من التاريخ

شعب ابي طالب وفشل حصار المشركين


الطبرسي ..
اجتمعوا في دار الندوة وكتبوا بينهم صحيفة أن لا يواكلوا بني هاشم ولا يكلّموهم ولا يبايعوهم ولا يزوّجوهم ولا يتزوّجوا إليهم ولا يحضروا معهم حتّى يدفعوا محمّداً إليهم فيقتلونه، وأنّهم يد واحدة على محمّد (صلّى الله عليه وآله) ليقتلوه غيلة أو صراحاً.
فلمّا بلغ ذلك أبا طالب جمع بني هاشم ودخل الشعب، وكانوا أربعين رجلاً، فحلف لهم أبو طالب بالكعبة والحرم والركن والمقام لئن شاكت محمّداً شوكة لآتيّن عليكم يا بني هاشم وحصّن الشعب، وكان يحرسه بالليل والنهار، فإذا جاء الليل يقوم بالسيف عليه ورسول الله مضطجع ثمّ يقيمه ويضجعه في موضع آخر، فلا يزال الليل كلّه هكذا، ويوكل ولده وولد أخيه به يحرسونه بالنهار، وأصابهم الجهد، وكان من دخل من العرب مكّة لا يجسر أن يبيع من بني هاشم شيئاً، ومن باع منهم شيئاً انتهبوا ماله وكان أبو جهل، والعاص بن وائل السهميّ، والنضر بن الحارث بن كلدة، وعقبة بن أبي معيط يخرجون إلى الطرقات التي تدخل مكّة، فمن رأوه معه ميرة نهوه أن يبيع من بني هاشم شيئاً، ويحذّروه إن باع شيئاً منهم أن ينهبوا ماله وكانت خديجة لها مالٌ كثيرٌ فأنفقته على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في الشعب ولم يدخل في حلف الصحيفة مطعم بن عديّ بن نوفل بن عبد المطّلب بن عبد مناف، وقال: هذا ظلمٌ.
 وختموا الصحيفة بأربعين خاتماً ختمه كلّ رجل من رؤساء قريش بخاتمه وعلّقوها في الكعبة، وتابعهم أبو لهب على ذلك.


وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يخرج في كلّ موسم فيدور على قبائل العرب فيقول لهم: «تمنعون لي جانبي حتّى أتلو عليكم كتاب ربّي وثوابكم على الله الجنّة» وأبو لهب في أثره فيقول: لا تقبلوا منه فإنّه ابن أخي وهو كذاب ساحر فلم تزل هذه حاله فبقوا في الشعب أربع سنين لا يأمنون إلاّ من موسم إلى موسم، ولا يشترون ولا يبايعون إلاّ في الموسم، وكان يقوم بمكّة موسمان في كلّ سنة: موسم للعمرة في رجب، وموسم للحجّ في ذي الحجّة، وكان إذا اجتمعت المواسم تخرج بنو هاشم من الشعب فيشترون ويبيعون ثمّ لا يجسر أحدٌ منهم أن يخرج إلى الموسم الثاني، فأصابهم الجهد وجاعوا، وبعثت قريش إلى أبي طالب: ادفع إلينا محمّداً حتى نقتله ونملّكك علينا، فقال: أبو طالب قصيدته الطولية اللامية التي يقول فيها:
فـلـمـّا رأيـت القوم لا ودّ فيهم * وقـد قطـعـوا كلّ الـعـرى والوسائل
ويقول فيها:
ألــم تــعـلـمـوا أنّ ابـنـنـا لا مـكـذّب * لديـنـا ولا يعنى بقول الأباطل
وأبـيـض يـُـسـتـسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عـصمة للأرامل
يـطـوف بــه الـهـلاّك من آل هاشم * فهم عـنـده في نعمة وفواضل
كَذبتُم ـ وبيت الله ـ يُبزى محمّداً * ولـمـّـا نـُطـاعن دونــهُ ونُقاتِل
ويقول فيها:
ونـُسـلـمـهُ حـتـّى نُـصـرَّعَ دونــه * ونـذهـلَ عن أبـنـائـِـنـا والحلائلِ
لـعـمـري لـقـد كلـّفت وجداً بأحمدٍ * وأحببته حبّ الحبيب المواصلِ
وَجــدتُ بـنـفـسـي دونـهُ وحميَتُهُ * ودارأتُ عنه بالذرى والكـلاكِلِ
فلا زال فـي الدنـيا جمالاً لاَهلها * وشيناً لمن عادى وزينُ المحافلِ
حَليماً رشيداً حازماً غير طائـشٍ * يُـوالـي إلـه الـحـقِّ لـيـس بـماحلِ
فـأيــــّده ربّ الـعــبــادِ بـنـصـره * وأظـهـر دينـاً حـقّـه غـيـر باطلِ


فلمّا سمعوا هذه القصيدة آيسوا منه، وكان أبو العاص بن الربيع ـ وهو ختن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)ـ يجيء بالعير بالليل عليها البرّ والتمر إلى باب الشعب، ثمّ يصيح بها فتدخل الشعب فيأكله بنو هاشم، وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «لقد صاهرنا أبو العاص فأحمدنا صهره، لقد كان يعمد إلى العير ونحن في الحصار فيرسلها في الشعب ليلاً» فلمّا أتى لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) في الشعب أربع سنين بعث الله على صحيفتهم القاطعة دابّة الأرض فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور وتركت اسم الله، ونزل جبرئيل عليه السلام على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فأخبره بذلك، فأخبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أبا طالب.
 فقام أبو طالب ولبس ثيابه ثمّ مشى حتّى دخل المسجد على قريش وهم مجتمعون فيه، فلمّا بصروا به قالوا: قد ضجر أبو طالب وجاء الآن ليسلم ابن أخيه فدنا منهم وسلّم عليهم فقاموا إليه وعظّموه وقالوا: يا أبا طالب قد علمنا أنّك أردت مواصلتنا والرجوع إلى جماعتنا وأن تسلم ابن أخيك إلينا؛ قال: والله ما جئت لهذا، ولكن ابن أخي أخبرني ـ ولم يكذبني ـ أنّ الله أخبره أنّه بعث على صحيفتكم القاطعة دابّة الأرض فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور وتركت اسم الله، فابعثوا إلى صحيفتكم فإن كان حقّاً فاتّقوا الله وارجعوا عمّا أنتم عليه من الظلم والجور وقطعية الرحم، وإن كان باطلاً دفعته إليكم فإن شئتم قتلتموه وإن شئتم استحييتموه فبعثوا إلى الصحيفة فأنزلوها من الكعبة ـ وعليها أربعون خاتماً ـ فلمّا أتوا بها نظر كلّ رجل منهم إلى خاتمه ثمّ فكّوها فإذا ليس فيها حرفٌ واحد إلاّ: باسمك اللّهم.


فقال لهم أبو طالب: ياقوم اتّقوا الله وكفّوا عمّا أنتم عليه فتفرّق القوم ولم يتكلّم أحدٌ ورجع أبو طالب إلى الشعب وقال في ذلك قصيدته البائيّة التي أوّلها:
ألا مـن لـهـم آخـر اللـيـل منصـب * وشـعب الـعـصـا من قـومك المتشعّب
وفيها:
وقد كان في أمر الصحيفة عـبرة * متى ما يخبّر غـائب القوم يعجب
مـحـا الله مـنـهـا كفرهم وعقوقهم * وما نقموا من ناطق الحقّ معرب
وأصبح ما قالوا من الامر باطلاً * ومن يختلق ما ليـس بالحقّ يكذب
وأمسـى ابـن عـبدالله فينا مصدّقاً * على سخط من قومنا غير معتـب
فـلا تحـسـبونـا مـسلـمـين محمّداً * لـذي عــزّة مـنـّـــا ولا مـتـعـــزّب
سـتـمـنـعـــــه منـّا يـد هـاشـمـيـّة * مُــركـّبهـا في النــاس خير مركّب


وقال عند ذلك نفرٌ من بني عبد مناف، وبني قصي، ورجال من قريش، ولدتهم نساء بني هاشم منهم: مطعم بن عدي بن عامر بن لؤي ـ وكان شيخاً كبيراً كثير المال له أولاد ـ وأبو البختري ابن هاشم، وزهير بن أميّة المخزومي في رجال من أشرافهم: نحن براء ممّا في هذه الصحيفة، وقال أبو جهل: هذا أمرٌ قضي بليل.
 وخرج النبيّ من الشعب ورهطه وخالطوا الناس، ومات أبو طالب بعد ذلك بشهرين وماتت خديجة بعد ذلك.
وورد على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أمران عظيمان وجزع جزعاً شديداً. ودخل عليه وآله السلام على أبي طالب وهو يجود بنفسه، فقال: «يا عمّ ربيّت صغيراً، ونصرت كبيراً، وكفّلت يتيماً، فجزاك الله عنّي خيراً، أعطني كلمة أشفع بها لك عند ربّي». فقال: يا بن أخ لولا أنّي أكره أن يعيروا بعدي لأقررت عينك ثمّ مات.
وقد روي: أنّه لم يخرج من الدنيا حتّى أعطى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الرّضا.
وفي كتاب دلائل النبوّة: عن ابن عباس قال: فلمّا ثقل أبو طالب رُئِي يحرّك شفتيه فأضغى إليه العبّاس يستمع قوله فرفع العباس عنه، وقال: يا رسول الله قد والله قال الكلمة التي سألته إيّاها. وفيه: مرفوعاً عن ابن عبّاس: أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله)عارض جنازة أبي طالب وقال: «وَصَلَتْكَ رحم وجزيت خيراً يا عمّ».
 
وذكر محمّد بن إسحاق بن يسار: أنّ خديجة بنت خويلد وأبا طالب ماتا في عام واحد فتتابعت على رسول الله المصائب بهلاك خديجة وأبي طالب، وكانت خديجة له وزيرة صدق على الإسلام وكان يسكن إليها.
وذكر أبو عبدالله بن مندة في كتاب المعرفة: أنّ وفاة خديجة كانت بعد موت أبي طالب بثلاثة أيام. وزعم الواقديّ أنّهم خرجوا من الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين، وفي هذه السنة توفّيت خديجة وأبو طالب وبينهما خمس وثلاثون ليلة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد