محطة زرود ولقاء ابن القين:
فيما تجاوز الإمام عليه السلام الصفاح مواصلاً مسيرته وصل إلى زرود. وينقل التاريخ فيها حدثين مهمين: لقاء الإمام الحسين عليه السلام بزهير بن القين، ووصول خبر شهادة مسلم بن عقيل.
وفيما يرتبط بموضوع زهير بن القين، فمن الواضح أنّ دوره بعد التحاقه بالإمام الحسين كان متميزاً، إذ يعد في الطبقة الأولى من الأصحاب غير الهاشميين، وقد يثار كلام حوله من أنه كان عثماني الهوى قبل ذلك أو لا؟
لا بد أن نشير إلى أن تعبير "عثماني الهوى" عندما يطلق على أحد، فإنه يعني "أموي الهوى" ولكن بتعبير مخفف يقال "عثماني الهوى" إذ لا يوجد لعثمان خط ممتد ومستمر، وإنما هو الخط الأموي الذي كان مسيطراً حتى أيام الخليفة عثمان، حتى الجاحظ لما أراد أن يكتب في الافتخار بما هو ضد العلويين، ذكر في مدح العثماني بما يشمل بني أمية.
وفي الجواب عن ذلك ذكر العلامة الطبسي: إن أقدم مصدر وردت فيه هذه الصّفة عنه هو تاريخ الطبري وكانت على لسان أحد أعدائه في محاورة بينهما يوم عاشوراء، ثم نقلها عن الطبري البلاذري وغيره، ومع كونها من أعدائه فلا يمكن أن تثبت هذه الصفة في حقه، بالإضافة إلى عدم وجود أي قرينة أو حادثة (من قول أو موقف) يشير إلى كونه عثماني الهوى، هذا مع علمنا بأنه حتى لو كان سابقاً كذلك لما ضره مع تبينه الحق ووقوفه إلى جانبه ومناصرته، فهذا الحر الرياحي كان على رأس جيش أموي جاء لقتال الحسين وأسره إلا أنه ختم له بالسعادة والشهادة وحاز لقب (الحر كما سمتك أمك) فيما نقل من تأبين الحسين إياه.
بل إننا نجد قرينة مخالفة على ذلك، وهي ما نقله زهير نفسه، حين قال "غزونا بلنجر ففتح الله علينا وأصبنا غنائم، فقال لنا سلمان الباهلي: أفرحتم بما فتح الله عليكم وأصبتم من المغانم؟ فقلنا: نعم، فقال لنا: إذا أدركتم شباب آل محمد فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معهم بما أصبتم من الغنائم". وهذه الغزوة كانت بحدود سنة 22 هـ، ومن الطبيعي أن لا يقول سلمان الباهلي مثل هذا الكلام إلا في من يشتريه ويقيمه ولا ريب أنه لا يبيعه لشخص له توجهات أموية.
وما ذكره بعض المؤرخين من أن زهيراً كان يتحاشى في الطريق لقاء الإمام الحسين عليه السلام، فبالإضافة إلى عدم إمكانه في نفسه باعتبار أن المعروف أن زهيراً كان في الحج في تلك السنة كما ينقلون، وهذا يعني أنه متأخر في المسير عن الحسين بنحو خمسة أيام هي الفاصلة بين حركة الإمام الحسين يوم الثامن من ذي الحجة، وحركة زهير في أقرب فروضها وهي في يوم الثاني عشر بعد الظهر من ذي الحجة وقت نفرة الحجيج، ومع ذلك لا معنى لأن يتحاشاه، فإنه يسير خلفه بمسافة غير قليلة، على أن هذا لو تم لا يفسره كون الرجل عثماني الهوى أو أموي الاتجاه، وإلا كان علينا أن نقول إن كل الحجاج الذين أعرضوا عن الالتقاء بالحسين هم أمويو الاتجاه وهو واضح الخطأ.
ثم إن الطبسي قد نقل عن أسرار الشهادة حادثة تتضمن حديث زهير بن القين مع أبي الفضل العباس، وقد أخذ الراية له من عبد اللّه بن جعفر بن عقيل وسلمها للعباس وحدثه بحديث عن خطبة أمه أم البنين لأبيه أمير المؤمنين بواسطة عقيل بن أبي طالب وأنه قد انتخب وأعد لمثل هذا اليوم، ليستفيد منها في بيان اطلاع زهير على خصوصيات البيت العلوي، وهذا ما لا يكون في أصحاب الاتجاه الأموي.
وقد ذكرتُها في بعض المحاضرات، لكن بدا لي ملاحظات حولها:
منها أن صاحب أسرار الشهادة ينقلها من غير سند ولا أصل، وهو على جلالة شأنه إلا أنه يأخذ عليه البعض أنه يورد روايات كثيرة لا نجد لها أصلاً بين أيدينا، كما أنه ينقلها من غير إسناد، وبالتالي فإنه يصعب الاعتماد عليه كمصدر، وقد أشار العلامة الري شهري إلى ذلك بعنوان أن: "بعض المصادر المتأخّرة روت معلومات حول أبي الفضل عليه السّلام لا نراها في المصادر المعتبرة" وذكر من الأمثلة على ذلك خبر حوار زهير مع أبي الفضل العباس.
ومنها ما جاء في متن الخبر فإن عليه في عباراته ما يمكن التوقف فيه، مثل أن الراية كانت بيد عبد الله بن جعفر بن عقيل، فهذا لا تؤكده المصادر التي ذكرت تقسيم الإمام الحسين عليه السلام راياته، فلم تذكره في جملة من أعطي الرايات، بل المعروف أن العباس هو صاحب الراية فلا معنى لأن يأخذ زهير الراية (استعارة) من عبد الله بن جعفر ليعطيها للعباس.
ومنها ما جاء في أن العباس لما سمع ذلك من زهير (تمطى في الركاب حتى قطعه).
أقول: إن هذه الملاحظات وأمثالها قد لا تساعد الاعتماد على مثل الخبر المذكور لإثبات صلة زهير بالبيت العلوي.
خبر شهادة مسلم بن عقيل:
وفي هذه المنطقة "زرود" أيضاً وصل إلى الإمام الحسين عليه السلام خبر شهادة ابن عمه وسفيره إلى الكوفة مسلم بن عقيل، وينقله الطبري عن رجلين أسديين لحقا بالإمام عليه السلام بعد حجه، ووصلا إليه في زرود فرأيا رجلاً كوفيًّا انحاز عن الطريق، فسأله أحدهما عن خبر الكوفة، فقال: إنه ما خرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وأنه رآهما يجران بأرجلهما في السوق، فجاء هذان بالخبر إلى الإمام وأرادا أن يخبراه منفرداً، فقال: ما دون هؤلاء الأصحاب من سر، فلما أخبراه استرجع وترحم عليهما وحاولا في الإمام أن يرجع إبقاء على نفسه وأهل بيته وأنه ليس له ناصر في الكوفة، فوثب أبناء عقيل وقالوا: لا والله لا نبرح حتى ندرك ثأرنا أو نذوق ما ذاق أخونا، فقال الحسين: لا خير في العيش بعد هؤلاء وفي تعليقنا على هذا الخبر الذي طريقة صياغته تريد أن توحي وكأن الحسين عليه السلام كان مندفعًا في حركته حتى إذا وصله خبر مسلم بن عقيل وشهادته عزم على تغيير فكرته تلك، لكن أبناء عقيل صمموا على مواصلة المشوار فانصاع الحسين لهم، نقول:
إنه سبق القول منا أن طريقة إجابات الإمام الحسين عليه السلام تختلف بحسب المواقف المختلفة وبحسب الأشخاص أيضاً وهذا من الحكمة، فإن ما يجاب به المجاهد الفدائي والنصير المخلص عندما يسأله يختلف عن إجابة المتفرج (مثل هذين الأسديين اللذين لم يكلفا نفسيهما أكثر من استطلاع خبر الكوفة) ويختلف عن الحديث مع العدو، ولهذا فلا نرى أن ترتيب أمر الاستمرار في المسيرة على وثوب أبناء عقيل وعدم تنازلهم عن ثأرهم لا نراه صحيحاً، ذلك أن الإمام عليه السلام قد حدد أهدافه ومنطلقاته من الأيام الأولى التي خرج فيها من المدينة وأكدها في مكة المكرمة وفي الطريق، فلا يصح أن تتغير بين عشية وضحاها لأجل غضبة ثأرية، ثم متى كان آل عقيل يعينون للحسين مساره وتوجهاته حتى تكون هذه إحداها؟ إنما هم أعوان وأنصار يأتمرون بأمره ويسيرون وفق توجيهه.
زبالة والخبر عن عبد الله بن يقطر
في مواصلة الإمام الحسين عليه السلام لمسيره، كان قد وجه عبد الله بن يقطر إلى الكوفة برسالة جوابية لمسلم بن عقيل، وكانت المفارز العسكرية الأموية المنشرة في تلك المنطقة بقيادة الحصين بن نمير التميمي قد اعتقلت عبد الله هذا في القادسية، فأخذ مخفوراً إلى عبيد الله بن زياد في الكوفة، فلما التقاه قال له ابن زياد: اصعد فوق القصر فالعن (الكذاب بن الكذاب) يقصد بذلك الحسين عليه السلام حتى أرى رأيي فيك، وكان عبد الله أذكى من ابن زياد، فصعد أعلى القصر، فلما أشرف على الناس قال: أيها الناس إني رسول الحسين بن فاطمة بن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله لتنصروه وتوازروه على ابن مرجانة وابن سمية الدعي، فأمر به عبيد الله فألقى من فوق القصر إلى الأرض فكسرت عظامه.
وفي منطقة زبالة، نعى الحسين عليه السلام الشهداء الثلاثة قائلاً: "إنه قد أتانا خبر فظيع قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن يقطر وقد خذلتنا شيعتنا فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف ليس عليه منا ذمام" وكان الإمام عليه السلام يصفي من تبعه من النخالة والشوائب الذين تبعوه للدنيا، والطريف في الأمر أن بعض هؤلاء كان (ينصح) الحسين بأنه إنما يقدم على الأسنة وحد السيوف فالأفضل له أن يوصي الناس بأن يكفوا الحسين مؤونة القتال ويوطئوا له الأمور، حتى يأتي هو وأقواس النصر تنتظره، ولم يعلم أن الحسين عليه السلام لم يكن همه في غير الإنكار على المنكر وإقامة المعروف حتى لو أدى ذلك إلى مقتله، لذلك لم يناقشه الإمام عليه السلام لأنه كان يرى أن مستوى تعقله لنهضة الحسين لا يسمح له بأن يفهم ماذا يريده الامام، فاكتفى بالقول له: إنه ليس يخفي عليّ الرأي ولكن الله لا يغلب على أمره.
حين تزود بالماء ليسقي أعداءه:
وفي زبالة حيث جاءه خبر عبد الله بن يقطر، تزود بالماء ليسجل أعظم صورة في الأخلاقية الدينية والإنسانية عندما يسقي أعداءه الماء وخيولهم، ليذكر البشر بعلو المناقب الحسينية.
فإذا كانت سيرة أعدائهم أن يمنعوا عنهم الماء حتى يموتوا عطشًا، فإن مناقب آل محمد تأبى عليهم هذا السلوك مهما كان أعداؤهم سيئين، فليس العداء معهم شخصياً ولا أن المسألة مسألة أحقاد وانتقام، وإنما فرق بينهم الدين والأحكام الشرعية، وهم ملتزمون بها هدفا وأسلوباً. فقد أرسل ابن زياد والي الأمويين الجديد على الكوفة جيشاً من ألف مقاتل لمحاصرة الحسين عليه السلام واعتقاله قبل وصوله إليها وحيث جاء هذا الجيش منهكاً وعطشاناً، اقترح بعض المرافقين على الإمام أن يواجههم فوراً، ويشتت قوتهم، مستعيناً في ذلك عليهم بالعطش والتعب من مشوار الطريق، إلا أن الإمام الحسين عليه السلام – كسيرة آبائه - لا يفعل إلا ما يليق بإمامته؛ فكان أن أمر أصحابه بسقي الجنود الأمويين وأن يرشوا على خيولهم شيئًا من الماء لتبريد أجسامها.
ويحق لنا أن نخاطب الإمام الحسين عليه السلام بما قاله الشاعر:
سقيت عداك الماء منك تحننا أرض فلاة حيث لا يوجد الماء
فكيف إذا تلقى محبيك في غد عطاشى من الأجداث في دهشة جاؤوا
ولا ريب أن مثل هذه المواقف بالإضافة إلى أنها تخلد في الزمان وتعبر الدهور، فإنها تؤثر بشكل أو بآخر فيمن يشاهدها، ولعل الحر بن يزيد الرياحي وهو قائد الجيش الأموي، الذي انتهى به المطاف لأن يكون من شهداء النهضة الحسينية حين انتقل يوم العاشر إلى صف الحسين عليه السلام، كانت بداية اليقظة عنده من هذا الموقف ثم ما تلاه من مواقف وخطب حسينية.
وكان هذا (السلام) الذي واجه به الحسين عليه السلام، جيش الحر الرياحي قد أفسح الطريق نحو (رد السلام) المناسب، فكان أن استمع الحر إلى خطاب الحسين وسمح لأصحابه بالاستماع إليه، ثم صلى خلف الحسين جماعة لذلك وأمثاله كان الحر ميّالاً إلى حل المشكلة وعدم التورط بالمواجهة مع الإمام، ولذلك نقل أنه قال له: "فخذ طريقاً لا تدخلك الكوفة ولا تردك إلى المدينة لتكون بيني وبينك نَصفًا حتى أكتب إلى ابن زياد وتكتب أنت إلى يزيد بن معاوية إن أردت أن تكتب إليه أو إلى عبيد الله بن زياد إن شئت فلعل الله إلى ذاك أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلي بشيء من أمرك".
ولم يكن الحسين يسير إلا بسيرة جده المصطفى الذي ما دعي إلى أمرين أحدهما فيه الرفق إلا اختاره ولم يكن ممن الذين يعبدون العناد والتصلب.
فالإمام الحسين – كما قلنا – وأهل البيت عليهم السلام، لم يكن - كبعض الناس - ممن يعبدون العناد، وإنما كان يرى ما فيه رضا الله سبحانه وتعالى وما فيه رفق بمن هو معهم، لذلك سأل من معه إن كان أحد منهم يعرف الطريق على غير الجادة.
إلا أن ذلك لم يكن يعني أن يسلم الإمام الحسين عليه السلام يده بيد قائد الجند الأموي حينها - بدعوى محبته للسلام وكراهته للحرب - وإنما خطب الحسين عليه السلام بعد أن صلى بالجميع، وأخبرهم أنه تمت مراسلته من أهل الكوفة (وبالطبع هذا أبلغ في الاحتجاج من أن يقول إني أعارض يزيد بن معاوية فقط، وإنما لا بد من الحديث عن أن هناك طلباً شعبياً عاماً لمجيء الإمام الحسين وشاهد ذلك هو الكتب الكثيرة التي عرضت في ذلك الموقع، ولهذا قال الحر الرياحي": فإنا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك وقد أمرنا إذا نحن لقيناك ألا نفارقك حتى نقدمك على عبيد الله ابن زياد فقال له الحسين الموت أدنى إليك من ذلك".
ولما وصلوا إلى عذيب الهجانات فإذا هم بأربعة نفر قد أقبلوا من الكوفة على رواحلهم يجنبون فرساً لنافع بن هلال يقال له الكامل ومعهم دليلهم الطرماح بن عدي على فرسه وهو يقول:
يا ناقتي لا تذعري من زجري
وشمري قبل طلوع الفجر
بخير ركبان وخير سفر
حتى تحلى بكريم النجر
الماجد الحر رحيب الصدر
أتى به الله لخير أمر
وحين أراد الحر أن يمنع التحاقهم بالحسين عليه السلام، بزعم إن هؤلاء النفر الذين من أهل الكوفة ليسوا ممن أقبل معك وأنا حابسهم أو رادهم، فقال له الحسين: لأمنعنّهم مما أمنع منه نفسي إنما هؤلاء أنصاري وأعواني وقد كنت أعطيتني ألا تعرض لي بشيء حتى يأتيك كتاب من ابن زياد، فقال: أجل لكن لم يأتوا معك قال هم أصحابي وهم بمنزلة من جاء معي فإن تممت على ما كان بيني وبينك وإلا ناجزتك قال فكف عنهم الحر".
وقد عرض الطرماح بن عدي الطائي على الإمام الحسين عليه السلام أن يغير خطته وأن يذهب معه إلى جبال طي، وكان من الطبيعي أن يرفض الإمام ذلك العرض، وحيث أنه كان يأخذ ميرة لأهله فقد رأى نفسه ملزماً بإيصالها إلى تلك الأحياء، ونتج عن ذلك أنه لم يدرك عاشوراء ولم يحظ بشرف الشهادة مع الإمام الحسين مع أنه كما قيل رجع من فوره لكن كان الفرصة قد ضاعت كما هي الكثير من الفرص التي تضيع من الإنسان.
السيد عادل العلوي
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
الشيخ محمد جواد مغنية
الشيخ فوزي آل سيف
عدنان الحاجي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد جعفر مرتضى
الشيخ محمد هادي معرفة
محمد رضا اللواتي
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
عبدالله طاهر المعيبد
حبيب المعاتيق
شفيق معتوق العبادي
جاسم بن محمد بن عساكر
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
من أسرار عاشوراء الحسين (ع)
علاقة الموالي بالثورة الحسينية
إنّه ابن عليّ
مع الحسين (ع) من مكة إلى كربلاء (2)
على أعتاب عاشوراء الكرامة
الذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون!
ارتباط الوجود وأركانه بالأسماء الإلهيّة
ChatGPT قد يُفسد العقل، لكنّ الحقيقة قد تكون أعقد من ذلك بكثير
ما هذا البكاء؟!
النّخبة من أنصار الحسين عليه السّلام