الشيخ رسول جعفريان
لا ريب في أنّ الأيام الأخيرة من حياة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت محفوفة بالقلق على مستقبل المسلمين. وفي الوقت نفسه كان قسم من شؤونه الخاصة ذا بعد شخصيّ، بل ذا بعد تربوي نوعًا ما للمسلمين من أجل مواجهة الموت وتبعاته يوم ملاقاة الله سبحانه.
ومن الأخبار التي نقلت حول الأيام الأخيرة من عمره الشريف (صلى الله عليه وآله وسلم) تردّده على البقيع أكثر من السابق. وكان فيه كثير من أصحابه الذين استُشهدوا أو ماتوا خلال السنين العشر الماضية.
فكان يذهب إلى البقيع لزيارتهم بانتظام. يضاف إلى ذلك أن دنوّ الأجل كان يحدو به إلى الذهاب إلى البقيع أكثر من ذي قبل. وكان يخاطب أصحابه الثاوين في قبورهم قائلاً: "السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين، أنتم لنا فَرَطٌ وإنّا بكم لاحقون"(1).
واعتلّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئاً فشيئاً. وظهرت عليه أعراض المرض في حمّىً شديدةٍ. وبلغت الحمّى من الشدّة مبلغاً أنّ الذين كانوا يضعون أيديهم على جسمه الشريف يشعرون أنه لا طاقة له من شدة الحمّى(2).
وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول إن مرض المؤمن كفّارة لذنوبه. ومع هذا لم يترك صلاة الجماعة ولـمّا تقد!م أبو بكر للصلاة بلا استئذان، رفع (صلى الله عليه وآله وسلم) ستارة الحجرة ورآه، وحينئذٍ جاء إلى المسجد، وتقدّم وأمّ الناس(3)، وكان دعاؤه الأخير في أيامه الأخيرة قوله: "الّلهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرّفيق".
ووصل إليه في يوم من أيامه الأخيرة مقدار من المال، فوزّع قسماً منه على الناس، وأودع إحدى زوجاته ستة دنانير متبقية. بيد أنّ عينه لم تر النوم حتى سألها عنها. فجاءته بها، فقسم خمسةً منها بين خمسة من أُسر الأنصار، وطلب ممّن حوله إنفاق الدينار المتبقّي. ثم قال: «الآن استرحتُ»(4).
ورأوه مرّة ذاهباً إلى بيته مسرعاً، فسُئل عن سبب ذلك، فقال ما مضمونه: كان عندي ذهب وما أردتُ أن أنام وهو عندي، فأمرتُ بتقسيمه(5).
ومن الأمور الأخرى المنقولة أنه لم يُرد أن يبقى أقلّ دَينٍ – بكل ما للكلمة من معنى – في ذمة أحد. ونقرأ في هذا المجال حديثاً شائقاً أُثر عنه.
عن جابر بن عبد الله وابن عبّاس: لـمّا نزلت (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) إلى آخر السورة، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا جبرئیل، نفسي قد نعيت. قال جبرئیل: "وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى" (6).
فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بلالاً أن ينادي بالصلاة جامعةً، فاجتمع المهاجرون والأنصار إلى مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فصلّى بالناس، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم خطب خطبةً وجلت منها القلوب، وبكت منها العيون، ثم قال: أيها الناس، أيّ نبيّ كنتُ لكم؟ فقالوا: جزاك الله من نبيّ خيراً.
فقد كنتَ لنا كالأب الرحيم، وكالأخ الناصح المشفق، أدّیت رسالات الله، وأبلغتنا وحيه، ودعوتَ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة، فجزاك الله عنّا أفضل ما جازى نبيّاً عن أُمته.
فقال لهم: معاشر المسلمين، أنا أنشدكم الله وبحقّي عليكم، من كان منكم له قبلي مظلمة فليقُم فليقتصّ منّي. فلم يقم إليه أحد. فناشدهم الثانية، فلم يقم إليه أحد. فناشدهم الثالثة … فقام من بين المسلمين شیخ كبير يقال له: عكاشة، فتخطّى المسلمين حتى وقف بين يدي النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: فداك أبي وأمّي لولا أنّك ناشدتنا مرّةً بعد أخرى ما كنت بالذي أتقدّم على شيء منك؛ كنتُ معك في غزاة، فلمّا فتح الله علينا، ونصر نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، {وأردتَ} الانصراف، حاذت ناقتى ناقتك، فنزلتُ عن الناقة، ودنوتُ منك لأُقبّل فخذك، فرفعت القضيب فضربتَ خاصرتي، فلا أدري أكان عمداً منك أم أردتَ ضرب الناقة؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا عكاشة، أُعيذك بجلال الله أن يتعمّدك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالضرب؛ یا بلال، انطلق إلى منزل فاطمة فائتني بالقضيب الممشوق، فخرج بلال من المسجد ويده على أمّ رأسه وهو ينادي: هذا رسول الله يعطي القصاص من نفسه، فقرع الباب على فاطمة، فقال: يا ابنة رسول الله، ناوليني القضيب الممشوق.
فقالت فاطمة: يا بلال، وما يصنع أبي بالقضيب وليس هذا يوم حجّ ولا […]؟ فقال: يا فاطمة، ما أغفلك عمّا فيه أبوك! إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يودّع الدين ويفارق الدنيا، ويعطي القصاص من نفسه.
فقالت فاطمة: یا بلال، ومن تطيب نفسه أن يقتصّ من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ يا بلال ادنُ وقل للحسن والحسين يقومان إلى هذا الرجل فيقتصّ منها، ولا يدعانه يقتص من رسول الله.
ودخل بلال المسجد، ودفع القضيب إلى عكاشة … وقام الحسن والحسين فقالا: يا عكاشة، ألست تعلم أنّا سبطا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والقصاص (منّا) كالقصاص من رسول الله؟
فقال لهما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): اقعدا یا قرّة عيني، لا نسي الله لكما هذا المقام. ثم قال عليه الصلاة والسلام: يا عكاشة اضرب إن کنت ضارباً.
فقال:… ضربتني وأنا حاسر عن بطني. فكشف عن بطنه… وصاح المسلمون وقالوا: أترى عكاشة ضارباً بطن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فلمّا نظر عكاشة إلى بياض بطنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كأنّه القَباطيّ، لم يملك أن أكبّ عليه، فقبّل بطنه وهو يقول: فداك أبي وأمي، ومن تطيق نفسه أن يقتص منك؟!
فقال له النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): إما أن تضرب، وإما أن تعفو. فقال: قد عفوت عنك رجاء أن يعفو الله عني يوم القيامة. فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): من سرّه أن ينظر إلى رفيقي في الجنّة فلينظر إلى هذا الشيخ.
فقام المسلمون فجمعوا يقبلون ما بين عيني عكاشة ويقولون: طوباك طوباك نلت درجات العلى بمرافقة النّبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).
ومن الوقائع الأليمة الأخرى التي حدثت في تلك الأيام قضية الكتاب الذي أراد (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يكتبه، فحال بعض الأشخاص دون ذلك.
.... وفي مصاف الواقعة المذكورة موضوع بعث أسامة الذي آذى النّبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بشدة، لأنّه كلّما أصرّ على ذهاب المهاجرين والأنصار معه، تخلّف بعضهم، بل حالوا دون ذهاب الآخرين أيضاً.
وكانت فاطمة وعلي (عليهما السلام) أقرب الناس إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). ورأی (صلى الله عليه وآله وسلم) فاطمة تبكي بشدة، فدعاها إليه. فهمس في أذنها، فزاد بکاؤها.
ثم قال لها شيئا فتبسّمت. وحين سئلت عن ذلك، قالت: أخبرني أنه سيموت في مرضه، ثم أخبرني أني أول من ألحق به من أهل بيته.
ومن وصاياه الأكيدة الأخرى (صلى الله عليه وآله وسلم) وصيّته المهاجرين بالأنصار. وكان طبيعياً أنّ المهاجرين سيسيطرون على الوضع، وسيعيش الأنصار مظلومين في بلدهم.
واغتسل (صلى الله عليه وآله وسلم) في يوم من الأيام التي تحسّنت فيها حاله نوعاً ما، وصلّى، ثم خطب خطبة استغفر فيها لشهداء أُحد، وأوصى بالأنصار، وأخبر المهاجرين بأنّهم سيعلو کعبهم، وأن الأنصار يظلّون على ما هم عليه. وأنّهم سنده الذي يستند إليه، وليُحسَن إلى محسنهم، ويُعفَ عن مسيئهم.
وروى أبو سعيد الخُدريّ أنه أوصى بأهل بيته ثم أوصى بالأنصار(7). مع هذا كان أكثر وصيّته بالصلاة. وأوصى أيضًا بالإماء اللاتي تعرّضن لصنوف الظّلم. ونُقل عن أمير المؤمنين أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم): وضع رأسه في حجر أمير المؤمنين وهو يكرّر قوله : "الصلاة الصلاة"(8).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الطبقات الكبرى ۲: ۲۰۳.
(۲) نفسه 2: ۲۰۸
(3) نفسه 2 : ۲۱۰ (وجاء في هذا اللفظ أنه “صلى الله عليه وآله وسلم” بعثه للصلاة ، لكنه جاء و تقدم وصلّى !)
(4) الطبقات الكبرى ۲: ۲۳۷.
(5) نفسه 2 : 238.
(6) الضُّحی: 5 ، 4.
(7) الطبقات الکبری ۲: ۲۵۱، ۲۵۲
(8) نفسه ۲: ۲6۲.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان