
وقال في موقف آخر: ... وبسطتم يدي فكففتها، ومددتموها فقبضتها. ثم تداككتم علي (1) تداك الإبل الهيم (2) على حياضها يوم وردها، حتى انقطعت النعل، وسقط الرداء، ووطئ الضعيف، وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي أن ابتهج بها الصغير، وهدج إليها الكبير (3)، وتحامل نحوها العليل، وحسرت (4) إليها الكعاب (5).
لماذا أبى علي بن أبي طالب أن يستجيب؟
لعله كان يأمل أن يمر المجتمع - بعد ما أصاب علاقاته من اهتزاز وتشويه في العهد الماضي - في مرحلة انتقال يقوده فيها رجال لا تتألب عليهم مراكز القوى الجديدة التي تمثل قيم الجاهلية... ولكن تيار الرغبة كان عارمًا، كما تعكسه لنا النصوص الآنفة الذكر، ولم يكن من الممكن تحويل ولاء الجماهير وثقتها إلى بديل.
لقد كان الرفض يعني الكارثة، لأن القوى الجاهلية كانت قادرة - إذا استمر الفراغ في السلطة - أن تعود من جديد بعد أن تكتل قواها المبعثرة، وحينئذ يحرم المجتمع الإسلامي حتى من تجربة تكون في المستقبل نموذجًا وملهمًا... ولا نعدم في نهج البلاغة نصوصًا تضيء هذه المسألة، وتوحي بقوة أن الإمام كان يفكر على هذا النحو، وذلك كقوله في كلام له عنونه الشريف الرضي بـ ... يبين سبب طلبه الحكم ويصف الإمام الحق: ... اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك (6).
وقوله في كتاب منه إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لما ولاه إمارتها: ... ولكنني آسى (7) أن يلي (8) أمر هذه الأمة سفهاؤها وفجارها، فيتخذوا مال الله دولاً (9) وعباده خولاً (10) والصالحين حربًا (11)، والفاسقين حزبًا...(12).
وهكذا استجاب علي بن أبي طالب للرغبات الملحة المتلهفة، فقبل كارهًا - على ما يبدو - أن يتولى السلطة ويقود الأمة. وقد تبلورت وتحددت باستجابته وتوليه للسلطة ثلاث قوى سياسية - فكرية، هي:
1 - النهج الإسلامي الصافي النبوي: تمثله السلطة الشرعية (الخلافة) وعلى رأسها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع). والهدف الآني المباشر والملح لهذا النهج كان تصحيح الأوضاع السياسية والإدارية والاقتصادية في المجتمع الإسلامي الذي يتطلع بلهفة إلى تغييرات تحقق آماله. كما كان هذا الهدف يستبطن هدفًا آخر هو إعادة الاعتبار النظري والعملي للمفاهيم والقيم الإسلامية.
2 - النهج الجاهلي المموه بالإسلام: وقد كان هذا النهج يتمتع بسلطة واسعة وثابتة في المنطقة السورية. وكانت له جيوب في الحجاز، والعراق، ومصر، وغيرها من بلاد الإسلام. وقد بدا منذ اللحظة الأولى أن قائد هذا النهج هو معاوية بن أبي سفيان، والهدف الآني والنهائي لهذا النهج هو تثبيت الأوضاع القديمة، وإجهاض النهج النبوي أو قمعه بإثارة المشاكل والفتن في وجهه.
إنه الثورة المضادة. إنه قطع الطريق على حركة التغيير... وقد عبر الإمام عن قادة هذا النهج بأنهم أرادوا رد الأمور على أدبارها وذلك في كلام له عن أصحاب الجمل: إن هؤلاء قد تمالأوا (13) على سخطة (14) إمارتي، وسأصبر ما لم أخف على جماعتكم، فإنهم إن تمموا على فيالة (15) هذا الرأي انقطع نظام المسلمين، وإنما طلبوا هذه الدنيا حسدًا لمن أفاءها (16) الله عليه، فأرادوا رد الأمور على أدبارها. ولكم علينا العمل بكتاب الله تعالى، وسيرة رسول الله (ص)، والقيام بحقه، والنعش (17) لسنته (18).
3 - الموقف المتردد الحائر - إذا صح أن يسمى التردد موقفًا - وتمثل هذا الموقف بعض القيادات الثانوية: (سعد بن أبي وقاص، عبد الله بن عمر.. وآخرون).
هذا النهج لم يبلغ من الصفاء والوعي درجة تحمله على أن ينضوي في النهج النبوي وكانت مصالح رجاله من جهة وأثارة من التقوى في أنفس بعضهم من جهة أخرى، قد حملتا هؤلاء الرجال على التزام جانب الحيطة والحذر من النهج الجاهلي فلم ينحازوا إليه في هذه المرحلة، وإن كان بعضهم قد والى النهج في النهاية.
هؤلاء قال عنهم الإمام (ع): خذلوا الحق، ولم ينصروا الباطل (19). ولما قال له الحارث بن حوط: أتراني أظن أصحاب الجمل كانوا على ضلالة؟ قال له الإمام: يا حارث إنك نظرت تحتك ولم تنظر فوقك فحرت (20)، إنك لم تعرف الحق فتعرف من أتاه، ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه.
فقال له الحارث بن حوط: فإني أعتزل مع سعيد بن مالك وعبد الله بن عمر... فأجابه الإمام قائلاً: إن سعيدًا وعبد الله بن عمر لم ينصروا الحق، ولم يخذلا الباطل (21).
وكان بعض ممثلي هذا الموقف يتمتعون باحترام محدود في قواعدهم القبلية، وهذا الاحترام لم ينبع من ولاء فكري بل من ولاء قبلي، كما كانوا يتمتعون باحترام محدود من جماهير المسلمين نابع من صحبتهم للنبي (ص) ومن غموض موقفهم من الخيارات المطروحة على الساحة السياسية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) التداك الازدحام - تصوير لحالهم في الإقبال على البيعة.
(2) الهيم: العطاش: تصوير لرغبتهم العارمة في إنجاز البيعة.
(3) الهدج: مشي الضعيف. بيان لإقبال الجميع على البيعة، حتى أولئك الذين لهم من سنهم العالية أو مرضهم عذر يعفيهم من مشقة التزاحم على البيعة.
(4) الكعاب: جمع كاعبة: الفتاة ينهد ثدياها. وحسرت كشفت عن وجهها كناية عن إقبال الناس جميعا وفرحتهم بالبيعة.
(5) نهج البلاغة - رقم النص: 229.
(6) نهج البلاغة - رقم النص: 131.
(7) آسى: أحزن - الماضي منه: أسيت بمعنى حزنت.
(8) يلي: يكون واليًا وحاكمًا على الأمة.
(9) دولاً: جمع دولة، يعني: لئلا يكون المال العام بأيدي السفهاء والفجار يتداولونه بينهم لمصالحهم مهملين مصالح الأمة فيه. والعبارة تومئ إلى قول الله عز وجل (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم - سورة الحشر - الآية 7).
(10) خولاً: عبيد، يعني لئلا يستعبدوا الناس ويذلوهم.
(11) حربًا - أعداء يحاربونهم.
(12) نهج البلاغة - باب الكتب - رقم النص: 62.
(13) تمالأوا: تواطأوا واتفقوا وتعاونوا.
(14) السخطة: البغض والنعرة.
(15) فيالة الرأي: ضعفه وسخفه.
(16) أفاءها الله.. أرجعها إليه، من فاء بمعنى رجع.
(17) النعش، من نعش ينعش: بمعنى رفع السنة إلى مقام العمل والتطبيق.
(18) نهج البلاغة - رقم النص: 169.
(19) نهج البلاغة - باب الحكم - رقم: 18.
(20) حرت: من حار أي تحير.
(21) نهج البلاغة - باب الحكم - رقم: 262.
معنى (هنأ) في القرآن الكريم
الشيخ حسن المصطفوي
{وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ}
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
كيف تعامل أمير المؤمنين (ع) مع التاريخ في مجال تعليمه السياسي؟ (2)
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
القدرات الوظيفية لدى المصابين بمتلازمة داون لا تتوقف عن التطور أبدًا
عدنان الحاجي
المنّ يزيل الأجر
الشيخ محمد مصباح يزدي
الحداثة الفائضة في غربتها الأخلاقية
محمود حيدر
التفكير الإيجابي وقود النجاح
عبدالعزيز آل زايد
أريد أن يكون ولدي مصلّيًا، ماذا أصنع؟
الشيخ علي رضا بناهيان
من عجائب التنبؤات القرآنية
الشيخ جعفر السبحاني
تسبيحة السيدة الزهراء (ع)
الشيخ شفيق جرادي
السيّدة الزهراء: صلوات سدرة المنتهى
حسين حسن آل جامع
الصّاعدون كثيرًا
حبيب المعاتيق
أيقونة في ذرى العرش
فريد عبد الله النمر
سأحمل للإنسان لهفته
عبدالله طاهر المعيبد
خارطةُ الحَنين
ناجي حرابة
هدهدة الأمّ في أذن الزّلزال
أحمد الرويعي
وقف الزّمان
حسين آل سهوان
سجود القيد في محراب العشق
أسمهان آل تراب
رَجْعٌ على جدار القصر
أحمد الماجد
خذني
علي النمر
معنى (هنأ) في القرآن الكريم
{وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ}
امتلاك هاتف ذكي في سن الثانية عشرة يرتبط بهذه المشاكل الصحية لدى الأطفال
ورشة لنادي روافد بعنوان: (اللّغة العربيّة، موسيقى المبنى وجمال المعنى)
كيف تعامل أمير المؤمنين (ع) مع التاريخ في مجال تعليمه السياسي؟ (2)
القدرات الوظيفية لدى المصابين بمتلازمة داون لا تتوقف عن التطور أبدًا
المنّ يزيل الأجر
(من هم أهل البيت؟) جديد الشّيخ علي آل محسن
معنى (تقن) في القرآن الكريم
كيف تعامل أمير المؤمنين (ع) مع التاريخ في مجال تعليمه السياسي؟ (1)