الشيخ ناصر مكارم الشيرازي

هل سیرة المسلمین العملیة تدل على جواز البناء على القبور؟

الجواب:  المراد من القبور فی العنوان هو قبور الأنبیاء والشهداء والأئمة الأولیاء الذین لهم مکانه عالیة فی قلوب المؤمنین، فهل هو أمر جائز أو لا؟ وهذه المساله کالمسألتین السابقتین لا تمت إلى العقیده الإسلامیة بصلة حتى تکون ملاکًا للتوحید والشرك، وإنما هي من المسائل الفقهیة التی یدور أمرها بین الإباحة والکراهة والاستحباب وغیرها.

ولا یصح لمسلم واع أن یتخذ تلك المسألة ذریعة للشرك والتکفیر، فکم من مسائل فقهیة اختلفت فیها کلمة الفقهاء، ومن حسن الحظ لم یختلف في هذه المسألة فقهاء الأئمة الأربعة ولا فقهاء المذهب الإمامي ودلیلهم على جواز البناء على قبور تلك الشخصیات عبارة عن سیرة المسلمین منذ رحیل النبی (صلى الله علیه وآله) إلى یومنا هذا.

أ. وارى المسلمون جسد النبی (صلى الله علیه وآله) فی بیته المسقف وحرصوا على بذل المزید من العنایه بحجرته الشریفة بشتى الأسالیب، وقد جاء ذکرها في الکتب التي ألفت فی تاریخ المدینة لا سیما کتاب وفاء الوفاء للعلامة السمهودی. ( 1 )

وشید البناء الموجود عام 1270 ه‍ وهو بحمد الله قائم لم یمسه السوء، وسوف یبقى بفضل الله تبارك وتعالى محفوظًا مصونًا عن الاندثار، فلو کان البناء على القبور أمرًا حرامًا لدفنه المسلمون فی مکان واسع لا سقف فیه.

ب. إن البناء على القبور کانت سیرة سائدة بین المسلمین من عصر الصحابة إلى یومنا هذا، وهذه هی کتب الرحلات تذکر لنا وصف القبور الموجودة فی المدینه التی کانت علیها قباب وعلى قبورهم صخرة فیها أسماؤهم ونحن نذکر من ذلك نزرًا یسیرًا:

1. یقول المسعودی ( المتوفى 445 ه‍ ) حول المشاهد والقباب فی البقیع: وعلى قبورهم في هذا الموضع من البقیع، رخامة مکتوب علیها بسم الله الرحمن الرحیم الحمد لله مبید الأمم ومحیي الرمم وهذا قبر فاطمة بنت رسول الله ” صلى الله علیه وآله ” سیدة نساء العالمین، وقبر الحسن بن علي بن أبي طالب، وعلي بن الحسین بن علي بن أبي طالب، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد. ( 2 )

2. وذکر السبط ابن الجوزی ( المتوفى عام 654 ه‍ ) في تذکرة الخواص ص 311 نظیر ذلك.

3. کما وصف محمد بن أبي بکر التلمساني المدینة الطیبة وبقیع الغرقد في القرن الرابع بقوله: وقبر الحسن بن علي عن یمینك إذا خرجت من الدرب ترتفع إلیه قلیلًا علیه مکتوب هذا قبر الحسن بن علي دفن إلى جنب أمه فاطمة ” علیها السلام “. ( 3 )

4. قول الحافظ محمد بن محمود بن النجار ( المتوفى عام 643 ه‍ ) في ” أخبار مدینة الرسول (صلى الله علیه وآله) “: فی قبة کبیرة عالیة قدیمة البناء في أول البقیع، وعلیها بابان یفتح أحدهما في کل یوم للزیارة. (4)

5. ویقول ابن جبیر الرحالة الطائر الصیت ( المتوفى عام 614 ه‍ ) في رحلته في وصف بقیع الغرقد: یقع في مقابل قبر مالك قبر، السلالة الطاهرة إبراهیم بن النبي علیها قبة بیضاء، وعلى الیمین منها تربة ابن عمر ابن الخطاب، وبإزائه قبر عقیل بن أبي طالب وعبد الله بن جعفر الطیار، وبإزائهم روضة فیها أزواج النبی (صلى الله علیه وآله)، وبها روضة صغیرة فیها ثلاثة من أولاد النبي (صلى الله علیه وآله)، وروضة العباس بن عبد المطلب والحسن بن علي وهي قبة مرتفعة في الهواء على مقربة من باب البقیع المذکور، وعن یمین الخارج منه، ورأس الحسن إلى رجلي العباس وقبراهما مرتفعان عن الأرض متسعان مغشیان بألواح ملصقة، أبدع إلصاق، مرصعة بصفائح الصفر، ومکوکبة بمسامیر على أبدع صفة، وأجمل منظر، وعلى هذا الشکل قبر إبراهیم بن النبي (صلى الله علیه وآله)، ویلي هذه القبة العباسیة بیت ینسب لفاطمة بنت الرسول (صلى الله علیه وآله) ویعرف ببیت الحزن.. وفي آخر البقیع قبر عثمان الشهید المظلوم ذي النورین وعلیه قبة صغیرة مختصرة، وعلى مقربة منه مشهد فاطمة ابنه أسد أم علي. (5)

6. وروى البلاذري أنه لما ماتت زینب بنت جحش سنة عشرین صلى علیها عمر، وکان دفنها في یوم صائف، ضرب عمر على قبرها فسطاطًا. ( 6) ولم یکن الهدف من ضربه ذلك الفسطاط تسهیل الأمر لمن یتعاطى دفنها، بل لأجل تسهیله لأهلها حتى یتفیؤا بظله، ویقرأوا ما یتیسر من القرآن والدعاء.

7. یقول السمهودي (المتوفى 911 هـ) فی وصف بقیع الغرقد: قد ابتني علیها مشاهد، منها المشهد المنسوب لعقیل بن أبي طالب وأمهات المومنین، تحوي العباس والحسن بن علي.. وعلیهم قبة شامخة في الهواء، قال ابن النجار:.. وهي کبیرة عالیة، قدیمة البناء، وعلیها بابان، یفتح أحدهما في کل یوم.

وقال المطري: بناها الخلیفة الناصر أحمد بن المستضيء.. وقبر العباس وقبر الحسن مرتفعان من الأرض متسعان مغشیان بألواح ملصقة أبدع إلصاق، مصحفة بصفائح الصفر، مکوکبة بمسامیر على أبدع صفة وأجمل منظر. ( 7 ) إلى غیر ذلك من الرحالة الذین زاروا المدینة المنورة ووصفوا تلکم المزارات والمشاهد والقباب المرتفعة ونظر الکل إلیها بعین الرضا والمحبة لا بعین السخط والغضب. وهذا النوع من الاتفاق والإجماع من قبل علماء الإسلام طیلة قرون أقوى شاهد على جواز البناء على قبور الشخصیات الإسلامیه الذین لهم منزلة ومکانة في القلوب. (8)

ــــــــ

1. وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى: ج 2، ص 458 الفصل 9

2. مروج الذّهب: ج 2، ص 288.

3. مجلة العرب، العدد 5 ـ 6، المورخه 1393هـ.

4. أخبار مدینة الرسول، بسعی صالح محمد جمال، مکة المکرمة، عام 1366هـ.

5. رحلة ابن جبیر، طبعة بیروت، زار ابن جبیر المدینة المنورة فی عام 578 هـ.

6. أنساب الأشراف: ج 1، ص 436.

7. وفاء الوفاء: ج 3، ص 916 ـ 929.

8- سیماء عقائد الشیعة، ص 119.