من التاريخ

صلحُ الإمام الحسن عليه السلام (2)


 السيد عبد الحسين شرف الدين

يومُ ساباط، ويوم الحُدَيبيَة

ما كان الحسن عليه السلام ببادئ هذه الخطة ولا بخاتمها، بل أخذها فيما أخذه من إرثه، وتركها مع ما تركه من ميراثه. فهو كغيره من أئمة هذا البيت، يسترشد الرسالة في إقدامه وفي إحجامه. امتُحن بهذه الخطّة فرضخ لها صابراً محتسباً، وخرج منها ظافراً طاهراً، لم تنجّسه الجاهلية بأنجاسها، ولم تُلبسه من مُدْلَهِمّات ثيابها. أخذ هذه الخطة من صلح (الحديبية) فيما أُثر من سياسة جدّه صلّى الله عليه وآله وسلّم، وله فيه أُسوَةٌ حَسَنة، إذ أنكرَ عليه بعضُ الخاصّة من أصحابه، كما أنكر على الحسن عليه السلام صلحَ (ساباط) بعضُ الخاصّة من أوليائه، فلم يهِن بذلك عزمُه، ولا ضاقَ به ذَرعُه. وقد ترك هذه الخطّة نموذجاً صاغَ به الأئمّة التسعة - بعد سيدَي شباب أهل الجنة - سياستَهم الحكيمة، في توجيهها الهادئ الرصين، كلّما اعصوصبَ الشرّ. فهي إذاً جزءٌ من سياستهم الهاشميّة الدائرة أبداً على نُصرة الحقّ، لا على الانتصار للذات فيما تأخذُ أو تدَع.
تهيّأَ للحسن عليه السلام بهذا الصلح أن يغرسَ في طريق معاوية كميناً من نفسه يثورُ عليه من حيث لا يشعر فيُرديه، وتسنّى له به أن يُلغِم نصر الأموية ببارود الأموية نفسها. فيجعل نصرَها جفاءً، وريحاً هباءً. لم يطُل الوقت حتّى انفجرت أولى القنابل المغروسة في شروط الصلح، انفجرت من نفس معاوية يومَ نشوته بنصره، إذ انضمّ جيش العراق إلى لوائه في النُّخَيلة. فقال - وقد قام خطيباً فيهم: (يا أهل العراق، إنّي والله لم أُقاتلكم لتُصلّوا ولا لتصوموا، ولا لتُزكّوا، ولا لتَحجّوا، وإنما قاتلتكم لأَتَأَمّر عليكم، وقد أعطاني اللهُ ذلك وأنتم كارهون! ألا وإنّ كلّ شيءٍ أعطيتُه للحسن بن عليّ، جعلتُه تحتَ قدميَّ هاتَين)! فلمّا تمّت له البيعة خطبَ فذكر عليّاً عليه السلام فنالَ منه، ونالَ من الحسن عليه السلام، فقام الحسين عليه السلام ليَرُدَّ عليه، فقال له الحسن عليه السلام: (عَلَى رَسْلِكَ يَا أَخِي). ثمّ قام عليه السلام فقال: (أَيُّهَا الذّاكِرُ عَلِيَّاً! أَنَا الحَسَنُ وَأَبِي عَلِيٌّ، وَأَنْتَ مُعَاوِيَةُ وَأَبُوكَ صَخْرٌ، وَأُمّي فَاطِمَةُ وَأُمُّكَ هِنْد، وَجِدّي رَسُولُ اللهِ وَجَدُّكَ عُتْبَة، وَجَدّتِي خَدِيجَة وَجَدَّتُكَ فَتِيلَة، فَلَعَنَ اللهُ أَخْمَلَنَا ذِكْرَاً، وَأَلْأَمَنَا حَسَبَاً، وَشَرَّنَا قَدِيمَاً، وَأَقْدَمَنَا كُفْرَاً وَنِفَاقَاً)! فقالت طوائفُ من أهل المسجد: (آمين).


معاوية يتوّج مُنكراته بتنصيب ابنه الماجن
ثمّ تتابعت سياسة معاوية، تتفجّر بكلّ ما يخالف الكتاب والسّنّة من كلّ مُنكَرٍ في الإسلام، قتلاً للأبرار، وهَتْكَاً للأعراض، وسَلْبَاً للأموال، وسَجناً للأحرار، وتشريداً للمُصلحين، وتأييداً للمُفسِدين الذين جعلَهم وزراءَ دولته، كابن العاص، وابن شُعبة، وابن سعيد، وابن أرْطَأة، وابن جندب، وابن السّمط، وابن الحكَم، وابن مرجانة، وابن عُقبة، وابن سميّة الذي نفاه عن أبيه الشرعيّ عُبيد، وألحقَه بالمُسافح أبيه أبي سفيان ليجعلَه بذلك أخاه، يسلّطه على الشيعة في العراق، يَسومُهم سوءَ العذاب، يذبّحُ أبناءَهم، ويَستحيي نساءَهم، ويفرّقهم عباديدَ تحت كلّ كوكب، ويحرق بيوتهم، ويصطفي أموالهم، لا يَأْلو جهداً في ظلمهم بكلّ طريق. ختم معاوية منكراته هذه بحمل خليعه المَهتوك على رقاب المسلمين، يَعيثُ في دينهم ودنياهم، فكان من خليعه ما كان يوم الطفّ، ويوم الحَرّة، ويوم مكَة إذ نصب عليها العرادات والمجانيق! هذه خاتمة أعمال معاوية، وإنّها لتُلائم كلّ الملاءمة فاتحةَ أعماله القاتمة. وبين الفاتحة والخاتمة تتضاغطُ شدائد، وتدور خطوب، وتزدحم مِحَن، ما أدري كيف اتّسعت لها مسافة ذلك الزمن، وكيف اتّسع لها صدر ذلك المجتمع؟ وهي - في الحقّ - لو وُزّعت على دهرٍ لضاقَ بها، وناءَ بحملها، ولو وزّعت على عالَمٍ لكان جديراً أن يحول جحيماً لا يُطاق. ومهما يكن من أمر، فالمهمّ أنّ الحوادث جاءت تفسّر خطّة الحسن عليه السلام وتجلوها. وكان أهمّ ما يرمي إليه سلام الله عليه، أن يرفع اللّثام عن هؤلاء الطغاة، ليحولَ بينهم وبين ما يُبيّتون لرسالة جدّه من الكيد. وقد تمّ له كلّ ما أراد، حتّى برح الخفاء، وآذن أمر الأمويّة بالجلاء، والحمد لله ربّ العالَمين.


ثورة الطّفّ
وبهذا استتبّ لصِنوه سيّد الشهداء عليه السلام أن يثور ثورته التي أوضح اللهُ بها الكتاب، وجعله فيها عبرةً لأولي الألباب. وقد كانا عليهما السلام وجهَين لرسالة واحدة، كلّ وجه منهما في موضعه منها، وفي زمانه من مراحلها، يكافئ الآخرَ في النهوض بأعبائها ويوازنه بالتضحية في سبيلها. فالحسن عليه السلام لم يبخلْ بنفسه، ولم يكن الحسين عليه السلام أسخى منه بها في سبيل الله، وإنّما صان نفسه يجنّدها في جهادٍ صامت، فلمّا حان الوقت كانت شهادة كربلاء شهادةً حَسَنيّة، قبل أن تكون حُسينيّة. وكان يوم ساباط أعرقَ بمعاني التضحية من يوم الطفّ لدى أُولي الألباب ممّن تعمّق. لأنّ الحسن عليه السلام، أُعطي من البطولة دورَ الصابر على احتمال المكاره في صورةِ مُستَكينٍ قاعد. وكانت شهادة (الطفّ) حَسنيّة أولاً، وحسينيّة ثانياً، لأن الحسن عليه السلام أنضجَ نتائجها، ومهّد أسبابها.
كان نصرُ الحسن عليه السلام الدامي موقوفاً على جِلو الحقيقة التي جلاها - لأخيه الحسين - بصبره وحكمته، وبجلوها انتصر الحسين عليه السلام نصره العزيز، وفتح الله له فتحه المبين. وكانا عليهما السلام كأنّهما متّفقان على تصميم الخطّة: أن يكون للحسن عليه السلام منها دورُ الصابر الحكيم، وللحسين عليه السلام دور الثائر الكريم، لتتألّف من الدّورَين خطّة كاملة ذات غرَض واحد.


فضحُ الأمويّة على حقيقتها
وقد وقف الناس - بعد حادثتَي ساباط والطفّ - يُمعنون في الأحداث فيرون في هؤلاء الأمويّين عصبة جاهليّة منكَرة، بحيث لو مُثّلت العصبيّات الجِلفة النّذِلة الظَّلوم لم تكن غيرهم، بل تكون دونَهم في الخطر على الإسلام وأهله. رأى الناس من هؤلاء الأمويّين، قردةً تَنزو على منبر رسول الله صلّى الله عليه وآله، تكشِّر للأمّة عن أنياب غول، وتصافحها بأيدٍ تمتدّ بمخالب ذئب، في نفوس تدبّ بروح عقرب. رأوا فيهم هذه الصورة منسجمة شائعة متوارثة، لم تخفّف من شرها التربية الإسلامية، ولم تطامن من لؤمها المكارم المحمديّة. فمضغُ الأكباد يوم هند وحمزة، يرتقي به الحقد الأموي الأثيم، حتّى يكون تنكيلاً بربريّاً يوم الطفّ، لا يكتفي بقتل الحسين عليه السلام، حتّى يُوطئ الخيل صدَره وظهرَه. ثمّ لا يكتفي بذلك، حتى يُترك سليباً بالعراء، لوحوش الأرض وطير السماء، ويُحمل رأسه ورؤوس الشهداء من آله وصحبه على أطراف الأسِنّة إلى الشام. ثمّ لا يكتفي بهذا كلّه، حتّى يُوقف حرائر الوحي من بنات رسول الله صلّى الله عليه وآله على دَرَجِ السَّبي!!!
رأى الناس الحسن عليه السلام يُسالم، فلا تنجيه المسالمة من خطر هذه الوحشية اللئيمة، حتّى دسّ معاوية إليه السّمّ فقتله بَغياً وعدواناً. ورأوا الحسين عليه السلام يثور في حين أُتيح للثورة الطريقُ إلى أفهامهم تتفجّر فيها باليَقظة والحرية، فلا تقِفُ الوحشية الأموية بشيء عن المظالم، بل تبلغ في وحشيّتها أبعدَ المدى.
وكان من الطبيعيّ أن يتحرّر الرأي العام على وهج هذه النار المحرقة منطلقاً إلى زوايا التاريخ وأسراره، يستنزلُ الأسباب من هنا وهناك بلَمعان ويقظَة، وسيرٍ دائبٍ يُدنيه إلى الحقيقة، حقيقة الانحراف عن آل محمّد صلّى الله عليه وآله، حتّى يكون أمامها وجهاً لوجه، يسمعُ همسَها هناك في الصدر الأوّل، وهي تسارّ وراءَ الحجب والأستار، وتدبّر الأمر في اصطناع هذا (الداهية الظَّلوم الأموي) اصطناعاً يُطفئ نور آل محمّدٍ صلّى الله عليه وآله، أو يحولَ بينه وبين الأمّة.

نعم! أدرك الرأي العام بفضل الحسن والحسين عليهما السلام، وحِكمة تدبيرهما كلّ خافيةٍ من أمر (الأموية)، وأمور مسدّدي سَهمِها على نحوٍ واضح. أدرك - فيما يتّصل بالأمويين - أنّ العلاقة بينهم وبين الإسلام إنّما هي علاقة عداءٍ مستحكم، ضرورة أنه إذا كان المُلك هو ما تهدف إليه الأموية، فقد بلغه معاوية، وأتاح له الحسن عليه السلام، فما بالها تلاحقُه بالسّمّ وأنواع الظلم والهَضْم، وتتقصّى الأحرار الأبرار من أوليائه لتستأصلَ شأفتَهم وتقتلع بذرتَهم؟!... وإذا كان المُلك وحدَه هو ما تهدف اليه الأموية، فقد [قُتل] الحسين عليه السلام، وتمّ ليزيد ما يريد، فما بالها لا تكفّ ولا ترعوي، وإنما تسرف أقسى ما يكون الإسراف والإجحاف في حركة من حركات الإفناء على نمطٍ من الاستهتار، لا يُعهَد في تاريخ الجزّارين والبرابرة؟؟..

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد