لقد عرفت كيف كان الزعماء الدينيون والسياسيون يُمارسون حياتهم. وهنا نرسم لك صورة عن نوع الحياة التي كان يُمارسها الإنسان العادي إذ ذاك. لقد كان همّ الرجل العادي هو حياته الخاصّة أن يعمل لها ويكدح في سبيلها، ولا يُفكّر إلاّ فيها، فإذا اتّسع أفقه كانت القبيلة محلّ اهتمامه.
أمّا المجتمع وآلامه - المجتمع الكبير - فلم يكن ليستأثر من الرجل العادي بأيّ اهتمام، كانت القضايا العامّة بعيدة عن اهتمامه. لقد كان العمل فيها وظيفة زعمائه الدينيين والسياسيين؛ يُفكّرون ويرسمون خطّة العمل وعليه أن يسير فقط، فلم تكن للرجل العادي مشاركة جدّية إيجابية في قضايا المجتمع العامّة.
وكان يهتم غاية الاهتمام بعطائه فيحافظ عليه، ويطيع توجيهات زعمائه خشية أن يُمحى اسمه من العطاء، ويسكت عن نقد ما يراه جوراً بسبب ذلك(1).
وكان يهتم بمفاخر قبيلته ومثالب غيرها من القبائل، ويروي الأشعار في هذا وذاك.
هذا مُخطط لحياة الرجل العادي إذ ذاك.
أمّا أصحاب الحسين عليه السلام فقد كان لهم شأن آخر، لقد كانت العُصبة التي رافقت الحسين عليه السلام، وشاركته في مصيره رجالاً عاديين، لكلّ منهم بيت وزوجة وأطفال وصداقات، ولكلّ منهم عطاء من بيت المال، وكان كثير منهم لا يزال في ميعة الصبا، في حياته مُتّسع للاستمتاع بالحُبّ وطيّبات الحياة، ولكنّهم جميعاً خرجوا عن ذلك كلّه وواجهوا مجتمعهم بعزمهم الكبير في سبيل مبدأ آمنوا به، وصمموا على الموت في سبيله.
ولا أستطيع أن أقدّم هنا صورة كاملة وافية لسُلوك آل الحسين وأصحابه في هذه الثورة، وعليك لكي تخرج بهذه الصورة الوافية أن تقرأ قصّة كربلاء بتمامها، وغاية ما أستطيعه هنا هو أن أقدّم لك لمحات من سلوكهم العالي.
ـ في زُبالة استبان للحسين عليه السلام مصيره حين علم بقتل رسوله إلى أهل الكوفة مسلم بن عقيل، وأخيه من الرضاعة عبد الله بن يقطر، فأخبر مَنْ معه بذلك، وقال: «أمّا بعد، فإنّه قد أتاني خبر فظيع؛ قتل مسلم بن عقيل، وهانئ بن عروة، وعبد الله بن يقطر، وقد خذلنا شيعتنا، فمَنْ أحبّ منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج، ليس عليه منّا ذمام»(2).
فتفرّق عنه الناس يميناً وشمالاً حتّى بقي في أصحابه الذين يُريدون الموت معه، واستمروا على عزمهم هذا إلى اللحظة الأخيرة لكلّ منهم. اللحظة التي أدّى فيها ضريبة الدم كاملة.
ـ في كربلاء أقبل على أصحابه فقال: «الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يُحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلّ الديّانون».
ثمّ قال: «أمّا بعد، فقد نزل من الأمر بنا ما ترون، وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها، ولم يبقَ منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل. ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؟ ليرغب المؤمن في لقاء الله؛ فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً»(3).
فقال زهير بن القين: «سمعنا يا ابن رسول الله مقالتك، ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنا فيها مخلّدين لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها».
وقال برير بن خضير: «يا ابن رسول الله، لقد منّ الله بك علينا أن نُقاتل بين يديك، نقطع فيك أعضاؤنا ثمّ يكون جدّك شفيعنا يوم القيامة».
وقال نافع بن هلال: «سر بنا راشداً مُعافى، مشرقاً إن شئت أو مغرباً، فوالله ما أشفقنا من قدر الله، ولا كرهنا لقاء ربّنا، وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا نوالي مَنْ والاك، ونعادي مَنْ عاداك »(4).
ومرّة أخرى جمع الحسين عليه السلام أصحابه قرب المساء - مساء يوم العاشر - فخطبهم قائلاً: «...أمّا بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي جميعاً. ألا وإنّي أظنّ أنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، وإنّي قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلٍّ، ليس عليكم منّي ذمام. وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً خيراً، وتفرّقوا في سوادكم ومدائنكم؛ فإنّ القوم إنّما يطلبوني، ولو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري...».
هذه فرصة أخيرة منحهم إيّاها الحسين عليه السلام، فماذا كان ردّ الفعل؟ قال له إخوته وأبناؤه، وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر: ولِمَ نفعل؟ لنبقى بعدك؟! لا أرانا الله ذلك أبداً.
والتفت الحسين عليه السلام إلى بني عقيل، وقال: «حسبكم من القتل بمسلم، اذهبوا فقد أذنت لكم».
فقالوا: فما يقول الناس، وما نقول لهم؟! إنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام، ولم نرمِ معهم بسهم، ولم نطعن برمح، ولم نضرب بسيف، ولا ندري ما صنعوا. لا والله لا نفعل، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا، نقاتل معك حتّى نرد موردك، فقبّح الله العيش بعدك.
وجاء دور أصحابه، فقال مسلم بن عوسجة: أنحن نُخلي عنك ولـمّا نُعذر إلى الله في أداء حقّك؟ أما والله لا أفارقك حتّى أطعن في صدورهم برمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتّى أموت معك.
وقال سعد بن عبد الله الحنفي: والله، لا نُخليك حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسول الله صلى الله عليه وآله فيك. والله لو علمت أنّي أقتل ثمّ أحيا، ثمّ أحرق حيّاً ثمّ أذرى، يُفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة.
وقال زهير بن القين: والله، لوددت أنّي قُتلت ثمّ نُشرت، ثمّ قُتلت حتّى أقتل كذا ألف قتلة وإنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك.
وتكلّم جماعة من أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً في وجه واحد، فقالوا: والله لا نفارقك، ولكن أنفسنا لك الفداء، نقيك بنحورنا، وجباهنا وأيدينا، فإذا نحن قُتلنا كنّا وفينا وقضينا ما علينا(5).
وقال الحسين عليه السلام لنافع بن هلال في جوف الليل: «ألا تسلك بين هذين الجبلين في جوف الليل وتنجو بنفسك؟». فوقع نافع على قدميه يُقبّلها ويقول: ثكلتني أمّي! إنّ سيفي بألف، وفرسي بمثله، فوالله الذي مَنْ عليّ بك لا فارقتك حتّى يكلاّ عن فري وجري.
وصاح شمر بن ذي الجوشن بأعلى صوته: أين بنو أختنا؟ فخرج إليه العباس وجعفر وعثمان بنو علي، فقالوا له: ما لك، وما تريد؟
قال: أنتم يا بني أختي آمنون.
فقال له الفتية: لعنك الله ولعن أمانك لئن كنت خالنا! أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له(6)؟!
هذا هو مستوى السلوك الذي ارتفع إليه الثائرون، وهذه هي الأخلاق الجديدة التي قدّموها لمجتمعهم. هذا المجتمع الذي قدر لكثير من فئاته فيما بعد أن تأخذ نفسها بالسير على هذا المستوى العالي من الأخلاق ومُمارسة الحياة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1).. قال حميد بن مسلم: قلت لشمر: أتريد أن تجمع على نفسك خصلتين؛ تُعذّب بعذاب الله، وتقتل النساء والولدان. والله إنّ في قتلك الرجال لما تُرضي به أميرك. فقال: مَنْ أنت؟ قلت: لا أخبرك مَنْ أنا. قال: وخشيت والله أن لو عرفني أن يصرني عند السلطان. انظر: تأريخ الطبري 4/189، البداية والنهاية 8/198.
(2). انظر: تأريخ الطبري 4/300، الكامل في التأريخ 3/278.
(3). انظر: تأريخ الطبري 3/307 و4/305 طبعة أخرى و5/425 - 426 طبعة سنة 1964 م، ابن عساكر (ترجمة الإمام الحسين عليه السلام)/214.
(4). انظر: تأريخ الطبري 3/234 و4/305 طبعة أخرى، 5/425 - 426 طبعة سنة 1964 م، ابن عساكر (ترجمة الإمام الحسين عليه السلام)/214.
(5). انظر: تأريخ الطبري 4/317 - 318.
(6). انظر: تأريخ الطبري 4/315.
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
مقدّمات البحث
تأبين الشّيخ الحبيل للكاتب الشّيخ عباس البريهي
حاجتنا إلى النظام الإسلامي خاصّة
القرآن يأسر القلب والعقل
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (3)
تقييم العلمانية في العالم الإسلامي
ضرورة الإمامة
دلالة آية «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ»
العلاقة الجدلية بين التدين والفهم
الأجر الأخروي: غاية المجتمع