يقول النص التاريخي: «لما طعن الناس في المأمون، بعد وفاة الرضا [عليه السلام] واتهموه، أراد أن يبرئ نفسه من ذلك. فلما أتى من خراسان إلى بغداد، كتاب الجواد [عليه السلام] إلى المدينة، يستدعي قدومه عليه بالإعزاز والإكرام. فلما ورد بغداد اتفق أن المأمون قبل ملاقاته له [عليه السلام] خرج إلى الصيد، فاجتاز بطرف البلد في طريقه (1)..».
وكان ذلك بعد موت الإمام [عليه السلام] بسنة، فاجتاز المأمون - والنص لابن شهرآشوب: « بابن الرضا [عليه السلام]، وهو بين صبيان، فهربوا سواه. فقال: علي به. فقال: ما لك لا هربت في جملة الصبيان؟! فقال: ما لي ذنب فأفر منه، ولا الطريق ضيق فأوسعه عليك، سر حيث شئت.
فقال: من تكون أنت؟! قال: أنا محمد بن علي، بن موسى، بن جعفر، بن محمد، بن علي بن الحسين، بن علي، بن أبي طالب [عليهم السلام].. فقال: ما تعرف من العلوم (2)؟! قال: سلني عن أخبار السماوات.. فودعه، ومضى، وعلى يده باز أشهب، يطلب به الصيد..
فلما بعد عنه، نهض عن يده الباز، فنظر يمينه وشماله لم ير صيداً، والباز يثب عن يده، فأرسله، فطار يطلب الأفق، حتى غاب عن ناظره ساعة، ثم عاد إليه، وقد صاد حية (3)، فوضع الحية في بيت المطعم.. وقال لأصحابه: قد دنا حتف ذلك الصبي في هذا اليوم على يدي (4).. ثم عاد، وابن الرضا في جملة الصبيان.
فقال: ما عندك من أخبار السماوات؟! [وفي نص آخر: «ثم إنه كر راجعاً إلى داره، وترك الصيد في ذلك اليوم» فلما وصل وجد الصبيان على حالهم فانصرفوا كما فعلوا أول مرة، وأبو جعفر لم ينصرف فقال له المأمون: ما في يدي؟ الخ]. فقال: نعم يا أمير المؤمنين، حدثني أبي عن آبائه، عن النبي، عن جبرائيل، عن رب العالمين، أنه قال: بين السماء والهواء بحر عجاج يتلاطم به الأمواج، فيه حيات خضر البطون، رقط الظهور، يصيدها الملوك بالبزاة الشهب، يمتحن به العلماء.
فقال: صدقت، وصدق أبوك، وصدق جدك، وصدق ربك، فأركبه، ثم زوجه أم الفضل.
وفي نص آخر: «تصيدها بزاة الملوك والخلفاء، فيختبرون بها سلالة أهل النبوة» فلما سمع المأمون كلامه عجب منه وأنه قال له: أنت ابن الرضا حقاً، ومن بيت المصطفى صدقاً (5)».
ونشير نحن هنا إلى الأمور التالية:
ألف: إن الظاهر هو: أن المأمون حينما سأل الإمام عن نفسه بقوله: «من تكون أنت؟» قد كان متجاهلاً لا جاهلاً، وذلك لأن الإمام الجواد [عليه السلام]، كان قد قدم إلى خراسان في سنة 202 ه . ق لزيارة أبيه الإمام الرضا [عليه السلام]..
قال في تاريخ بيهق: إنه عبر البحر من طريق طبس مسينا (6)، لأن طريق قومس لم يكن مسلوكاً في ذلك الوقت، وصار مسلوكاً في عهد قريب.
فجاء من ناحية بيهق ونزل في قرية «ششتمد» وذهب من هناك إلى زيارة أبيه علي بن موسى الرضا سنة 202 ه الخ (7).. ومن البعيد أن لا يكون المأمون قد رآه حينئذٍ، وأبو ولي عهده، وهو أيضاً إما كان عقد له على ابنته أم الفضل أو سماها له..
باء: النقد: إن هذه الرواية توحي بأن الإمام الجواد [عليه الصلاة والسلام] قد كان يلعب مع الصبيان حينئذٍ، حيث ذكرت: أنهم كانوا يلعبون، وهو واقف معهم، إلى أن مر عليهم المأمون، وذلك مما لا يمكن قبوله.. وأيضاً.. فإن البعض يعتقد: أنه [عليه السلام] كان بالمدينة إلى أن أشخصه المأمون إلى بغداد (8).
ونقول: أما بالنسبة للأمر الأول، فإن وقوفه [عليه السلام] في مكان يتفق وجود بعض الصبيان فيه، لا يعني: أنه [عليه السلام] كان يلعب معهم وإلا لصرحت الرواية بذلك ولم تكتف بالقول: إنه كان واقفاً معهم، بل ليس في الرواية: أنه [عليه السلام] قد تعمد أن يكون معهم، وفي جملتهم. فلعله كان واقفاً أمام داره، واتفق وجود الصبيان كانوا يلعبون أيضاً بل لا يبعد أن يكون قد وقف معهم ليعلمهم ويرشدهم، ويوحي إليهم بالمفاهيم الإنسانية، بحسب ما يملكونه من استعداد للفهم والتعقل. وقد نجد الكثير من الحالات التي من هذا القبيل في حياتنا الحاضرة أيضاً.
وعلى كل حال.. فإن وقوفه معهم لم يكن للعب قطعاً.. كيف وقد حمل إليه علي بن حسان الواسطي إلى المدينة بعض الآلة التي للصبيان ليتحفه بها، قال علي: «فدخلت، وسلمت. فرد علي السلام، وفي وجهه الكراهة. ولم يأمرني بالجلوس. فدنوت منه، وفرغت ما كان في كمي بين يديه. فنظر إلي نظرة مغضب، ثم رمى يميناً وشمالاً، ثم قال: ما لهذا خلقني الله، ما أنا واللعب؟! فاستعفيته، فعفا عني، فخرجت (9)».
كما أن صفوان الجمال، قد سأل أبا عبد الله [عليه الصلاة والسلام] عن صاحب هذا الأمر. فقال: «صاحب هذا الأمر لا يلهو ولا يلعب (10)».
وأما بالنسبة للأمر الآخر.. فإن حمل المأمون له إلى بغداد، لا يعني: أنه قد التقى به من أول يوم. وقد نرى أن البعض يستقدمه الخليفة، وتمر الأيام والليالي الكثيرة، وربما الأشهر، قبل أن يتهيأ له اللقاء به، هذا بالإضافة إلى أن النص المتقدم يصرح بأن المأمون قد خرج إلى الصيد قبل أن يلتقي به [عليه السلام].
ويتأكد ما نقول هنا: إذا عرفنا: أن من جملة الأهداف الهامة التي كان يرمي إليها المأمون من استقدامه له هو أن يكون على مقربة منه، ليتهيأ له الإشراف (11) بواسطة عيونه ورقبائه على مجمل تحركاته، واتصالاته، التي يكون للمأمون حساسية خاصة تجاهها.. وقد سبق للمأمون مع الرضا [عليه الصلاة والسلام] ما يؤكد هذا المعنى، ويسير في نفس الاتجاه.
والمأمون.. هو ذلك الرجل العجيب، الذي يهتم برصد كل تحركات خصومه، أو من يرى فيهم مشروع خصوم له في وقت ما..
جيم: التحليل: في هذا الحدث إشارة عديدة هامة، إن بالنسبة لموقف التقي الجواد [عليه الصلاة والسلام].. وإن بالنسبة للخليفة المأمون.. ونحن نكتفي هنا بالإشارة والإلماح إلى ما يلي:
إن الخليفة الذي من أبسط مميزاته، هو اهتمامه بالحفاظ على أبهة الملك، وجلال السلطان.. لم يكن ليرجع عن صيده، لأمر عادي وتافه، وبهذه السرعة.. حتى أن ذلك الصبي كان لا يزال يقف مع أترابه أولئك.. بل لا بد أن يكون الذي أرجعه عن مقصده، من جلائل الأمور، وعظائمها، ومما له مساس قوي بأساس الملك، ومصير النظام كله. ولا سيما إذا كان رجوعه عن مقصده بهذه الصورة المثيرة، وغير المألوفة، مصحوباً بحركات تشبه حركات الممرورين، أو المشعوذين!!، ومن أجل امتحان صبي يقف مع أترابه!!
فإن ذلك إن دل على شيء فإنما يدل على أن المأمون قد كان - في الحقيقة - بصدد إبطال ما يدعيه أئمة أهل البيت [عليهم الصلاة والسلام] من العصمة، ومن العلم الخاص، الذي تلقوه عن آبائهم [عليهم الصلاة والسلام]، عن النبي الأكرم [صلى الله عليه وآله]، عن الله جل وعلا..
وهو مع أنه كان قد جرب ذلك مع الإمام الرضا [عليه السلام] من قبل، وفشل في تجربته تلك.. إلا أنه - وهو يرى صغر سن الإمام محمد التقي الجواد [عليه السلام] - لعله قد استبعد كثيراً: أن يكون [صلوات الله وسلامه عليه] قد تمكن - وهو في هذه السن - مع تحصيل العلوم والمعارف اللازمة في مقام التحدي، والتي تؤهله للفلج والظفر في مقام الحجاج، والخصام..
وبعد.. فإن سؤالاً يبقى يتردد حائراً هنا، وهو: ماذا عسى كان هذا الخليفة سيفعل، له أنه لم يجد عند هذا الصبي الصغير، الجواب الكافي، والشافي على سؤال عن أمر غيبي، بكل ما لهذه الكلمة من معنى.. فهل سيقتله - كما صرح به النص المتقدم على لسان المأمون نفسه: «قد دنا حتف ذلك الصبي على يدي». - ليشتهر بين الكافة في أرجاء العالم الإسلامي بأسره: أن سبب قتله هو جرأته وعجزه عن الإجابة الصحيحة في أمر يدعي لنفسه العلم به؟ وليبطل من ثم هذا الأمر فيه، وفي ولده من بعده، وحتى في آبائه من قبل.. وذلك لأن الهدف الأول والأخير له هو تكذيب هذا الأمر فيهم.. كما ألمح إليه هو نفسه بقوله: « صدقت، وصدق أبوك وصدق جدك، وصدق ربك»..
هذا الكلام الذي يتضمن اعترافاً له: بأن لديه - حقاً - ذلك العلم الخاص الذي يدعيه لنفسه، وأنه تلقاه من أبيه، عن جده، عن ربه سبحانه أم أن كلمته تلك كانت نزوة عارضة، لا تعكس الرأي السياسي الهادئ والمتزن لذلك الرجل الماكر الداهية.. وأن رأيه النهائي والأخير فيه والحالة هذه هو أنه سوف يبقيه هكذا.. فارغاً من معنى الإمامة، ومن خصائصها، ليكون سنداً قوياً، وحجة دامغة، على كل من يحاول أن يدعيه ذلك له، في مختلف الظروف والأحوال، وبذلك ينتهي أمره، ويضمحل ويتلاشى أتباعه ومحبوه، بصورة طبيعية، ومن دون أي جهد، أو عناء؟. لا ندري.. ولعل الفطن الذكي والخبير بمكر المأمون وأحابيله هو الذي يدري.
وأخيراً.. فإننا لا نشك في أن المأمون، بعد أن جرى بينه وبين الإمام محمد التقي [عليه السلام] ما جرى في هذا اللقاء الأول معه، في قصة الباز الأشهب.. وبعد أن بهره ذلك الجواب الصاعق منه عليه التحية والسلام.. قد تجسدت أمامه خطورة الموقف، وصعق لعظم الهول، وجليل الخطب، وأدرك أنه لا بد له من مواجهة هذا الأمر بجدية أعظم، ومكر أشد، إذا أراد أن يطمئن إلى مصيره ومستقبله في الحكم، ومعه بنو أبيه العباسيون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) جلاء العيون ج 3 ص 106 ويفهم أيضاً من الفصول المهمة لابن لاصباغ ص 252 وكذلك سائر المصادر التالية: أنه لم يكن قد رآه بعد.
(2) لا بد من التأمل كثيراً في مبادرة المأمون هنا إلى سؤاله عما يعرفه من العلوم، بمجرد أن أخبره باسمه ونسبه..
(3) في المصادر الأخرى: أنه صاد سمكة..
(4) لم ترد هذه العبارة في المصادر الأخرى..
(5) المناقب لابن شهرآشوب ج 4 ص 388 و 389 ، والبحار ج 50 ص 56 و 92 . ولتراجع هذه القضية أيضاً في: كشف الغمة ج 3 ص 134 عن ابن طلحة، وص 135 عن كتاب لم يحضر المؤلف آنئذٍ اسمه، وجلاء العيون ج 3 ص 107 والصواعق المحرقة ص 204 ونور الأبصار ص 161 والصراط المستقيم ج 2 ص 202 وينابيع المودة ص 365 والاتحاف بحب الأشراف ص 168 - 170 والفصول المهمة للمالكي ص 252 / 253. والإمام الجواد لمحمد علي الدخيل ص 74 عن أخبار الدول ص 116.
(6) لعل الصحيح: سيفاً، أي ماداً على سيف البحر وساحله.
(7) أعيان الشيعة ج 2 ص 33.
(8) راجع: هامش البحار ج 50 ص 92.
(9) دلائل الإمامة ص 212 / 213 والبحار ج 50 ص 59، وإثبات الوصية ص 215..
(10) المناقب لابن شهرآشوب ج 4 ص 317.
(11) ويرى المحقق البحاثة الشيخ علي الأحمدي: أنه قد يكون التأخير في اللقاء يهدف إلى ضبط تحركاته، ولقاءاته مع الناس ومن أجل أن التأخير في اللقاء، والتسويف فيه، فيه استخفاف وإهانة، وذلك هو أحد أهدافهم في كثير من مواقفهم من الأئمة [عليهم السلام] كما فعله المتوكل مع الإمام الهادي [عليه السلام] حينما أشخصه إلى سامراء، حيث أنزله في دار الصعاليك.. ويكون نتيجة كلا الأمرين أيضاً شعور الإنسان في قرارة نفسه بالضعة والمهانة، الأمر الذي يضعفه في أهدافه وأغراضه.
الشيخ محمد جواد مغنية
عدنان الحاجي
السيد جعفر مرتضى
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد الريشهري
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
القول بغير علم!
العادات الأربع لأكثر الناس نجاحًا في الحياة، محاضرة للقرقوش في مجلس الزّهراء الثّقافيّ
النموّ السّريع لدماغ الرّضيع ليس صحيًّا دائمًا
على باب الجواد أنختُ ركبي
البازي الأشهب والجواد (ع) والمأمون
صناعة الخوصيّات، جديد الكاتب طاهر المدن
الإمام الجواد وتجلي علم الله سبحانه
الإمام الجواد: (وَآتَينَاهُ الحُكْمَ صَبِيًّا)
اشتقاق لفظة القرآن
القرآن مجد وعظمة ومتانة ووضوح