من التاريخ

التّشيّع دائمًا عبر التاريخ

الشيخ محمد جواد مغنية

 

كيف استطاعت عقيدة التّشيّع الصمود والبقاء، مع أنها حوربت بكل سلاح منذ اليوم الأول لتكوينها وظهورها؟!. كيف وجد شيعي واحد على ظهر هذا الكوكب بعد أن تظافرت جميع قوى الشر على الشيعة، وصمّمت على سحقهم وإبادتهم بالقوة والسطوة، وبعد أن ضُربوا ضربات قاسية ومميتة، فذبحوا وحرقوا أحياء بقصد القمع والاستئصال من الجذور، ومع ذلك كلّه نجدهم اليوم وقبل اليوم منتشرين في كل بقعة من بقع الأرض، وكان المفروض أن لا يكون لهم عين ولا أثر؟!.

 

هذا، إلى أنه لم يكن لهم حكومة، طوال مئات السنين ولا قوة تدافع عنهم، أو كهف يأوون إليه سوى عقيدتهم، وإلى أن ثوراتهم وانتفاضاتهم كانت تمنى دائمًا بالهزيمة والخسران؟!.

 

وبكلمة إن تاريخ الشيعة تاريخ تقتيل واضطهاد وتمزيق وتفريق.... ومع ذلك ثبتوا وصمدوا وبلغوا عشرات الملايين، فما هو السر؟.

 

الجواب:

إن صمود مذهب التّشيّع، وتكاثر الشيعة بالرغم من عوامل الإفناء والإبادة التي سلطت عليهم من هنا وهناك، إن هذا الصمود والتكاثر يرجع الفضل فيه إلى مبادئ أهل البيت (ع) وتعاليمهم، ولولاها لكان مذهب الإمامية أثرًا بعد عين لا وجود له إلا في بطون الكتب، شأن كثير من الأديان والمذاهب...

 

وليست تعاليم أهل البيت سوى شرح وتفسير لمبادىء الإسلام وأحكام القرآن ومقاصد السنّة النبوية، وسوى قواعد وأصول، لمعرفة الخير والشر، والحقّ من الباطل. وإن للحق عند أهل البيت واقعًا في نفسه، وتقررًا في ذاته، مستقلًّا عن الأذهان والتصورات والآراء والمعتقدات، لا يتغير ولا يتبدل بالاستحسان والرغبات ولا بكثرة الأقوال أو قلتها، ولا بتعدد الأسماء والألفاظ، فلو أن الناس كلّهم أو جلّهم اتفقوا على أن هذا باطل، وكان حقًّا في ذاته، أو على أنه حتى وكان باطًلا يبقى على ما هو عليه.

 

هذا هو الحق في مفهوم أهل البيت لا يعرف بالرجال، ولا بكثرة الأقوال، بل الرجال عندهم تعرف بالحق، كما قال الإمام، وبهذا نطق القرآن الكريم، قال اللّه سبحانه في الآية 78 من سورة الزخرف: «لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» وفي الآية 70 من «المؤمنون» : «بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ».

 

وثبت في السنة النبوية: «علي مع الحق والحق مع علي» «1» أي إن الناس، جميع الناس لو كانوا في جانب، وكان علي في جانب لكانوا على باطل، وكان علي هو الحق، لأن سنة الرسول تثبت بقول علي، والرسول لا ينطق عن الهوى، فقوله حجة على الجميع، ولا حجة لأحد عليه.

 

وقد أثبتت التجارب هذه الحقيقة، أي استقلال الحق عن تفكير الناس وأقوالهم، فقد رأينا المجالس النيابية تشرع القوانين بالإجماع أو بالأكثرية، وبعد التجربة والتنفيذ يظهر الخطأ، فتضطر إلى التعديل أو التبديل، ومن هنا اتفق علماء الإمامية على أن الحق يؤخذ من كتاب اللّه، وسنة الرسول، أما الأقوال، وإن كثرت، فإنها تعبر عن آراء أصحابها، وقد تصادف الحق، أو لا تصادفه، ولكنها ليست أداة لمعرفته كيف؟! ومن الرجال من تسيّره الأهواء والأغراض ومنهم من ينطق ويفعل بوحي من بيئته وتربيته، ومنهم من آمن بنظريات جمعها من أوهام المتفلسفين، وأخيلة المتكلمين، ومنهم الجاهل الذي لا يعرف شيئًا، هذا، إلى أن الأخذ بالأكثرية، وقيام الدولة على هذا الأساس حيف وإجحاف بحقوق الأقلية لبقائها بدون دولة، أو بدولة لا ترتضيها، ولذا قال الإمامية: إن للّه في كل واقعة حكمًا، وإن الطريق إلى معرفته الثقلان: كتاب اللّه، وعترة الرسول.

 

وبهذا تبين أن السرّ في بقاء التّشيّع لأهل البيت هو نفس السر في بقاء الكتاب والسنة، لأنهما المصدر الأول والأخير لهذا المبدأ «2» وقد لاقى الرسول الأعظم من مقاومة المشركين، وجحود المعاندين ما لم يلقه نبي من قبل، ولاقى الشيعة من قوى الشر والبغي ما يلاقيه كل محق مخلص، وصمد مبدأ الرسول لأصالته وصدقه، وصمد التشيع لآله، لأنه فرغ من ذاك الأصل، فهو دائمًا عبر التاريخ، تمامًا كالإسلام والقرآن.

 

وكما تطوع الصفوة من المهاجرين والأنصار للذب عن رسالة الرسول، فقد تطوع للذبّ عن التشيع صفوة من العلماء تخرجوا من مدرسة آل البيت، كالشيخ المفيد والمرتضى، والكراجكي والعلامة وغيرهم، حيث وضعوا المطولات في الحجج والبراهين من الكتاب والسنة، وردوا الاتهامات والافتراءات، ودحضوا الأباطيل التي كان يردّدها المبطلون ضد الشيعة والتّشيّع.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الترمذي والحاكم وابن حجر وابن أبي الحديد، وكنز العمال. (انظر دلائل الصدق) للمظفر ج 2 ص 303 طبعة 1953.

(2) قال أمير المؤمنين (ع): الجماعة مجامعة أهل الحق، وإن قلوا، والفرقة مجامعة أهل الباطل، وإن كثروا.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد