من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد باقر الصدر
عن الكاتب :
ولد في مدينة الكاظمية المقدسة في الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة 1353 هـ، تعلم القراءة والكتابة وتلقى جانباً من الدراسة في مدارس منتدى النشر الابتدائية، في مدينة الكاظمية المقدسة وهو صغير السن وكان موضع إعجاب الأساتذة والطلاب لشدة ذكائه ونبوغه المبكر، ولهذا درس أكثر كتب السطوح العالية دون أستاذ.rnبدأ بدراسة المنطق وهو في سن الحادية عشرة من عمره، وفي نفس الفترة كتب رسالة في المنطق، وكانت له بعض الإشكالات على الكتب المنطقية. بداية الثانية عشرة من عمره بدأ بدراسة كتاب معالم الأصول عند أخيه السيد إسماعيل الصدر، سنة 1365 هـ هاجر إلى النجف الاشرف، لإكمال دراسته، وتتلمذ عند آية الله الشيخ محمد رضا آل ياسين وآية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي. أنهى دراسته الفقهية عام 1379 هـ والأصولية عام 1378 هـ عند آية الله السيد الخوئي.rnمن مؤلفاته: فدك في التاريخ، دروس في علم الأصول، نشأة التشيع والشيعة، فلسفتنا، اقتصادنا وغير ذلك.

خلافة الإمام الحسن عليه ‌السلام وظروفها (3)

طريقان بين يدي الإمام الحسن عليه‌ السلام:

.... كان بين يدي الإمام الحسن عليه ‌السلام طريقان: إمّا أن يواصل العمل في الساحة حتّى يخرّ صريعاً كما خرّ صريعاً بعد ذلك أخوه الحسين شهيداً في ساحة كربلاء. وإمّا أن يوقف خطّ العمل نزولاً على الأمر الواقع.

 

الاعتبارات المتمثّلة في الإمام الحسن عليه‌ السلام:

وكان لا بدّ للإمام الحسن وهو يدرس أفضل هذين الطريقين من أن يدخل في حسابه كلّ اعتباراته وكلّ جوانب وجوده؛ لأنّ الإمام الحسن كانت تتمثّل فيه عدّة اعتبارات: كان من ناحيةٍ هو:

أوّلاً: الأمين على النظرية، هو الأمين على الصيغة الإسلامية الكاملة على الحياة بوصفها خطّاً فكرياً وروحياً يجب أن يعيش، ويجب أن يستقطب بالتدريج، ويجب أن يمتدّ إلى أكبر قدرٍ ممكنٍ من القلوب والنفوس والعقول.

وكان من ناحيةٍ أخرى: الأمين على التجربة، يعني الأمين على كيانٍ جسّد تلك الصيغة الإسلامية الكاملة، هذا الكيان الذي أنشأه الإمام علي عليه ‌السلام واستأنف به حياة رسول الله صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله وعصره، هذا الكيان خلّفه الإمام علي عليه ‌السلام ليتزعّمه الإمام الحسن عليه ‌السلام، فكان الإمام الحسن عليه ‌السلام بالاعتبار الثاني أميناً على الواقع الحيّ الذي جسّد تلك الصيغة الإسلامية الكاملة، أي هو أمين على النظرية والتطبيق معاً، أمين ووريث للمفهوم والخطّ ولتجسيد هذا الخطّ من واقع الحياة.

وكان هناك اعتبار ثالث من الاعتبارات التي يمثّلها الإمام الحسن: فهو أمين على كتلة، هذه الكتلة هي التي نسمّيها بالشيعة، هذه الكتلة هي الجانب أو الجزء الذي أخذ نظرية الإسلام من علي عليه‌ السلام، ومن إمامة علي عليه ‌السلام، ومن خطّ أهل البيت عليهم‌ السلام، هذه الكتلة التي وضع الرسول صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله بذورها، ثمّ نمّاها علي عليه ‌السلام خصوصاً على عهد خلافته، وأخذها الإمام الحسن عليه‌ السلام ليتسلّم زعامتها وقيادتها، كتلة يجب أن تنمو على مرّ الزمن، وتشكّل الطليعة الواعية القادرة على قيادة المسلمين ككلٍّ في مستقبلٍ قريبٍ أو بعيد.

هذه اعتبارات ثلاثة كان يمثّلها جمعياً هذا الإمام الشابّ، فكان لا بدّ حينما يدرس أفضل الطريقين: طريق التضحية والموت أو طريق تجميد الحركة والخطّ إلى وقتٍ ما، دون أن يدخل إلى جانب هذه الاعتبارات الثلاثة اعتبار رابع يطلق عليه عادةً أيّ اسمٍ من الأسماء العاطفية أو الخلقية التي لا ترتبط بمصالح الرسالة، من قبيل أن يقال: إباء الضيم، عدم الاستعداد لمصافحة الأعداء، الشعور بالعزّة.

كلّ هذه المشاعر هي اعتبارات عاطفية يجب أن لا تأخذ طريقها إلى قلب الإنسان الحقّ الذي يريد دائماً أن يرسم طريقه على أساس الاعتبارات الرسالية، كإباء الضيم - مثلاً - الذي ينسب إلى الإمام الحسين عليه ‌السلام.

هذا الإباء يجب أن يراد به حينما ينسب إلى إمامِ حقٍّ كالإمام الحسين عليه ‌السلام أو الإمام الحسن عليه ‌السلام إباء هذا الإمام عن أن تنتهك حرمة الرسالة، وعن أن تذلّ الرسالة، وعن أن تفقد الرسالة مكسباً كان بالإمكان أن يتحقّق بالنسبة إلى هذه الرسالة.

أمّا المفهوم العاطفي لإباء الضيم فهو مفهوم جاهلي لا يقرّه الإسلام، فإنّ إباء الضيم حيث تقتضي الرسالة من الرسالي أن يمتحن تحمّل هذه القيم مثل هذا الإباء يكون موقفاً لا رسالياً ولا إنسانياً، كما أنّ العكس صحيح، فأيّ اعتبارٍ عاطفيٍّ أو خلقيٍّ غير نابعٍ من واقع الرسالة وقيمها وأهدافها يجب أن لا يدخل في حساب الإنسان الحقّ. وأيّ إنسانٍ أحقّ بهذا الوصف من هؤلاء القادة الذين اؤتمنوا على أشرف الرسالات السماوية، وهذا ليس مجرّد مفهومٍ تأريخي، إنّما هو أيضاً يجب أن يكون قاعدةً لعمل كلّ واحدٍ منّا، كلّ إنسانٍ يريد أن يسير على خطّ هؤلاء القادة يجب في البداية دراسة كلّ نقطةٍ من نقاط سلوكه على مفترق الطريق، يجب أن يدرس سلوكه واختياره على مفترق الطريق على أساس اعتبارات الرسالة، لا على أساس نوعٍ من العواطف التي يعيشها الإنسان الاعتيادي بقلبه لا برسالته، وهكذا كان للإمام الحسن عليه‌ السلام ثلاثةٍ خطوطٍ لا بدّ من أن يدرس موقفه على أساسها:

الأوّل: كونه أميناً على الرسالة، أي على أُطروحة النظرية، أي على الصيغة الإسلامية الكاملة للحياة نظرياً وروحياً.

الاعتبار الثاني: كونه أميناً على التجربة السياسية التي جسّدت تلك الأُطروحة.

الاعتبار الثالث: كونه أميناً على الكتلة التي بذرها النبي صلى‌ الله ‌عليه ‌وآله ونمّاها الإمام علي عليه ‌السلام كان من المفروض أن تمتدّ مع تأريخ الإسلام.

أمّا على الاعتبار الأوّل بوصفه أميناً على الأُطروحة النظرية، على الصيغة الإسلامية للحياة بوصفها خطّاً يجب أن يعيش في عقول وأرواح ونفوس المسلمين، فقد كان أقسى المفارقات هذه المفارقة التي بيّناها فيما سبق، حينما رأينا هذه الصيغة الإسلامية الكاملة للحياة كان وصولها إلى درجة الحكم وممارستها للحكم، كان هذا بنفسه وبصورةٍ غير مباشرةٍ السبب في زوال الاقتناع بها من قبل القواعد الشعبية بالتدريج، لا لأنّ وصولها إلى الحكم كشف عن وجهٍ منحرفٍ عن سلوكٍ غير منطبقٍ على النظرية، غير منسجمٍ مع قيمها وأهدافها، بل لأنّ القاعدة الشعبية التي وصل على أكتافها قائد هذه النظرية إلى الحكم لم تكن تستطيع أن تعيش حياة الكفاح والجهاد إلاّ إلى مرحلةٍ قصيرةٍ من الزمن.

ولهذا حينما مارس الإمام العظيم أبو الأئمّة عليهم ‌السلام تطبيق نظريته على كلّ مستويات الحياة الإسلامية: اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وخلقياً بدأت المتاعب والمصائب، بدأ الناس يشكّون، بدؤوا يرهقون، يرهقون بهذه النظرية، وبهذا زال الاقتناع بالتدريج من صحّة هذه النظرية، وكان لا بدّ للنظرية لكي تعيش في الأمّة الإسلامية من أن تسترجع هذا الاقتناع بأيّ ثمن، وكان ثمن استرجاعها هذا الاقتناع هو أن ينحسر هذا الحكم الذي يمثّل هذه الأطروحة ، وأن يخلي الميدان لحكمٍ آخر مثّله معاوية، ومثّلته كلّ القوى المتبقيّة من السقيفة، كان لا بدّ لذلك من أن يبرز على الميدان، من أن يظهر واقعه، ومضمونه، وحقيقة أهدافه، وكلّ أبعاده، وحينئذٍ تسترجع الأطروحة اقتناع المسلمين بها وبصحّتها وضرورتها.

 

هل قدّر على كلّ نظريّة صالحة أن تفقد قواعدها الشعبيّة بعد التطبيق؟

هنا قد يبدو سؤال: أنّه هل هناك قدر لازم على كلّ نظريةٍ صالحة أنّها حينما تأخذ مجراها في التطبيق تفقد اقتناع قواعدها الشعبية بها بالتدريج، وحينئذٍ تبدأ من جديدٍ مضطرّةً إلى أن تتخلّى عن الحكم ليفسح المجال للآخرين أن يمارسوا الحكم على أساس نظريةٍ أخرى باطلةٍ كافرةٍ، حتّى يكون ذلك مثبتاً للمسلمين صحّة النظرية الأولى؟

هل هذا قدر مفروض على النظرية الإسلامية دائماً أنّها تدخل إلى الحياة فتقود وتحكم ثمّ سرعان ما تهدم وسرعان ما تضطرّ إلى الانسحاب، لكي تسترجع مرّةً أخرى الاقتناع الذي فقدته خلال التطبيق؟

هل هذا قدر لازم على النظرية الإسلامية في الظروف الموضوعية الخاصّة التي تفتّق عنها حكم الإمام علي عليه ‌السلام، ذلك لأنّ الإمام علياً عليه ‌السلام حينما حكم وحينما جاء ليمارس تصديق هذه النظرية كاملةً غير منقوصةٍ جاء معتمداً على شعبٍ لم يتفاعل معه ساعة، لم يعش معه يوماً، لم يصرف معه في سبيل إعداد هذه النظرية جهداً؟

الشعب الذي قام بحماية هذا التطبيق، وشكّل الجيش المحارب للإمام كان شعب العراق، وبالرغم من أنّ الشعب العراقي وقتئذٍ كان يبدو من أكثر الشعوب - شعوب الأمّة الإسلامية - استجابةً وإخلاصاً للإمام علي عليه‌ السلام، ولهذا نادى أهل العراق للإمام عليه عليه ‌السلام بأنّه خليفة، إلاّ أنّ استجابة هذا الشعب واستجابة قطاعاتٍ أخرى مصريةٍ ومن الجزيرة العربية للإمام كان استجابةً على أساس الرصيد الذي كان يتمتّع به الإمام علي عليه ‌السلام، على أساس هذا النوع من التأريخ الكبير الذي يعيشه الإمام في أذهان المسلمين.

المسلمون حينما عاشوا محنة انحراف عثمان، ثمّ بعد هذه المحنة مقتل عثمان، وحينها وجدوا أمامهم مشاكل كبيرة فوق الحلّ من الإنسان الاعتيادي اتّجهوا بأنظارهم بطبيعتهم إلى صحابي كبير، اتّجهوا ليفتّشوا عن صحابيٍّ كبيرٍ يستطيع بما يحمل من تراث محمّدٍ صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله أن يتغلّب على هذه المشاكل الكبيرة، ويملأ هذا الفراغ الكبير، ويعيد الأمور إلى أوضاعها الطبيعية، فكان أن وقع اختيار المسلمين بطبيعتهم على الإمام علي عليه ‌السلام؛ لأنّه كان أبرز صحابيٍّ على المسرح السياسي يتمتّع بما لا يتمتّع به أيّ صحابيٍّ آخر من سوابق وفضلٍ وشهرة.

إذن فالاستجابة منذ البدء كانت استجابةً عاطفيةً قائمةً على أساس الشهرة، لا على أساس التفاعل، لا على أساس التقديس الذاتي، لا على أساس القربة المباشرة لهذه القواعد الشعبية، ومن الطبيعي أن تكون هذه الاستجابة العاطفية القائمة على أساس الشهرة، وعلى أساس السوابق، وعلى أساس الفضل، ومن الطبيعي أن تكون هذه الاستجابة استجابةً ذات شوطٍ قصير، ذات موجةٍ قصيرةٍ ثمّ تبدأ بالذوبان، تبدأ بعد هذا بالتميّع حينما تصطدم بما تصطدم به أعباء الجهاد من المصالح الشخصية للأفراد.

أمّا حينما تجيء النظرية الإسلامية إلى الحياة على أعقاب تفاعلٍ واسع النطاق مع جزء كبيرٍ من الأمّة، حينما تجيء ويكون هناك جزء كبير من الأمّة مقتنعاً بهذه النظرية اقتناعاً واعياً مدبّراً صحيحاً، في مثل تلك الحالة سوف لن تحتاج هذه النظرية مرّة أخرى إلى أن تتنازل عن الحكم لكي تكسب اقتناعه، الاقتناع العاطفي هو الذي يتزحزح خلال غبار الجهاد، أمّا الاقتناع الواعي فهو الذي يتعمّق ويترسّخ خلال غبار الجهاد.

على أيّ حالٍ كانت الظروف الموضوعية وقتئذٍ تفرض هذا التلاشي وهذا الانحسار في الاقتناع حتّى فقد خطّ علي عليه ‌السلام وهي النظرية الإسلامية الكاملة الصحيحة اقتناع المسمين بها، وحينما فقدت هذا الاقتناع لا بدّ لها أن تسترجعه، وكان لا بدّ لكي تسترجعه من أن تفسح المجال لأعدائها لكي يعبّروا عن ذواتهم وعن أنفسهم، ولكي يقول معاوية بالذات وبكلّ وضوح وبكلّ صراحة على المنبر الذي كان يجسّد آمال المسلمين يصعد على ذلك المنبر ويقول: إنّي حاربتكم لا لكي تصلّوا أو تصوموا، وإنّما لكي أتأمّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم لذلك كارهون.

إلاّ أنّ انحسار حكم الإمام عليٍّ عليه ‌السلام وإعطاء الفرصة لمعاوية أو للأعداء لكي يمارسوا وجودهم على المسرح كان يمكن أن يتمّ بطريقٍ أو بطريقين، وقف الإمام الحسن عليه ‌السلام على مفترقهما.

 

لماذا لم يختر الإمام الحسن عليه ‌السلام طريق الجهاد؟

كان يمكن أن يواصل الإمام الحسن عليه‌ السلام مهمّته العسكرية حتّى يخرّ صريعاً في ميدان الجهاد، وحينئذٍ يفسح المجال لمعاوية لكي يعيش وجوده كحاكم. وكان يمكن أن يتحقّق ذلك بتجميد حركته وإيقاف العمل ضدّ معاوية.

كان يمكن أن يتحقّق بكلّ من هذين الأسلوبين، ومن هنا قد يقفز إلى الذهن هذا السؤال: أنّه لماذا لم يختر الإمام الحسن عليه ‌السلام الطريق الأوّل من هذين الطريقين بعد أن كان كلّ من هذين الطريقين محقّقاً لحاجة الرسالة بالانسحاب المؤقّت لكي تكسب الاقتناع؟ ويزداد هذا السؤال جولاناً في الذهن حينما يقارن موقف الإمام الحسن عليه‌ السلام بموقف الإمام الحسين عليه‌ السلام حينما وقف بين الطريقين فاختار أن يخرّ صريعاً بدلاً من أن يوقف العمل ولو مؤقّتاً.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد