من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
عن الكاتب :
الشيخ محمد مهدي شمس الدين، (1936م-2001م) عالم دين ومفكر إسلامي ومحدّث، كان رئيساً للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان. بدأ نشاطه العلمي والسياسي في مدينة النجف الأشرف ودرس عند السيد محسن الحكيم والسيد الخوئي. عاد عام 1969م إلى لبنان وتولّى رئاسة الاتحاد الخيري الثقافي الذي أسس عام 1966م و باشر بنشاطات ثقافية وفكرية وتبليغية. من مؤلفاته: نظام الحكم والإدارة في الإسلام، مطارحات في الفكر المادّي والفكر الديني، ثورة الحسين في الوجدان الشعبي، بين الجاهلية والإسلام وغير ذلك.

الموعظة بالتاريخ

التذكير بالماضين وبما عرض لهم من طوارق الدهر ونوازل الأيام، وبما ألمّ بهم من نكبات وآلام، وكيف أن كل ما نصبوا أنفسهم لجمعه من مال لم يغن عنهم شيئًا حين حلّ بهم الموت.. هذا التذكير بالماضين يتخذه الإمام عليّ عليه السلام وسيلة إلى تجسيم الواقع الذي يزيفه الناس، ويفرون منه، ويتمردون عليه.

 

والتاريخ عند العاملين للدنيا على نحو جنوني ينقلب إلى مادة للتسلية واللهو بدل أن يكون منبعًا للعبرة ومقيلاً من العثرة، وينقلب أيضًا صدى ميتًا لكائنات لا تصلهم بها صلة، ولا تشدهم إليها وشيجة، فلا تثير مآسية فيهم طائف حزن، ولا تمدهم تجاربه بالبصيرة.

 

ويحاول الإمام في هذا اللون من مواعظه أن يصل ما انقطع بينهم وبين التاريخ بصلات الفكر والعاطفة، ووشائج العقل والقلب، ليعود التاريخ في أنفسهم مادة غنية بالحياة والحركة، فهي توجه وترشد، وتمسك بالإنسان عن الزيغ والانحراف.

 

قال عليه السلام: (.. وخلف لكم عبرًا من آثار الماضين قبلكم، من مستمتع خلاقهم (1) ومستفتح خناقهم (2)، أرهقتهم (3) المنايا دون الآمال، وشذ بهم عنها تخرم الآجال (4)، لم يمهدوا في سلامة الأبدان (5) ولم يعتبروا في أنف الأوان (6).. أو لستم أبناء القوم والآباء، وإخوانهم والأقرباء؟ تحتذون أمثلتهم، وتركبون قدتهم (7)، وتطأون جادتهم (8)؟ فالقلوب قاسية عن حظها، لاهية عن رشدها، سالكة في غير مضمارها، كأن المعني سواها (9)، وكأن الرشد في إحراز دنياها (10)).

 

وهكذا يقرر عليه السلام صلة التاريخ بهم، وأنه ليس غريبًا عنهم فهو تأريخ آبائهم وأمثالهم. ويقرر أيضًا أن هذا التاريخ مشلول عن عمله، فهو لا يقوم بدوره في صياغة حياتهم، لأنهم لا يزالون ينتهجون نفس الخطة التي انتهجها من قبل آباؤهم، فكأن الدنيا عندهم غاية كل شيء ومنتهى كل غاية.

 

وقال عليه السلام:(فقد رأيت من كان قبلك ممن جمع المال، وحذر الإقلال (11) وأمن العواقب - طول أمل واستبعاد أجل - كيف نزل به الموت، فأزعجه عن وطنه، وأخذه من مأمنه، محمولاً على أعواد المنايا (12) يتعاطى به الرجال الرجال، حملاً على المناكب، وإمساكًا بالأنامل. أما رأيتم الذين يأملون بعيدًا، ويبنون مشيدًا، ويجمعون كثيرًا كيف أصبحت بيوتهم قبورًا وما جمعوا بورًا (13)، وصارت أموالهم للوارثين، وأزواجهم لقوم آخرين) (14).

 

وإذن فلم يغن عن هؤلاء تزييفهم لواقعهم، وغرورهم بأنفسهم، وحسبانهم أنهم خالدون. لقد دهمهم هذا الواقع وهم يحسبون أنهم في أمان، فهل أغنت عنهم أموالهم وهل حصنتهم قصورهم؟ لا، لقد ذهبوا، فليكن لك فيما صار إليه أمرهم عبرة تدفعك إلى اليقظة، وترحض عنك الغفلة.

 

ومن البين أن الإمام عليه السلام في هذا اللون من مواعظه لا يريد الناس على أن يفروا من دنياهم، ويتركوا العمل لها، فقد رأيناه يكره هذا اللون من السلبية إنما يريد أن يحملهم على أن ينظروا إلى الحياة من زاوية الواقع وأن يصدروا في سلوكهم عن هذه النظرة الواقعية الوادعة المصيبة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الخلاق: النصيب الوافر من الخير.

(2) الخناق: حبل يخنق به. كناية عن أنهم لم يغتنموا الفسحة في العمر.

(3) أرهقتهم: أعجلتهم.

(4) انقضاء آجالهم قطعهم (شذ بهم) عن بلوع آمالهم.

(5) لم يمهدوا. أي لم يهيأوا أنفسهم للقاء الله تعالى، وهم في حال السلامة.

(6) أمر أنف - بضمتين - أي أمر جديد مستأنف لم يسبق به قدر.

(7) القدة: الطريقة.

(8) تطأون جادتهم: تسيرون على سبيلهم، بلا انحراف عنهم في شيء.

(9) كأن المعني: كان المقصود بالتكاليف الشرعية سواها.

(10) نهج البلاغة، رقم النص 81.

(11) الإقلال: الفقر.

(12) أعواد المنايا: النعش. (يتعاطى به الرجال) يتداولونه تارة على أكتاف هؤلاء، وأخرى على أكتاف هؤلاء.

(13) البور: الفاسد الهالك. وقال تعالى: ( وكنتم قوما بورًا) أي هالكين.

(14) نهج البلاغة، رقم النص: 130.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد