وكتب أكثر أهل الكوفة إلى معاوية: بـ: «أنَّا معك، وإن شئت أخذنا الحسن أسيراً وبعثناه إليك».. بل لقد قال عليه السلام لحجر بن عدي: «والله يا حجر، لو أني في ألف رجل، لا والله، إلا ماءتي رجل، لا والله، إلا في سبع نفر لما وسعني تركه».. يعني ترك معاوية الذي جاء في مئة ألف، حسب نص تلك الرواية نفسها..
بل ذكر المرتضى في تنزيه الأنبياء، أنه عليه السلام دعاهم إلى أن يخرجوا إلى معسكرهم بالنخيلة، فلم يجبه منهم أحد.. وبذلك يظهر: أن ما ذكره البعض من أنه قد كان عنده أربعون ألفاً، أو نيف وأربعون ألفاً.. فهو ناظر إلى الذين كان الإمام علي عليه السلام قد جهزهم قبل استشهاده لحرب معاوية، كما ألمح إليه، بل صرح به بعضهم..
أما من بقي معه عليه السلام، فهم يرون أن الدنيا التي يحبونها كانت عند معاوية، الذي يرون بينهم وبينه العقبات والحواجز، كما أنهم كانت أهواؤهم وولاءاتهم مختلفة، فمنهم الخوارج، ومنهم ـ وهم الأكثر ـ من يكن الولاء لعمر بن الخطاب، لا للإمام علي عليه السلام..
وذلك لأن عمر هو الذي فتح بلادهم، ووجههم للفتوحات في بلاد فارس، فاستفادوا المال والمناصب وغير ذلك، وهو الذي مصَّر الكوفة والبصرة، بالإضافة إلى أن الكثيرين ما كان يهمهم سوى الحصول على الولايات والمناصب والزعامات، ومنهم من كان يكن الولاء لبني أمية..
وقد رأوا أن الإمام علياً عليه السلام يريد أن يحملهم على المحجة، ويعاملهم بالعدل، وقد جاهد بهم أعداء الله، وضحوا بالأموال والأنفس، وبالعلاقات، وبغير ذلك.. من دون أن يحصلوا على غنائم ولا على سبايا، ولا على مناصب أو مقامات، بل إن الإمام علياً عليه السلام لا يسكت حتى عن وليمة يدعى إليها واليه على البصرة، وهو ابن حنيف، فيكتب إليه رسالة لوم وتقريع، يخلدها التاريخ، كما أنه عليه السلام لم يكن ليفسح لهم المجال لأية مخالفة.. بل هو يعاقب المخالف، وفق أحكام الشرع، والدين..
وهذا أمر لم يعتادوه، بل اعتادوا حياة الانفلات، والسعي وراء الشهوات، وكانوا يعرفون أن الإمام الحسن عليه السلام، لا يختلف عن أبيه في ذلك، بل هو يسير على نفس الخط.. بل إن هذا الجيش نفسه الذي أعده الإمام الحسن عليه السلام لحرب عدوه، قد اعتدى على نفس قائده، وإمامه، فنهبوا فسطاطه، وأخذوا مطرفه عن عاتقه، وسحبوا البساط الذي يصلي عليه من تحته، وضربوه بالمعول في فخذه، بساباط المدائن، وبقي يتداوى من هذه الضربة أكثر من شهرين..
ورماه أحدهم بسهم، وهو يصلي، فلم يثبت فيه لأنه عليه السلام كان يلبس درعه.. فالجيش الذي يفعل ذلك بقائده وسيده، هل يمكن أن يضحي بالغالي والنفيس امتثالاً لأمر ذلك القائد، ونصرة لقضيته؟!.. وقد قالوا في وصف جيش الإمام الحسن عليه السلام: «خف معه أخلاط من الناس، بعضهم شيعة له ولأبيه عليهما السلام، وبعضهم محكمة (أي خوارج) يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة، وبعضهم أصحاب فتن وطمع في الغنائم، وبعضهم شكاك، وبعضهم أصحاب عصبية، اتبعوا رؤساء قبائلهم، لا يرجعون إلى دين».
أما معاوية فمعه جيش قوي، متماسك، يلتقي معه في الأهداف، وفي السلوك، وفي الولاء، وقد تربى على يده، وعلى نهجه، وله نفس طموحاته، وعين أهدافه، ويكن له الولاء والحب.. وله أيضاً جانب كبير من أهل العراق وفي جيش الإمام الحسن عليه السلام بالذات، ممن اشترى ضمائرهم أو أنهم من أنصاره، والموالين له مباشرة، أو يلتقون معه في الأهداف، أو في المطامع، أو في الولاء والانتساب لغير أهل البيت..
التحرك نحو الحرب:
وقد كان الإمام الحسن عليه السلام يعلم بكل هذه الحقائق، ولكن كان لا بد له، بعد أن سار معاوية إليه بجيشه، من أن يتحرك للدفاع وللتصدي، لكي تتجسد الحقائق واقعاً حياً وملموساً، وليرى الناس بأم أعينهم حقيقة جيش الإمام في تركيبته وفي ممارساته لكل أحد، ولكي يمكن أن يخضع معاوية لشرائطه، أو على الأقل أن يقبل بأن يفاوضه عليها، ويحقق أعظم الأهداف رغم أنه في أضعف جيش، وفي مواجهته معاوية الداهية، وهو في أقوى جيش، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن الإمام عليه السلام قد حقق معجزة كبرى في مجال السياسة كما هو واضح..
خيار السلم:
وأما خيار السلم، فهو أيضاً على نحوين:
أحدهما: أن يستسلم الإمام الحسن عليه السلام لمعاوية، ويقول له: افعل ما تشاء، فإنني قد انسحبت من ساحة الصراع.. فهذا السلام هو عين الهزيمة، وهو سوف يعطي الشرعية لكل ممارسات وجرائم وجنايات معاوية.. وهو أعظم خطراً من الهزيمة العسكرية ثم الإبادة..
الثاني: السلام القائم على شروط، وهو عقد الهدنة المسمى بالصلح، فإنه ليس فيه تضحية لا بالأنفس، ولا بالأموال، ولا تنشأ عنه أي من سلبيات الحرب الكثيرة. كما أنه على صعيد النتائج، لا يعطي أي مبرر لأولئك الطغاة، والمجرمين، للعدوان على حياة القيادة، أو على حياة أي من الرموز المؤثرة والفاعلة في الحياة الدينية أو السياسية..
وهو أيضاً يحفظ الشيعة من تسهيل استئصالهم وإبادتهم، حين يزين المجرمون لأنفسهم وللبسطاء من الناس: أن جرائمهم هذه لا بد منها، لأنهم إنما يقتلون عدوهم الذي حاربهم، وأراد قتلهم. ولعلك تقول: لقد رأينا أن الشيعة لم يسلموا بعد الصلح، من ظلم معاوية وبني أمية، حيث تتبعهم زياد بن أبيه، وغيره من ولاة معاوية، تحت كل حجر ومدر، وألحقوا بهم أكبر الأذى.. ونقول في مجال التوضيح والتصحيح:
إنه كان ظلماً مفضوحاً، فاقداً لأي مبرر، ولا يمكن أن يتسبب بأي تضليل أو شبهة.. لأن هذه الخسائر في السلم قد جاءت على سبيل نكث العهد، ونقض العقد، فهي إذن لم تكن بلا ثمن، بل صار ثمن دم الشيعي هو اكتشاف الناس للخائن والغادر، ووعيهم لحقيقة هؤلاء الظالمين، ووضوح بطلان دعاواهم، وفضح مكائدهم، وإدراك أنهم غادرون، ظالمون، ناكثون للعهود، وأنهم ليسوا أهلاً لما يدعونه من إمامة وخلافة..
وهذا معناه: أن الصورة ستصبح أكثر نقاء، ووضوحاً للأجيال الآتية، وفي هذا الوضوح يحفظ الدين من غائلة تراكم الشبهات والأباطيل، ويحفظ المسلمون من التضليل.. وبذلك يفضح أمر الطرف الآخر، ويسلب أية شرعية لما يدّعيه، وتسقط جميع تصرفاته عن الاعتبار، ويظهر زيف ادعاءاته، وبوار ممارساته، وعوار أهدافه..
كما أن ذلك يسقط شرعية كل ما يدعيه الغاصبون الذين يأتون بعد معاوية، ممن يرتكزون في شرعيتهم إليه، ويعتمدون فيها عليه.. فاتضح: أنه لولا هذا السلم المتمثل بعقد الهدنة «الصلح» لبقي أعداء أهل البيت يبثون شبهاتهم، ويشيعون أضاليلهم، وأباطيلهم، التي تتهدد إيمان الناس، واعتقادهم على مر الدهور والعصور.
واتضح أيضاً: أن ما يحصل عليه الإمام الحسن عليه السلام عن طريق السلم يستحيل أن يحصل عليه في الحرب، حتى لو انتصر فيها..
ولعلك تقول: لماذا حارب الإمام علي عليه السلام معاوية، ولم يسع إلى مصالحته؟! ونقول في الجواب: إن من الضروري التنبيه إلى أن هذا لم يكن يمكن حصوله في حرب معاوية للإمام علي عليه السلام، فإن الإمام علياً عليه السلام كان يملك القدرة على الحرب، فلا مبرر للصلح بنظر الناس، بل إن السعي إليه يوجب الشبهة لدى الناس في أن يكون معاوية محقاً فيما يدعيه، وبذلك تصبح خيانة معاوية مبررة عند الكثيرين من الجهال، والبسطاء، حتى لو بادر إلى قتل الإمام علي عليه السلام نفسه، لأنه سيكون قادراً على التمويه على الناس في أمر اتهام الإمام علي عليه السلام بدم عثمان، وكفى ذلك مبرراً لنفض العهد، والإقدام على جريمة قتله عليه السلام.. بدافع من إحنه البدرية، وأحقاده الأحدية..
ولكن قتل الإمام الحسن عليه السلام، ليس له مبرر ما دام أن الحسنين قد دافعا عن عثمان حين هوجم وقتل، كما أوضحناه في كتابنا: الحياة السياسية للإمام الحسن عليه السلام..
حسابات معاوية في صلحه:
وإذا رجعنا إلى حسابات معاوية لأمر الصلح، فإنه وإن كان يرى نفسه في موقع القوة، ويرى أن انتصاره العسكري سيكون سهلاً وميسوراً، بملاحظة واقع الجيشين، ولكنه كان يعلم أيضاً: أن هذا الانتصار إذا انتهى باستشهاد الإمامين الحسنين عليهما السلام، وبني هاشم، فإنه يحمل معه احتمالات حدوث مفاجآت غير محسوبة هو في غنى عن معاناة الخوف والحذر منها، وسوف تنغص تلك المفاجآت المحتملة عليه لذة العيش، إذا كانت تتحرك في دائرة انتقال الملك إلى ولده يزيد لعنه الله، وبني أمية، فإن الأيام قد تتمخض عن تقلبات لم يحسب لها هو ولا غيره حساباً، وقد لا يستطيع من يأتي بعده من بني أبيه معالجتها بما يحفظ له النتائج الطيبة التي يتوخاها..
ولأجل ذلك، فقد آثر أن يعطي الإمام الحسن عليه السلام ما يريد، معتمداً على ما بيَّته من نوايا الغدر والخيانة له، ونكث عهده ونقض عقده، وإبطال كل ما كان شرطه له.. وقد أفصح هو نفسه عن نواياه هذه بجلاء حينما أعلن بعد توقيعه على وثيقة الصلح يقول: «ألا إن كل شيء أعطيته الحسن بن علي تحت قدمي هاتين، لا أفي به».. وهذا ما صرح به عدد من المؤرخين أيضاً..
معاوية يظهر على حقيقته:
ولكن من الواضح: أن هذا الغدر والخيانة، ليس فقط لا يخل بالبنية الفكرية والاعتقادية، بل هو يحصِّن هذه البنية، ويزيدها قوة ومناعة، من حيث إنه يمثل الدليل الحي لسقوط الدعاوى الكاذبة، بأن لبني أمية الحق في امتلاك قيادة الأمة فإن الخائن والغادر، والكاذب لا يمكن أن يكون أهلاً لشيء من ذلك.
وليكن هذا الانطباع الناشئ عن المعاينة، بمثابة صمام الأمان حتى لا تتعرض الحقيقة بعد هذا للتزوير، وليكن هو الحافظ لها من التشكيك، والتلاعب وخداع الناس فيها.. وبذلك يصبح للفكر السياسي والديني قوته، ورسوخه، وأصالته، ليؤمن ـ بعد هذا ـ من آمن عن بينة، وليكفر من كفر عن بينة..
الوفاء والخيانة لشروط الصلح:
وبعدما تقدم نقول: إن الإمام الحسن عليه السلام قد استطاع بعقد الهدنة الذي أبرمه مع معاوية أن يحفظ للشيعة المخلصين حقهم في الحياة، وأصبح أي تعامل غير إنساني معهم يمثل دليلاً على سقوط أطروحة وادعاءات مناوئي أهل البيت عليهم السلام، لأنه سوف يكون عدواناً غادراً ومفضوحاً. لا يمكن تبريره بأي منطق كان، حتى بمنطق أهل الجاهلية، ومن لا يؤمن بدين..
كما أنه عدوان يدركه الناس كلهم، كبيرهم، وصغيرهم، وعالمهم وجاهلهم، والذكي والغبي، والقريب والبعيد.. من حيث أن البشر كلهم يدركون أن الحياة الإنسانية لا يمكن أن تستمر إذا لم يتم الالتزام بالعهود والمواثيق، فمن لا يلتزم بها، فإنه يصادم البداهة، ولا بد من إدانته، لأنه بنظر الناس جميعاً يعبث بسلامة الحياة الإنسانية، وهو ما لا يمكن السماح ولا الرضا به، في أي من الظروف والأحوال.
وبذلك يصبح الوفاء والخيانة للعهود، هو المفتاح الذي إذا حركه الإنسان، وعرف الخائن والوفي، فإنه يعرف بذلك المحق من المبطل، والمصلح من المفسد، وقد استطاع الإمام الحسن أن يوجد هذا المفتاح، وأن يجعله في متناول يد كل إنسان عاش معه، أو يأتي بعده..
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان