من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد صنقور
عن الكاتب :
عالم دين بحراني ورئيس مركز الهدى للدراسات الإسلامية

يوميَّات من الهجرة النبويّة

قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد:

﴿لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾.

 

مِن أعظم الذكريات في تاريخ الإسلام:

تُصادف مثلَ هذه الأيام المباركات ذكرياتٌ هي مِن أعظم الذكريات في تاريخ الإسلام، وهي ذكرى الهجرةِ النبويَّة الشريفة، وذكرى المولدِ النبويِّ، وذكرى بناء أول مسجدٍ بُني في الإسلام، والذي أفادت الروايات أنَّه مسجد قُباء في المدينة المنورة، وقد بُني بُعيد هجرة النبيِّ الكريم (ص) إلى المدينة.

فقد أفادت الرواياتُ وأفادتْ كتبُ التأريخ أنَّ الرسول الكريم (ص) وصلَ إلى أطراف يثرب من جهة وادي ذي الحليفة، ونزل في قريةٍ يُقال لها قُباء تبعدُ عن مركز المدينة قرابة الميلين أي في حدود ثلاثة كيلو مترات ونصف، وهناك استضافه رجلٌ كفيف متقدِّمٌ في السنِّ يُقال له كلثوم بن هدم من بني عمرو بن عوف. وهناك بنى الرسول الكريم (ص) مسجد قُباء على تفصيل نأتي عليه إنْ شاءُ الله تعالى.

 

يوم الانتظار بقباء:

ذكرت الكثيرُ من الآثار أنَّ وصول النبيِّ (ص) إلى منطقة قُباء كان في الثاني عشر من ربيعٍ الأول، وكان خروجه من مكة الشريفة في غُرَّة ربيع، حيث خرج منها إلى غار ثور، ومكث فيه ثلاثة أيام، فحين أمِنَ الطلب من مشركي قريش ونزل عليه الأمر خرج من غار ثور متوجِّهاً إلى المدينة المنورة، وبلغها في اليوم الثاني عشر من ربيعٍ الأول، إلَّا أنَّه لم يدخل مركز المدينة وإنَّما بقيَ في منطقة قُباء، فألحَّ عليه رجالاتٌ من الأوس ومن الخزرج أنْ ينزل إلى مركز المدينة. -وأبدى كلُّ واحدٍ، وكلُّ قبيلةٍ أن ينزل عندهم، إلَّا أنَّه (ص) أبى أنْ يرحل من أرض قُباء، وقال: "لا أخرجُ منها حتى يصلَ عليُّ بن أبي طالب (ع)، حيث خلَّفتُه في مكَّة".

تنقَّل رسولُ الله (ص) من بيتٍ إلى آخر -إذ لم يكن يُحب أن يُثقِلَ على أحد- فنزل عند كلثوم بن هدم، ثم نزل بعد ذلك عند خيثمة الأوسي، وهكذا ظل يتنقل في بيوتات بني عمرو بن عوف ينتظر عليًّا (ع)، وكانت الوفود تأتيه تُبدي له تمام الاستعداد أنْ ينزل عندهم، إلَّا أنَّه كان يُصرُّ على البقاء.

وكان أحد أصحابه يُلح عليه بالقول: -يا رسول الله- "انْهَضْ بِنَا إِلَى الْمَدِينَةِ فَإِنَّ الْقَوْمَ قَدْ فَرِحُوا بِقُدُومِكَ وهُمْ يَسْتَرِيثُونَ إِقْبَالَكَ إِلَيْهِمْ، فَانْطَلِقْ بِنَا ولَا تَقُمْ هَاهُنَا تَنْتَظِرُ عَلِيّاً فَمَا أَظُنُّه يَقْدَمُ عَلَيْكَ إِلَى شَهْرٍ فَقَالَ لَه رَسُولُ اللَّه (ص): كَلَّا مَا أَسْرَعَه، ولَسْتُ أَرِيمُ حَتَّى يَقْدَمَ ابْنُ عَمِّي وأَخِي فِي اللَّه عَزَّ وجَلَّ وأَحَبُّ أَهْلِ بَيْتِي إِلَيَّ، فَقَدْ وَقَانِي بِنَفْسِه مِنَ الْمُشْرِكِينَ، يقول الإمام عليُّ بن الحسين (ع) كما في الكافي: فَغَضِبَ الرجل واشْمَأَزَّ ودَاخَلَه مِنْ ذَلِكَ حَسَدٌ لِعَلِيٍّ (ع)، وقرر أنْ ينزل وحده إلى مركز المدينة، يقول الإمامُ زينُ العابدين (ع): "فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ وتَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّه (ص) بِقُبَا يَنْتَظِرُ عَلِيّاً (ع)". أَقَامَ في أرض قبا بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْماً وكان مِن حين وصوله بعث رجلاً رسولاً له يُسمَّى أبو واقدٍ الليثي إلى مكة، وقال له: قل لعليٍّ (ع) إنَّ الظروف قد تهيَّأت، فإتنا مع الفواطم.

 

كان رسولُ الله (ص) قد خلّف عليًّا (ع) لمهامٍ ثلاث:

المهمَّة الأولى: هي المبيتُ على فراشه؛ إيهامًا لقريش.

والمهمَّة الثانية: هي ردَّ الودائع التي كانت بيد رسول الله (ص)، فقد تعارفَ المؤرِّخون والرُّواة وأجمعوا على أنَّ قريشاً رغم عدائها، وأنَّ العربَ رغم عدم استجابتهم لرسول الله (ص)، إلا أنَّ أحدَهم إذا كان له مالٌ نفيسٌ، أو شيءٌ يخشى عليه من الضياع، أو التلف، أو السرقة، فإنَّه كان يُودعه عند محمد (ص)، وكانت قريش تُلقبه بالصادق الأمين. فالمهمَّة الثانية التي كان على عليٍّ (ع) أن يُنجزَها للرسول (ص) هي أن يردَّ الودائع إلى أهلِها.

وأمَّا المهمةُ الثالثة: فهي أنْ يأخذ معه الفواطم -بعد أن يحرسهن في فترة غيابه- فيُهاجرَ بهنَّ إلى المدينة. فقام عليٌّ (ع) بكلِّ تلك المهام أحسنَ قيام.

 

يوم الفداء الأكبر:

أمَّا ما يرتبطُ بمبيته على فراش الرسول (ص) فتُؤكِّد الروايات الواردة من الفريقين أنَّ قريشاً بعد أنْ أعياهم أمرُ رسول الله (ص)، وبعد أن مات الحامي له والذائدُ عنه عمُّه أبو طالب (رحمه الله)، وبعد أنْ نما إلى علمِهم أنَّ جماعةً من الأوس والخزرج يصلُ عددُهم إلى السبعين ويزيد بايعوا رسولَ الله (ص) في موسم الحج بيعة العقبة الثانية ساورتهم خشيةٌ من أنْ يتعاظمَ أمرُ محمدٍ (ص) ويتجاوز حدود مكَّة فيخرجُ أمرُه عن السيطرة لذلك أخذوا في التشاور في هذا الشأن بقية ذي الحجَّة ومحرم وفي نهاية صفر اجتمع أعيانُهم في دار الندوة، وكان لا يجتمع فيها إلا الأعيان الذين تجاوزتْ أعمارُهم الأربعين، فتداولوا فيما بينهم الكيفية التي يتمُّ بها التصفيةُ الكاملة لهذه القضية التي أرَّقتهم فاقترحَ أبو جهلٍ ومعه آخرون أنْ يُكلفوا رجلاً فاتكاً يغتالُ النبيَّ (ص) فإذا طالبت بنو هاشمٍ بدمِه أعطوهم بدل الديةِ عشرَ ديات، فلم يستجود البقيةُ هذا المقترح، وقالوا إنَّ بني هاشمٍ لن يقبلوا بالدية وسوف يعملونَ هم وحلفاؤهم مِن خزاعة على الانتقام وأخذِ الثائر وسيُفضي ذلك إلى الحرب بين بطون قريش، فاقترحَ آخرونْ أن يأخذوا النبيَّ (ص) عنوةً ويحبسوه في موضعٍ محرَز ويجروا عليه قوتَه إلى أن يموت، وكذلك هذا الرأي لم يحظَ بالقبول لأنَّهم لا يأمنون من أنْ تتمكن عشيرتُه وأصحابُه من تخليصه، فاقترح بعضُهم طردَ النبيِّ (ص) من مكَّة، فقال بعضهم إنَّ هذا الرأي هو أوهنُ الآراء فإنَّ محمدًا (ص) إنْ خرج من بينهم والتقتْه القبائلُ واستمعتْ إلى حديثه وحُسنَ بيانه وقوَّةَ برهانِه انقادت له، فلا تلبثون حتى يملأ عليكم مكة خيلاً ورجالاً، فتعاظمت حيرتُهم في شأنِ النبيِّ (ص) ثم اقتضى الرأيُ عندهم -بعد أنْ اقترح شيخٌ بينهم نطق الشيطانُ على لسانه- أن يُشارك في قتله كلُّ بطنٍ من بطون قريش العشرة؛ حتى يضيعُ دمُ النبيِّ (ص) بين قبائلَ قريش. فانتخبوا من كلِّ قبيلةٍ شيطاناً، شرساً، جسوراً، واتَّفقوا على أن يُباغتوا النبيَّ (ص) ليلاً فيغتالونه، فيضربونه ضربةَ رجلٍ واحد، حتى يضيعَ دمُه بين القبائل، وحينها يقبلُ بنو هاشمٍ بالدِّية؛ لأنَّه لا طاقةَ لهم حينذاك على أنْ يُحاربوا كلَّ قبائلَ قريش، واتفقوا على المكاتمة وأن يُبادروا إلى إنفاذ ما خططوا له قبل أن يفشو الأمرُ فيرصدوا دار رسولِ الله (ص) نهارًا فإذا ذهب هزيع من الليل وانقطع الطريق أحاطوا بداره فإنْ خرج منها لبعض شأنه تواثبوا عليه فقتلوه مجتمعين عند باب داره وإنْ لم يخرج وانتصف الليل اقتحموا عليه داره وضربوه مجتمعين بأسيافهم. وعلى ذلك خرجوا من دار الندوة وقد أجمعوا على هذا الرأي.

فنزل الأمينُ جبرئيل (ع) على رسول الله (ص) وأخبره أنَّ الملأ يأتمرون بك، وقد لخَّصت الآيةُ من سورة الأنفال وهي قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ لخَّصت هذه الآيةُ ما وقع في دار الندوة وأنَّهم تداولوا فيما بينهم فكان رأي بعضِهم حبسَه وهو معنى قوله تعالى: ﴿لِيُثْبِتُوكَ﴾ أي ليحبسوك ورأى البعض الآخر إخراجه من مكة واستقرَّ الرأي عندهم على قتله وأخبره جبرئيل أنَّ الله يأمره بالهجرة، وأنْ يخلِّف عليًّا (ع) ليبيت على فراشه، فأخبر النبيُّ محمد (ص) عليًّا (ع) بما تُدبِّر له قريش، وأنه تعالى أمرني بالهجرة من ليلتي هذه وأن آمرك بالمبيت على مضجعي لتخفي بمبيتك عليهم أثري، فما أنت صانع؟ فقال عليٌّ (ع): أَوتسلمُ يا رسول الله؟ هذا ما يشغل أمير المؤمنين (ع) سلامة رسول الله (ص) قال: أَوتسلمُ بمبيتي يا نبيَّ الله؟ قال: نعم فتبسَّم عليٌّ ثم سجد لله شكراً لله تعالى، وكانت أوَّلَ سجدةِ شكرٍ في الإسلام. ثمَّ لـمَّا أنْ رفع رأسَه من السجدة قال امض بما أُمرت، فداك سمعي وبصري وسويداءُ قلبي، ومرني بما شئت وما توفيقي إلا بالله، قال رسول الله (ص) لعليٍّ: يا عليّ، ما صبرُك على الموت؟ قال: ليس هذا من مواطن الصبر، بل هو من مواطن الغبطة.

هذا وقد روى العديد من الرواة من طرق الفريقين عن النبيِّ (ص) أنَّه قال: "أوحى الله إلى جبرئيل وميكائيل أني آخيتُ بينكما وجعلتُ عمرَ أحدكما أطولَ من عمرِ صاحبه. فأيُّكما يُؤثِرُ أخاه؟ فكلاهما كره الموت، فأوحى الله إليهما: ألا كنتما مثل وليي عليِّ بن أبي طالب: آخيتُ بينه وبين محمدٍ نبيي فآثرَه بالحياة على نفسِه، فظلَّ على فراشه يقيه بمهجتِه، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوِّه. فهبطَ جبرئيلُ فجلسَ عند رأسِه وميكائيلُ عند رجليه، وجعل جبرئيل يقول: بخ بخ! مَن مثلُك يا ابن أبي طالبٍ واللهُ يباهي بك الملائكة وأنزل اللهُ فيه: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾.

اعتنق رسولُ الله (ص) عليًّا (ع) وبكيا معًا وودَّعه ثم خرج (ص) من داره وهو يقرأُ سورةَ يس، إلى أنْ بلغ قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾.

وبات عليٌّ (ع) على فراشٍ رسول الله (ص) واِلتحف ببردتِه، وغطَّى رأسَه حتى لا يُعرَف -هل تجدون في تاريخ الرسالات فدائيًّا كعلي (ع)- ولـمَّا أنْ أسدل الليلُ ظلمته، وتغلَّس، اجتمعت قريش حول بيت رسول الله (ص)، مُتوهِّمين أنَّ الرسول (ص) على فراشه، وكانوا يُشرفون عليه من الشُّرفة، فيجدونه مضطجعاً مُلتحفاً ببردته، وكان معهم أبو لهب، وهو يعرفُ موقعَ الرسول (ص)، وموقع فراشه وصفته، لأنَّه كان عمّه! ثم اقتضى رأيُهم أن يستثيروا النبيَّ (ص)؛ حتى إذا ما خرج يقتلونه أمام باب داره، فأخذوا يرمونه بالحصى وأقشاب الشجر، وعليٌّ يتقلَّب؛ حتى يُشعرهم بأنّ ثمَّة رجلاً مضطجعًا يفعل ذلك ليطول انتظارهم فيصلُ رسول الله (ص) إلى مقصده، وكاد الصبحُ أن ينفلق، فاقتضى الرأيُ عندهم أن يقتحموا عليه الدار. وفي روايةٍ أنَّهم أرادوا اقتحام الدار في منتصفِ الليل، إلاَّ أنَّ أبا لهب منعَهم، وقال: إنَّ في الدار صبياناً ونساءً، ولا نأمنُ أن تقع بهم يدٌ خاطئة، لا آذنُ لكم أن تدخلوا بيتَ محمد (ص). إلاَّ أنهَّ لـمَّا أعياهم الانتظار حيثُ لم يخرجْ الرسولُ (ص) وكاد الفجر أنْ ينفجر، اقتحموا بأجمعِهم عليه الدار، شاهرين سيوفَهم، وعليٌّ ملتحف لم يرفع البردةَ عن وجهه، فما أنْ وصلوا وأرادوا أنْ يفتكوا به يتقدمهم المخزومي، وثبَ عليٌّ (ع) قائماً، فأمسك بيد المخزومي وعصرها فأخذَ يفحصُ كالفصيل ويرغو رغاء البعير، وانتزع السيفَ من يده، فقيل أنت عليّ؟! قال أنا عليّ! فقالوا له أين محمد؟! قال وما شأنكم به؟ قالوا نريدُه، قال لستُ عليه برقيب، أزعجتموه فخرج، فأذكت قريشٌ عليه العيون وركبت الصعب والذلول تبحثُ عن النبيِّ (ص) ورصدت جائزة -مائة ناقة- لمن يأتي به حيًّا أو ميتًا ولكن دون جدوى وهكذا فشلت قريشٌ فيما سعت إليه. بتدبير الله تعالى وتضحيات علي (ع).

 

يوم التحاق الركب العلوي:

وبقيتْ في عهدة عليٍّ (ع) مهمَّتان: المهمةُ الأولى ردُّ الودائع، وقد ردَّها، والمهمةُ الثانية هي أن ينتظر أمرَ رسولِ الله (ص) حتى يُهاجرَ بالفواطم، فلما وصله أبو واقد الليثي -رسولاً من رسول الله (ص) -، وأخبره أنَّ الظروف قد تهَّيأت، فاخرجْ إلى رسول الله (ص) بأرض قُباء.. أمر عليٌّ (ع) المستضعفين من المسلمين -أو جمعاً منهم- أن يخرجوا قبله، وأن يكمنوا في النهار، ويسيروا في الليل، واتَّفق معهم على موضعٍ يلقاهم فيه، ثمَّ حمل عليٌّ الفواطم- وهنَّ: فاطمةُ بنت النبيِّ (ص)، وفاطمةُ بنت أسد والدته، وفاطمةُ بنتُ الزبير بن عبد المطلب، وأمُّ أيمن وابنُها أيمن-، وبعضُ الرجال ممَّن لحقه، وبعض النساء .. حملهم على النياق وخرج.

 

يوم القتال الأوَّل:

ولـمَّا بلغوا إلى منطقةٍ يُقال لها ضجنان، أدركهم الطلب وعددهم سبعةٌ من فوارس قريش مستلئمين أي عليهم لامةُ الحرب، وثامنهم مولى الحارث بن أمية، ويسمَّى الجناح لسرعته وشدَّة بأسِه، فأمرَ الإمام (ع) أبا واقدٍ وأيمن -ابن أم أيمن- أن أنيخا النياق. فأناخاها، وتوسَّط عليٌّ (ع) بين النياق وبين الفوارس الثمانية منتضياً سيفَه، فقال أحدهم لعليٍّ (ع): أظننتَ يا غُدَر أنّك ناجٍ بالنسوة؟ ارجع. فقال عليٌّ: فإنْ لم أفعل؟ قالوا: لترجعنَّ راغماً، أو لنَرجِعنَّ بأكثرِك شعراً -يعني سنرجعُ برأسك- إلى مكة، وأهونُ بك من هالك. ودنا الفوارسُ من النسوة ومن الإبل يريدون أن يستثيروها، فاعترضَهم علي (ع)، فباغته جناحٌ مولى الحارث بن أمية بضربةٍ راغ عنها عليّ (ع)، ثم ضربه عليٌّ (ع) على عاتقه بسيفه، فأسرع السيف حتى مسَّ كاثبة فرسه! حينذاك انتاب البقيةُ فزعٌ مشوب بذهول، كيف لهذا الصغير في السنِّ هذه القوة والتي أوقعت أشدَّهم بأساً قتيلاً من ضربةٍ خاطفة، لذلك وجدوا أنفسهم وقد تفرَّقوا وتشرذموا، وتغيرت اللهجة، فبعد قولهم له سنرجعُ برأسك مكة، قالوا له: أغن عنا نفسك يا ابن أبي طالب فقال (ع): إنّي منطلقٌ إلى ابنِ عمي، فمَن سرَّه أن أَفري لحمَه، وأُريقَ دمَه فليتعقبني، أو فليدنُ مني. فرجعوا، خاسئين وقد فقدوا واحداً من فرسانهم الموسومين بالشدَّةِ والبأس، فكان أوَّلَ قتيلٍ من قريشٍ قتلَه عليّ.. بعد ذلك انتهى الطلبُ فلم يعودوا يطلبون علياً (ع)، ولا عادوا يطلبون المستضعفين.

 

أيام خلَّدها القرآن:

لحِق المستضعفون بركب عليّ (ع)، وأخذ يسير بهم ليلاً ونهاراً، إلى أن أعياهم المشي فاستراحوا في منزلٍ، فقام عليٌّ (ع) والفواطم يُصلُّون، فنزل قوله تعالى -كما أفاد رسول الله (ص)، حيث كان يُخبر المسلمين عن يوميَّات عليّ وهو في قبا، في هذه الآية: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ/ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ/ رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ/ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ / فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى﴾، وقال تعالى: ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ﴾.

 

يوم التقاء النور بالنور:

بلغ عليٌّ (ع) أرضَ قُباء، فمشى إليه رسولُ الله (ص) -كما يذكر مؤرِّخو السنة- فرأى ساقَي عليٍّ(ع) وقدميه قد تورَّمتا، فبكى رسولُ الله (ص)، واعتنقَ علياًّ (ع) طويلاً وبكيا معاً، ثم أخذ رسولُ الله (ص) من ريقِه ومسحَه على قدمي عليِّ (ع) فعادتْ وكأنَّها لم تتورَّم! وذكر ابنُ الأثير في أُسد الغابة أنَّ عليَّاً (ع) لم يشتكِ قدميه منذُ ذلك اليوم حتى استُشهد.

 

يوم بناء أوّل مسجد في الإسلام:

ثمَّ إنَّ رسول (ص) بادر بعد وصول عليٍّ (ع) إلى الأمر ببناء مسجد قباء، فقد روى الطبراني في المعجم الكبير عن جابر بن سَمُرة، قال: لـمَّا سأل أهلُ قُباء النبيَّ (ص) أن يبنيَ لهم مسجداً قال الرسول (ص): ليقم بعضُكم فيركبُ الناقة (أي ناقته التي هاجرَ عليها)، فقام أحدهم مبادراً فركبها فحرَّكها فلم تنبعث فرجع، فقام آخرُ فركبها فلم تنبعث، فقام عليُّ بنُ أبي طالب فلمَّا وضعَ رجلَه في غرز الركاب وثبتْ به، فقال رسولُ الله (ص): أرخِ زمامها وابنوا على مدارِها، فإنَّها مأمورة" فحدّدَ رسولُ الله (ص) قبلته -وكانت إلى بيت المَقدِس-، ثم صلَّى بهم -في نفس اليوم- صلاة الجمعة، وكانت أوَّلَ جمعةٍ في مسجد قباء.

ثم صعد رسولُ الله (ص) ناقته التي هاجر عليها ورحل من يومه إلى المدينة وعليٌّ والفواطم معه، فما يمرون بِبَطْنٍ مِنْ بُطُونِ الأَنْصَارِ إِلَّا قَامُوا إِلَى رسول الله (ص) يَسْأَلُونَه أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ فَيَقُولُ لَهُمْ خَلُّوا سَبِيلَ النَّاقَةِ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ فَانْطَلَقَتْ بِه ورَسُولُ اللَّه (ص) وَاضِعٌ لَهَا زِمَامَهَا حَتَّى انْتَهَتْ إلى موضع قريبٍ من بيت أبي أيوب الأنصاري (رحمه الله) فَوَقَفَتْ عِنْدَه وبَرَكَتْ ووَضَعَتْ جِرَانَهَا عَلَى الأَرْضِ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّه (ص) وأَقْبَلَ أَبُو أَيُّوبَ مُبَادِراً حَتَّى احْتَمَلَ رَحْلَه فَأَدْخَلَه مَنْزِلَه ونَزَلَ رَسُولُ اللَّه (ص) وعَلِيٌّ (ع) مَعَه حَتَّى بُنِيَ لَه مَسْجِدُه وبُنِيَتْ لَه مَسَاكِنُه ومَنْزِلُ عَلِيٍّ (ع) فَتَحَوَّلَا إِلَى مَنَازِلِهِمَا.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد