلاحًا يدافعون به عن عقيدتهم، ومنبر تبليغ لأفكارهم الدينية، ولا يهمهم بعد ذلك أن كان الشعر طريقهم إلى الشهادة كما نقل عن دعبل الخزاعي في قوله: "إِنِّي أَحْمِلُ خَشَبَتِي عَلَى ظَهْرِي 40 سَنَةً، لَا أَجِدُ مَنْ يَصْلِبُنِي عَلَيهَا"، يعني كلمتي هي موقفي، وأتحمل مسؤوليتها.
وربما نقل بعضهم أن الإمام عليًّا عليه السلام نصح أباه وقد وفد معه على الإمام أن يلزمه بحفظ القرآن حتى يكون شاعراً مهمًّا، إلا أنه هذا لا يصح إذا صح ما قيل من ولادته سنة 37 هـ. فإن الإمام أمير المؤمنين قد استشهد في سنة 40، وهذا يعني أن عمره ذلك الوقت ثلاث سنوات، فكيف يقول أبوه: أن ابني لشاعر.
فنحن نعتقد بالرأي الثالث، هو شاعر كان له موقف نفسي وقلبي مناصر لأهل البيت، وحدود نصرته اللسانية كانت - فيما نعلم - بالقصيدة المشهورة وأما نصرته العملية فلا نجد من ذلك أثراً واضحاً.
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
الشيخ محمد جواد مغنية
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
السيد جعفر مرتضى
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ محمد هادي معرفة
محمد رضا اللواتي
السيد عباس نور الدين
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
عبدالله طاهر المعيبد
حبيب المعاتيق
شفيق معتوق العبادي
جاسم بن محمد بن عساكر
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
الذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون!
ارتباط الوجود وأركانه بالأسماء الإلهيّة
ChatGPT قد يُفسد العقل، لكنّ الحقيقة قد تكون أعقد من ذلك بكثير
ما هذا البكاء؟!
النّخبة من أنصار الحسين عليه السّلام
التخطيط للبكاء في عاشوراء
مع الحسين (ع) من مكة إلى كربلاء (1)
قصة أصحاب الكهف في القرآن
إحياء الموسم الحسيني... حياة
دقائق في القرآن هي روائع في التعبير (6)