الشّيخ باقر شريف القرشي
وعانت عقائل الوحي ومخدّرات النبوّة والإمامة جميع ضروب المحن والبلاء أيام مكثهنَّ في الكوفة؛ فقد عانينَ مرارة السجن، وشماتة الأعداء، وذلّ الأسر. وبعدما صدرت الأوامر من دمشق بحملهنّ إلى يزيد، أمر ابن مرجانة بتسيير رؤوس أبناء النبي (صلّى الله عليه وآله) وأصحابهم إلى الشام لتُعرض على الشاميّين كما عرضت على الكوفيّين؛ حتّى تمتلئ قلوب الناس فزعاً وخوفاً، وتظهر مقدرة الأمويِّين وغلبتهم على آل الرسول.
وقد سُيّرت رؤوس العترة الطاهرة مع الأثيم زهير بن قيس الجعفي، كما سُيّرت العائلة النبويّة مع محفر بن ثعلبة من عائدة قريش، وشمر بن ذي الجوشن، وقد أوثقت بالحبال، وأُركبت على أقتاب الجمال، وهنَّ بحالة تقشعرّ منها ومن ذكرها الأبدان، وترتعد لها فرائص كلّ إنسان.
وسارت قافلة الأسرى لا تلوي على شيء، حتّى انتهت إلى القرب من دمشق، فأقيمت هناك حتّى تتزيّن البلد بمظهر الزهو والأفراح.
ومن الجدير بالذكر، أنّ مخدَّرات النبوّة وباقي الأسرى قد التزموا جانب الصمت، فلم يطلبوا أيّ شيء من أولئك الأنذال الموكّلين بهم؛ وذلك لعلم العلويات بعدم الاستجابة لأيّ شيء من مطالبهنَّ.
تزيين الشام:
وأمرت حكومة دمشق الدوائر الرسمية وشبه الرسمية بإظهار الزينة والفرح للنصر الذي أحرزته بقتل أبناء النبي (صلّى الله عليه وآله).
ووصف بعض المؤرِّخين تلك الزينة بقوله: ولمّا بلغوا - أي أُسارى أهل البيت (عليهم السّلام) - ما دون دمشق بأربعة فراسخ، استقبلهم أهل الشّام وهم ينثرون النثار فرحاً وسروراً حتّى بلغوا بهم قريب البلد، فوقفوهم عن الدّخول ثلاثة أيام، وحبسوهم هناك حتّى تتوفّر زينة الشّام وتزويقها بالحليّ والحلل، والحرير والديباج، والفضّة والذّهب وأنواع الجواهر، على صفة لم يرَ الراؤون مثلها لا قبل ذلك اليوم ولا بعده.
ثمّ خرج الرّجال والنساء، والأصاغر والأكابر، والوزراء والأمراء، واليهود والمجوس والنصارى وسائر الملل إلى التفرّج، ومعهم الطبول والدّفوف، والبوقات والمزامير، وسائر آلات اللّهو والطّرب، وقد كحّلوا العيون وخضّبوا الأيدي، ولبسوا أفخر الملابس، وتزيّنوا أحسن الزينة، ولم يرَ الراؤون أشدّ احتفالاً ولا أكثر اجتماعاً منه، حتّى كأن الناس كلّهم حشروا جميعاً في صعيد دمشق.
لقد أبدى ذلك المجتمع الذي تربّى على بغض أهل البيت (عليهم السّلام) جميع ألوان الفرح والسرور بإبادة العترة الطاهرة وسبي حرائر النبوّة.
وروى سهل بن سعد الساعدي ما رآه من استبشار الناس بقتل الحسين (عليه السّلام)، يقول: خرجت إلى بيت المقدس حتّى توسّطت الشام، فإذا أنا بمدينة مطّردة الأنهار، كثيرة الأشجار، قد علّقت عليها الحجب والديباج، والناس فرحون مستبشرون، وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول، فقلت في نفسي: إنّ لأهل الشام عيداً لا نعرفه؟! فرأيت قوماً يتحدّثون، فقلت لهم: ألكم بالشام عيد لا نعرفه؟
يا شيخ نراك غريباً؟ قلت: أنا سهل بن سعد، قد رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وحملت حديثه.
يا سهل، ما أعجبك أنّ السماء لا تمطر دماً، والأرض لا تنخسف بأهلها!
وما ذاك؟
هذا رأس الحسين يُهدى من أرض العراق.
وا عجباً! يُهدى رأس الحسين والنّاس يفرحون! من أيّ باب يدخل؟
وأشاروا إلى باب السّاعات، فأسرع سهل إليها، وبينما هو واقف، وإذا بالرايات يتبع بعضها بعضاً، وإذا بفارس بيده لواء منزوع السّنان، وعليه رأس من أشبه النّاس وجهاً برسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وهو رأس أبي الأحرار، وخلفه السبايا محمولة على جمال بغير وطاء.
وبادر سهل إلى إحدى السيّدات فسألها: مَنْ أنتِ؟ أنا سكينة بنت الحسين. ألك حاجة؛ فأنا سهل صاحب جدّك رسول الله؟ قل لصاحب هذا الرّأس أن يقدّمه أمامنا حتّى يشتغل الناس بالنظر إليه، ولا ينظروا إلى حرم رسول الله (صلّى الله عليه وآله). وأسرع سهل إلى حامل الرأس، فأعطاه أربعمئة درهم، فباعد الرأس عن النساء.
الشامي مع زين العابدين (ع):
وانبرى شيخ هرم يتوكّأ على عصاه ليمتّع نظره بالسّبايا، فدنا من الإمام زين العابدين (عليه السّلام)، فرفع عقيرته قائلاً: الحمد لله الذي أهلككم وأمكن الأمير منكم .وبصر به الإمام (عليه السّلام)، فرآه مخدوعاً قد ضلّلته الدعاية الأمويّة، فقال له: "يا شيخ، أقرأت القرآن؟"، فبُهت الشيخ من أسير مكبول، فقال له بدهشة: بلى! أقرأت قوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}، وقوله تعالى: {وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ}، وقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى}؟" .وبُهر الشيخ، وتهافت فقال: نعم، قرأت ذلك! فقال له الإمام (عليه السّلام): "نحن والله القربى في هذه الآيات. يا شيخ، أقرأت قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}؟".
بلى. قال (عليه السّلام): "نحن أهل البيت الذين خصّهم الله بالتطهير"
ولمّا سمع الشيخ ذلك من الإمام (عليه السّلام)، ذهبت نفسه حسرات على ما فرّط في أمر نفسه، وتلجلج وقال للإمام (عليه السّلام) بنبرات مرتعشة: بالله عليكم، أنتم هم؟"!وحقّ جدّنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إنّا لنحن هم من غير شكّ".
وودّ الشيخ أنّ الأرض قد وارته ولم يجابه الإمام بتلك الكلمات القاسية، وألقى بنفسه على الإمام وهو يوسع يديه تقبيلاً، ودموعه تجري على سحنات وجهه قائلاً: أبرأ إلى الله ممّن قتلكم . وطلب من الإمام (عليه السّلام) أن يمنحه العفو والرّضا، فعفا الإمام عنه.
سرور يزيد (لعنه الله):
وغمرت يزيد موجات من الفرح، حينما جيء له بسبايا أهل البيت (عليهم السّلام)، وكان مطلاًّ على منظر في جيرون، فلمَّا نظر إلى الرؤوس والسبايا قال:
لمّا بدت تلكَ الحمول وأشرقتْ تلكَ الرؤوس على شفا جيرونِ
نعبَ الغرابُ فقلت قل أو لا تقل فقد اقتضيت من الرّسولِ ديوني
لقد أخذ ابن هند ثأره من ابن فاتح مكّة ومحطّم أوثان قريش؛ فقد أباد العترة الطاهرة، وسبى ذراريها؛ تشفّياً وانتقاماً من الرسول الذي قتل أعلام الأمويِّين.
رأس الإمام (ع) عند يزيد (لعنه الله):
وحمل الخبيث الأبرص شمر بن ذي الجوشن ومحفر بن ثعلبة العائدي رأس ريحانة رسول الله وسيّد شباب أهل الجنّة هديةً إلى الفاجر يزيد بن معاوية، فسرّ بذلك سروراً بالغاً؛ فقد استوفى ثأره وديون الأمويِّين من ابن رسول الله، وقد أذن للنّاس إذناً عاماً ليظهر لهم قدرته وقهره لآل النبي (صلّى الله عليه وآله).
وازدحم الأوباش والأنذال من أهل الشّام على البلاط الأمويّ، وهم يعلنون فرحتهم الكبرى، ويهنّئون يزيد بهذا النّصر الكاذب، وقد وضع الرأس الشريف بين يدي سليل الخيانة، فجعل ينكثه بمخصرته، ويقرع ثناياه اللّتين كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يرشفهما، وجعل يقول: لقد لقيت بغيك يا حسين.
ثمّ التفت إلى عملائه وأذنابه فقال لهم: ما كنت أظنّ أبا عبد الله قد بلغ هذه السنّ، وإذا لحيته ورأسه قد نصلا من الخضاب الأسود. وتأمّل في وجه الإمام (عليه السّلام)، فغمرته هيبته، وراح يقول: ما رأيت مثل هذا الوجه حسناً قطّ!.
أجل، إنّه كوجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي تحنو له الوجوه والرقاب، والذي يشعّ بروح الإيمان.
وراح ابن معاوية يوسع ثغر الإمام (عليه السّلام) بالضّرب، وهو يقول: إنّ هذا وإيّانا كما قال الحصين بن الحمام:
أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت قواضب في إيماننا تقطر الدّم
نُفلِّقنَ هاماً من رجالٍ أعزّةٍ علينا وهم كانوا أعقّ وأظلم
ولم يتمّ الخبيث كلامه، حتّى أنكر عليه أبو برزة الأسلمي، فقال له: أتنكت بقضيبك في ثغر الحسين؟! أما لقد أخذ قضيبك في ثغره مأخذاً، لربّما رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يرشفه! أما إنّك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك، ويجيء هذا ومحمّد (صلّى الله عليه وآله) شفيعه. ثمّ قام منصرفاً عنه.
السبايا في مجلس يزيد (لعنه الله):
وعمد الأنذال من جلاوزة الخبيث ابن الخبيث يزيد بن معاوية إلى عقائل الوحي وسائر الصبية، فربقوهم بالحبال كما تربق الأغنام، فكان الحبل في عنق الإمام زين العابدين (عليه السّلام) إلى عنق العقيلة زينب (عليها السّلام) وباقي بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وكانوا كلّما قصّروا عن المشي أوسعوهم ضرباً بالسياط، وجاؤوا بهم على مثل هذه الحالة التي تتصدَّع من هولها الجبال، وهم يكبّرون ويهلّلون بسبيهم لبنات رسول الله وإبادتهم لعترته.
وأوقفت مخدّرات الرسالة بين يدي يزيد (لعنه الله)، فالتفت إليه الإمام زين العابدين (عليه السّلام) فقال له: "ما ظنّك برسول الله (صلّى الله عليه وآله) لو رآنا على هذه الصِفة؟".
فتأثّر يزيد، ولم يبق أحد في مجلسه إلّا بكى، وكان منظر العلويات مثيراً للعواطف، فقال يزيد (لعنه الله): قبّح الله ابن مرجانة! لو كان بينكم وبينه قرابة، لما فعل بكم هذا.
إنّه لم يصنع بالسيّدات العلويات بمثل هذه الأعمال إلاّ بأمر يزيد، وإرضاءً لعواطفه ورغباته، واستجابةً لعواطف القرشيّين الذين ما آمنوا بالإسلام، وكانت نفوسهم مترعة بالحقد لرسول الله (صلّى الله عليه وآله).
والتفت الطاغية إلى الإمام زين العابدين (عليه السّلام)، فقال له: إيه يا عليّ بن الحسين، أبوك الذي قطع رحمي، وجهل حقّي، ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما رأيت.
فأجابه شبل الحسين بكلّ طمأنينة وهدوء بقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}.
وثار الطاغية وقال للإمام: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}، فردّ عليه الإمام (عليه السّلام): "هذا في حقّ مَنْ ظَلَم لا في حقّ مَنْ ظُلِم" . وزوى الإمام بوجهه عنه ولم يكلّمه؛ استهانةً به.
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
العلاقة الجدلية بين التدين والفهم
الأجر الأخروي: غاية المجتمع
أمسية للشّاعرة فاطمة المسكين بعنوان: (تأمّلات في مفهوم الجمال بين الشّعر والفلسفةِ)
العظات والعبر في نملة سليمان
الكوّاي تدشّن إصدارها القصصيّ السّادس (عملاق في منزلنا)
اكتشاف أقدم أبجديّة معروفة في مدينة سوريّة قديمة
محاضرة للمهندس العلي حول الأنماط الحياتيّة من التّراث الدّينيّ
المعنى في دُنُوِّهِ وتعاليه (2)
الأمّة المستخلفة
المعنى في دُنُوِّهِ وتعاليه (1)