اقتصر كثير من الناس في تقييم صلاح الدين الأيوبي من خلال كونه فاتحاً لبيت المقدس وبطل معركة حطين، واكتفوا بذلك متغافلين عن تقييمه كحاكم له مساوئ وسلبيات أخرى ربما تدعو المنصف إلى أن يعيد النظر في نظرته المثالية إلى صلاح الدين، وحيث إن كثيراً من الناس يفتخرون به، ويعدونه واحداً من الأبطال الذين قل أن يجود الزمان بمثلهم، فإني سأذكر بعض المآخذ التي عيبت عليه، ومنها:
1- كثرة حروبه مع المسلمين وكثرة سفكه لدمائهم:
أراد صلاح الدين أن يوسّع مناطق حُكْمه، ويبسط نفوذه وسلطانه على جميع البلاد الإسلامية، وحيث إن هذه الرغبة لا تتم إلا بالحروب وسفك الدماء، فإنه شنَّ حروباً متواصلة في المناطق التي استطاع الوصول إليها، وكان هدفه الأساس هو بسط نفوذه وتوسعة مناطق مُلْكه من دون أن يراعي أيّ قيمة للدماء المحرّمة التي سيسفكها للوصول إلى أهدافه.
قال ابن العماد الحنبلي: وأول ما فتح الدّيار المصرية، والحجاز، ومكّة، والمدينة، واليمن من زبيد إلى حضرموت، متّصلاً بالهند، ومن الشام: دمشق، وبعلبك، وحمص، وبانياس، وحلب، وحماة. ومن الساحل: بلاد القدس، وغزّة، وتل الصافية، وعسقلان، ويافا، وقيسارية، وحيفا، وعكّا، وطبرية، والشّقيف، وصفد، وكوكب، والكرك، والشّوبك، وصيدا، وبيروت، وجبلة، واللّاذقية، والشّغر، وصهيون، وبلاطنس، ومن الشرق حرّان، والرّها، والرّقّة، ورأس عين، وسنجار، ونصيبين، وسروج، وديار بكر، وميّافارقين، وآمد، وحصونها، وشهرزور، ويقال: إنه فتح ستين حصناً، وزاد على نور الدّين بمصر، والمغرب، والحجاز، واليمن، والقدس، والساحل، وبلاد الفرنج، وديار بكر، ولو عاش لفتح الدّنيا شرقاً وغرباً، وبعداً وقرباً، ولم يبلغ ستين سنة[1] .
قلت: جميع هذه الحروب التي سمّاها بعضهم فتوحات قد سُفكت فيها كثير من الدماء المحرّمة، وسُلبت أو أتلفت فيها كثير من الأموال المحترمة؛ لأنه من الواضح جدًّا أن تلك المناطق التي سيطر عليها صلاح الدين لم يتمكّن من إخضاعها وإدخالها في سلطانه إلا بالحرب وسفك الدماء، فهل يرى المعجبون بصلاح الدين أي مبرّر شرعي لسفك دماء المسلمين التي ربما صاحَبَها سلب الأموال المحترمة وهتك الأعراض؟!
وبعض الحوادث دلّت على أن صلاح الدين كان يستخدم الأساليب القذرة للتغلب على خصومه، كما حدث في حربه مع السودان، فإنه لما عجز عن دحرهم ذهب إلى محلّتهم (المنصورة)، فأحرقها على أموالهم وأولادهم وحرمهم.
قال ابن الأثير: فغضب السودان الذين بمصر لقتل مؤتمن الخلافة[2] حميّة، ولأنه كان يتعصّب لهم، فحشدوا وجمعوا، فزادت عدّتهم على خمسين ألفاً، وقصدوا حرب الأجناد الصلاحية، فاجتمع العسكر أيضاً، وقاتلوهم بين القصرين، وكثر القتل في الفريقين، فأرسل صلاح الدين إلى محلّتهم المعروفة بالمنصورة، فأحرقها على أموالهم وأولادهم وحرمهم، فلما أتاهم الخبر بذلك ولّوا منهزمين، فركبهم السيف، وأُخذت عليهم أفواه السكك، فطلبوا الأمان بعد أن كثر فيهم القتل، فأجيبوا إلى ذلك، فأُخرجوا من مصر إلى الجيزة، فعبر إليهم شمس الدولة تورانشاه أخو صلاح الدين الأكبر في طائفة من العسكر، فأبادهم بالسيف، ولم يبق منهم إلا القليل الشريد[3] .
وكل من يدّعي أن دوافع صلاح الدين من كل تلك الحروب هي خدمة الإسلام والمسلمين فعليه أن يثبت ذلك بالأدلة الصحيحة، بل إن ما قاله ابن العديم يدل على أن غاية صلاح الدين هي بسط نفوذه على البلاد لأجل مآربه الخاصة، فقد قال في (زبدة الحلب): وخاف صلاح الدين من نور الدين أن يدخل مصر فيأخذها منهم، فشرع في تحصيل مملكة أخرى لتكون عدّة له بحيث إن نور الدين إن غلبه على الديار المصرية سار هو وأهله إليها وأقاموا بها، فسيَّر أخاه الأكبر تورانشاه بإذن نور الدين له في ذلك، وسيَّره قاصداً عبد النبي بن مهدي، وكان دعا إلى نفسه، وقطع خطبة بني العباس، فمضى إليها وفتح زبيد وعدن، ومعظم بلاد اليمن[4] .
والغريب أن ابن كثير وصفه بأنه رقيق القلب سريع الدمعة عند سماع الحديث، وأنه كان كثير التعظيم لشرائع الدين[5] ، فلا أدري كيف ينسجم هذا مع تهاونه في سفك دماء المسلمين التي حُرْمتها عند الله من أعظم الحرمات؟!
2- أن صلاح الدين سلَّم أكثر مدن فلسطين وغيرها للصليبيين:
يقول الدكتور حسين مؤنس: ثم دخلوا في مفاوضات مع صلاح الدين انتهت بعقد صلح (الرملة)، الذي نصّ على أن يترك صلاح الدين للصليبيين شريطاً من الساحل، يمتد من صور إلى يافا، وبهذا العمل عادت مملكة بيت المقدس - التي انتقلت إلى طرابلس- إلى القوة بعد أن كانت قد انتهت، وتمكّن ملوكها من استعادة الساحل حتى بيروت...
إلى أن قال: وهنا وبعد عقد صلح الرملة اعتبر فيليب أغسطس أن مهمّته قد انتهت، وأنه برَّ بقسمه «أن يفتح الطريق إلى بيت المقدس»، وأقلع إلى بلاده من ميناء عكا في 8 يونيو 1192م. أما ريتشارد فقد بقي في بلاد الشام وأتمَّ الاستيلاء على الموانئ الواقعة جنوب عكا حتى عسقلان، ثم عقد صداقة مع صلاح الدين الذي اعتبره من أعاظم ملوك المسلمين، وأتمَّ حجَّه إلى بيت المقدس ووضع يده على قبرص... وبذلك تكون معظم المكاسب التي حقَّقها صلاح الدين - فيما عدا استعادته لبيت المقدس - قد ضاعت بسبب تنافس الأمراء الأيوبيين واختلاف كلمتهم[6] .
وقال المقريزي: وعاد إلى القدس، وعقد الهدنة بينه وبين الفرنج مدّة ثلاث سنين وثلاثة أشهر، أوّلها حادي عشر شعبان، على أنّ للفرنج من يافا إلى عكا إلى صور وطرابلس وأنطاكية، ونودي بذلك، فكان يوماً مشهوداً[7] .
وقال عماد الدين الكاتب الأصفهاني الذي كان معاصراً لصلاح الدين: وجعل لهم من يافا إلى قيسارية، إلى عكاء إلى صور، وأبدوا بما تركوه من البلاد التي كانت معهم الغبطة والسرور، وأدخلوا في الصلح طرابلس وأنطاكية والأعمال الدانية والنائية[8] .
قلت: إن صلاح الدين لا يخلو من أمرين: إما أنه كان عاجزاً عن إخراج الصليبيين من سائر مدن الشام وفلسطين، ولذلك عقد معهم صلحاً سلَّمهم بمقتضاه كثيراً من مدن الشام وفلسطين، فحينئذ لا بد أن يعلم الجميع أن التهويلات التي تُذكر لبطولات صلاح الدين كلها مُبالَغ فيها وغير صحيحة.
وإما أنه كان قادراً على إخراج الصليبيين من جميع بلاد المسلمين، ولكنه مع ذلك آثر عقد الصلح معهم وتسليمهم بلاداً كثيرة من الشام وفلسطين، فلا شك في أن هذا الفعل يعتبر خيانة واضحة للإسلام والمسلمين.
3- تقديم صلاح الدين مصلحته الخاصة على مصلحة الأمة:
وقف صلاح الدين عدّة مواقف كان يراعي فيها مصلحته الخاصّة على حساب مصلحة الأمّة.
منها: عدم رغبته في استئصال الفرنج لئلا تؤخذ منه مصر.
قال أبو شامة: قال ابن الأثير: وكان نور الدين قد شرع بتجهيز المسير إلى مصر لأخذها من صلاح الدين؛ لأنه رأى منه فتوراً عن غزو الفرنج من ناحيته، فأرسل إلى الموصل وديار الجزيرة وديار بكر يطلب العساكر ليتركها بالشام لمنعه من الفرنج؛ ليسير هو بعساكره إلى مصر، وكان المانع لصلاح الدين من الغزو الخوف من نور الدين، فإنه كان يعتقد أن نور الدين متى زال عن طريقه الفرنج أخذ البلاد منه، فكان يحتمي بهم عليه، ولا يؤثر استئصالهم، وكان نور الدين لا يرى إلا الجد في غزوهم بجهده وطاقته، فلما رأى إخلال صلاح الدين بالغزو، وعلم غرضه، فتجهز للمسير إليه، فأتاه أمر الله الذي لا يُردّ[9] .
وقال ابن الأثير في حوادث سنة 567هـ: في هذه السنة جرت أمور أوجبت أن تأثّر نور الدين من صلاح الدين، ولم يُظهر ذلك، وكان سببه أن صلاح الدين يوسف بن أيوب سار عن مصر في صفر من هذه السنة إلى بلاد الفرنج غازياً، ونازل حصن الشوبك[10] ، وبينه وبين الكرك يوم، وحصره، وضيَّق على مَنْ به من الفرنج، وأدام القتال، وطلبوا الأمان، واستمهلوه عشرة أيام، فأجابهم إلى ذلك. فلما سمع نور الدين بما فعله صلاح الدين سار عن دمشق قاصداً بلاد الفرنج أيضاً؛ ليدخل إليها من جهة أخرى، فقيل لصلاح الدين: إن دخل نور الدين بلاد الفرنج وهم على هذه الحال: أنت من جانب ونور الدين من جانب، ملكها، ومتى زال الفرنج عن الطريق وأخذ ملكهم لم يبق بديار مصر مقام مع نور الدين، وإن جاء نور الدين إليك وأنت ههنا، فلا بد لك من الاجتماع به، وحينئذ يكون هو المتحكّم فيك بما شاء، إن شاء تركك، وإن شاء عزلك، فقد لا تقدر على الامتناع عليه، والمصلحة الرجوع إلى مصر. فرحل عن الشوبك عائداً إلى مصر، ولم يأخذه من الفرنج، وكتب إلى نور الدين يعتذر باختلال البلاد المصرية لأمور بلغتْه عن بعض شيعته العلويين، وأنهم عازمون على الوثوب بها، فإنه يخاف عليها من البعد عنها أن يقوم أهلها على من تخلّف بها، فيخرجوهم وتعود ممتنعة، وأطال الاعتذار، فلم يقبلها نور الدين منه، وتغيَّر عليه، وعزم على الدخول إلى مصر وإخراجه عنها[11] .
وقال في حوادث سنة 568هـ: في هذه السنة في شوال رحل صلاح الدين يوسف بن أيوب من مصر بعساكرها جميعها إلى بلاد الفرنج يريد حصر الكرك، والاجتماع مع نور الدين عليه، والاتفاق على قصد بلاد الفرنج من جهتين، كل واحد منهما في جهة بعسكره. وسبب ذلك أن نور الدين لما أنكر على صلاح الدين عوده من بلاد الفرنج في العام الماضي، وأراد نور الدين قصد مصر وأخذها منه، أرسل يعتذر، ويعد من نفسه بالحركة على ما يقرِّره نور الدين، فاستقرّت القاعدة بينهما أن صلاح الدين يخرج من مصر، ويسير نور الدين من دمشق، فأيهما سبق صاحبه يقيم إلى أن يصل الآخر إليه، وتواعدا على يوم معلوم يكون وصولهما فيه، فسار صلاح الدين عن مصر لأن طريقه أصعب وأبعد وأشق، ووصل إلى الكرك وحصره. وأما نور الدين فإنه لما وصل إليه كتاب صلاح الدين برحيله من مصر فرَّق الأموال، وحصَّل الأزواد وما يحتاج إليه، وسار إلى الكرك فوصل إلى الرقيم، وبينه وبين الكرك مرحلتان، فلما سمع صلاح الدين بقربه خافه هو وجميع أهله، واتّفق رأيهم على العود إلى مصر، وترك الاجتماع بنور الدين؛ لأنهم علموا أنه إن اجتمعا كان عزله على نور الدين سهلاً. فلما عاد أرسل الفقيه عيسى إلى نور الدين يعتذر عن رحيله بأنه كان قد استخلف أباه نجم الدين أيوب على ديار مصر، وأنه مريض شديد المرض، ويخاف أن يحدث عليه حادث الموت فتخرج البلاد عن أيديهم، وأرسل معه [من] التحف والهدايا ما يجل عن الوصف، فجاء الرسول إلى نور الدين وأعلمه ذلك، فعظم عليه وعلم المراد من العود، إلا أنه لم يُظهر للرسول تأثّراً، بل قال له: حِفْظُ مصر أهم عندنا من غيرها[12].
وقال في حوادث 569هـ: وكان [نور الدين محمود بن زنكي] قد شرع يتجهّز للدخول إلى مصر لأخذها من صلاح الدين يوسف بن أيوب، فإنه رأى منه فتوراً في غزو الفرنج من ناحيته، وكان يعلم أنه إنما يمنع صلاح الدين من الغزو الخوف منه ومن الاجتماع به، فإنه يؤثر كون الفرنج في الطريق ليمتنع بهم على نور الدين، فأرسل إلى الموصل وديار الجزيرة وديار بكر يطلب العساكر للغزاة، وكان عزمه أن يتركها مع ابن أخيه سيف الدين غازي صاحب الموصل بالشام، ويسير هو بعساكره إلى مصر، فبينما هو يتجهّز لذلك أتاه أمر الله الذي لا مردَّ له[13] .
فانظر أيها القارئ العزيز كيف أن صلاح الدين كان يهمّه بالدرجة الأساس الاحتفاظ بحكم مصر أكثر من اهتمامه بمحاربة الفرنج الصليبيين!!
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الإسلام وميول الإنسان
شروط البحث
الزهراء للإمام عليّ: اشتملت شملة الجنين (1)
التمثيل بالمحقَّرات في القرآن
الشّيخ صالح آل إبراهيم: ميثاقنا الزّوجي
اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا
المادة على ضوء الفيزياء
المعرض الفنّيّ التّشكيليّ (أبيض وأسود) بنسخته الثّالثة
القرآن وجاذبيّته العامة
القرآن الكريم وأمراض الوراثة