«اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَأَنْسِهِمْ عِنْدَ لِقَائِهِمُ الْعَدُوَّ ذِكْرَ دُنْيَاهُمُ الْخَدَّاعَةِ الْغَرُورِ، وَامْحُ عَنْ قُلُوبِهِمْ خَطَرَاتِ الْمَالِ الْفَتُونِ، وَاجْعَلِ الْجَنَّةَ نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ، وَلَوِّحْ مِنْهَا لِأَبْصَارِهِمْ مَا أَعْدَدْتَ فِيهَا مِنْ مَسَاكِنِ الْخُلْدِ وَمَنَازِلِ الْكَرَامَةِ وَالْحُورِ الْحِسَانِ وَالْأَنْهَارِ الْمُطَّرِدَةِ بِأَنْوَاعِ الْأَشْرِبَةِ وَالْأَشْجَارِ الْمُتَدَلِّيَةِ بِصُنُوفِ الثَّمَرِ حَتَّى لَا يَهُمَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِالْإِدْبَارِ، وَلَا يُحَدِّثَ نَفْسَهُ عَنْ قِرْنِهِ بِفِرَارٍ».. (من دعاء أهل الثغور للإمام زين العابدين عليه السلام).
وَلَوِّحْ مِنْهَا لأَبْصَارِهِمْ مَا أَعْدَدْتَ فِيهَا مِنْ مَسَاكِنِ الْخُلْدِ وَمَنَازِلِ الْكَرَامَةِ:
ولا بد من بذل الجهد ثقافياً وتربوياً إلى الحد الذي يجعل المرابط المجاهد يعيش نعيم الجنة وكأنه حاضر أمامه، ويبدأ ذلك بإيصاله إلى مرحلة تحصل فيها النفس قبل كل شيء على ما هي الأحوج إليه، ألا وهو السكون في مقابل القلق. فإن الإنسان يعيش القلق على نفسه في بقائها، فيحتاج إلى السكون في هذا الأمر بالذات. فيأتيه السكون ليس إلى مجرد الاستمرار والبقاء، بل إلى ما فوق ذلك أيضاً، وهو الخلد الذي هو غاية طموح الإنسان..
واختار الإمام «عليه السلام» الحديث عن سكنى الخلد لا عن جنات عدن مثلاً، ربما ليفيد أن في تلك المساكن خصوصية تفهم الناس بأن الخلد حاصل فيها، وقد جاء في زيارة الإمام الحسين «عليه السلام»: «أشهد أن دمك سكن في الخلد» (1).
وهذه الخصوصية تفهم بمجرد رؤية تلك المساكن، بل بمجرد لمحها حين يلوَّح للإنسان بها أمام بصره.. والتعبير بالأبصار ربما ليفيد: أن إدراك هذا المعنى ناشئ من إجراء معادلة فكرية توصل إلى ذلك. لأن الإبصار هو الإدراك الناشئ عن ذلك..
وهذا الخلود ليس مملاً، ولا يمثل عبئاً على النفس، وليس هو خلود إهمال، وخمول، وانكماش، ونسيان، وغياب عن الذاكرة. بل هو خلود فاعل، وحي. ومناقض لذلك كلّه. إنه خلود فيه انتعاش وامتداد، وفيه كرامة وسؤدد.
ولذلك طلب أن يلوح لأبصارهم ما أعده في الجنة لهم من منازل الكرامة، مما يعني أنه بمجرد أن يلمح البصر تلك المنازل والدرجات، فإنه يجد خصوصية تبين له معنى الكرامة فيها. فمنازل الكرامة ليست كسائر المنازل.. كما أن للكرامة درجات ومراتب، فلكل منزل درجته الخاصة به. وميزاته التي تُظهِر تلك الدرجة..
ولعله يريد «عليه السلام» أن يكون ذلك على سبيل الكشف والمشاهدة، ولو بصورة التلويح العابر.. فإن هذا المقدار يكفي ليدركوا بذلك مقامهم عند الله، ورعايته تعالى لهم. ولذلك لم يقل: عرفهم ذلك، بل قال: «لوح لأبصارهم ».
وَالْحُورِ الْحِسَانِ:
وبعد أن قدم «عليه السلام» لهم الحديث عن اللذات المعنوية الروحية، عطف عليها لذات الجسد، بدءاً بلذة النظرة الأولى للجمال، المتمازجة مع الاندفاع الغريزي، فذكر الحور الحسان، حيث لذة الغريزة الجنسية إذا زينها الجمال حين يلوح للرائي، فإنه سوف يشتاق إليها، ويسعى لتجاوز كل الموانع، وقطع كل المسافات للوصول إليها.
وَالأَنْهَارِ الْمُطَّرِدَةِ بِأَنْوَاعِ الأَشْرِبَةِ:
وبما أن أخشى ما يخشاه الإنسان بعد تجاوز عقدة الخوف على صلته بالدنيا، هو المتاعب والمشقات التي تواجهه، خصوصاً ما يتعلق منها بفقدان الماء، ومعاناة العطش، فإنه «عليه السلام» طلب من الله تعالى: أن يريه بأم عينيه ما يدفع هذا الخوف، ويؤمِّن له الارتواء التام مرة بعد أخرى.
ثم زاد على ذلك أن ذكر أن مصدر هذا الارتواء متواصل ومطرد، فلا خوف من الانقطاع، وبغزارة لا يحتمل معها النقص عن مقدار الحاجة.. فهي أنهار في كثرتها وغزارتها، وهي مطردة ومتواصلة.
ثم هي في تنوعها تعطيه القدرة ليس فقط على التلذذ بها، وإنما توفر له أنواعاً من التلذذات التي لا يحتمل معها الملل، الناشئ من الاعتياد على نوع واحد. ولذلك كانت مطردة بأنواع الأشربة.. فلا بد إذن، من إيجاد الوسائل التي تقنع المرابط المجاهد بأن الأمور لا تخرج عن هذا السياق..
وَالأَشْجَارِ الْمُتَدَلِّيَةِ بِصُنُوفِ الثَّمَرِ:
ولا يقتصر الأمر على الأشربة، وأنواعها.. بل هو كذلك أيضاً بالنسبة للمأكولات. وقد اختار «عليه السلام» الحديث أولاً عن الأشجار، دون النباتات، فإن الأشجار قادرة على حمل الكثير والكبير، وهي ترمز إلى الثبات والبقاء، والاستمرار بخلاف النباتات، فإنها توحي بالتلاشي والضعف، فتحتاج إلى التجدد المتواصل الذي قد تضعف الأسباب عنه، أو قد لا تتوفر له في بعض الأحيان..
فالأشجار تعرض أمام أبصار المجاهدين، ويتلمحونها متدلية أمامهم بصنوف الثمر، التي توحي بتنوع الطعوم، تبعاً لتنوع الثمار.. أما التعبير بكلمة صنوف، بدل كلمة أنواع.. فلعله ليفيد أن الجميع من نوع واحد، وهو ما تثمره تلك الشجرة، وإن كانت ثمرتها صنوفاً متعددة، أي أنه اعتبر الشجرة نوعاً واحداً، واختلاف الثمار إنما هو باختلاف أصنافها، فالشجرة الواحدة تحمل صنوفاً مختلفة من الثمر، تماماً كما تحمل الشجرة الواحدة بعد تلقيحها لوزاً وكمثرى، أو أصنافاً مختلفة من التين، أو غيره..
حَتَّى لا يَهُمَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِالإِدْبَارِ:
وكل هذا الذي يلمحونه، أو يلوَّح لهم به، أو يرونه نصب أعينهم.. لا بد أن يثمر ثباتاً واستبسالاً في مواجهة العدو. فإن الإدبار عنه معناه تفريط بالخلود الذي تطمح تلك النفوس إليه، ولا سيما إذا كان مع هذا الخلود كل هذه الأحوال، والنعم، والعطايا، حيث يكون الإدبار عنه انتكاسة إلى الشقاء، والحرمان، والعناء، والنقص، والأذى.
فالمنطق، والفطرة، والحكمة تدعوه إلى التصلب والإقدام، وعدم التفريط بالفرصة. لا سيما مع المعاينة والشهود الواعي. والمطلوب: أن يكون الجميع على هذه الوتيرة، وبمستوى واحد في هذا الوعي والوضوح، والتصميم.
فلا بد من التأكد من واقع هؤلاء المقاتلين، ومستوياتهم. والتدقيق في اختيارهم، وفي استمرار هذه الحالات فيهم، فإن أي خلل يتسرب إلى واحد منهم قد تكون له تداعيات غير محمودة على الجميع.
وَلا يُحَدِّثَ نَفْسَهُ عَنْ قِرْنِهِ بِفِرَارٍ:
وحين تكون المبارزة للقِرن هي الذروة والفيصل، فمن الطبيعي أن تحدث لدى المقاتل عملية موازنة بين قدراته وقدرات قرنه، ويرجع إلى دنياه، وتحضر نفسه أمام ناظريه، ويتجسد لديه أن قرنه يسعى ليقطع صلته بها.. مع ملاحظة: أن الإنسان يتلمس قدراته بصورة حقيقية وحضورية، أما قدرات عدوه فهو يدركها بضروب من التخيل والافتراض، لأنها محجوبة عنه، ومن الطبيعي أن يتوهما أكبر وأكثر مما هي عليه..
وذلك مما يثير القلق لديه ويدعوه للتردد والانكفاء، ولكن معاينته لما يعطاه من الخلود، وما يناله في جنات الله يرفع نقائصه، ويلبي حاجاته، بل ويشبع غرائزه وشهواته، وسيجعل هذه الموازنة غير ذات جدوى في إضعاف عزيمته، ونقض تصميمه على المواجهة والثبات، بل يصير كل همه هو أن يعمل بواجبه الذي يرى أنه ينيله ما عاينه، إن عاجلاً فيما لو كانت الغلبة لقرنه عليه، أو آجلاً لو كان هو المنتصر على قرنه.
وقد لخص ذلك بعض العارفين بهذا الشأن على النحو التالي:
إن القدرة القتالية التي يتم إعدادها تتعرض أثناء الحرب للتآكل والتفتت، وتحتاج إلى ترميم دائم.. فكانت الوقفات التعبوية هي الحل والعلاج..
ولكن الإسلام أراد أن يكون التجديد ذاتياً، تنتجه نفس المعركة، من خلال الحيوية التي ينتجها الوعي والإيمان، والتوهج المشاعري والروحي، حيث إن كل مقاتل يرى الهدف وينطلق نحوه بصبر وثبات، وثقة، وصلابة، وتصميم..
ومن الواضح: أن إرادة الفرد، واندفاعه وإيمانه هو الركيزة الأهم التي تؤسس للنصر بنظر الإسلام. والاعتبارات الأخرى وإن كان لها تأثيرها، ولكن لا يصل في حجمه وقوته إلى حجم وقوة هذا العامل..
إذ إن العدة، والعدد، والتجهيزات، والتحصينات، والخطط، وغير ذلك، لا أثر له في النصر إن كان الفرد الذي سوف يستفيد من ذلك كله لا يملك الإرادة والقوة والصبر، والحزم والعزم، والثبات والإقدام، وما إلى ذلك..
وقد أوضحت فقرات هذا الدعاء هذا الأمر بما لا مزيد عليه.. وقد ركزت أيضاً على إيضاح حقيقة: أن أفضل الخطط، والتحضير الشامل والدقيق للحرب، يبقى غير قادر على إعطاء الطمأنينة للقادة بحسم الحرب لصالحهم. بل يبقى القلق هو المهيمن عليهم، فهم يخشون باستمرار من عدم انضباط الجنود، وعدم تنفيذ الخطط بدقة. فيفقد القادة توازنهم عند الاشتباك مع العدو، فينتج ذلك أموراً عديدة منها: الهيبة من الاشتباك، والخوف الغريزي، والحيرة في اختيار القرار المناسب، والتردد في التنفيذ، والانشغال بالذات لحفظها في الحاضر والمستقبل، والاضطراب والتوتر، وعدم القدرة على التركيز وغير ذلك..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الكافي ج 4 ص 576 وكامل الزيارات ص 364 ومن لا يحضره الفقيه ج 2 ص 595 وتهذيب الأحكام ج 6 ص 55 والوسائل (ط دار آل البيت) ج 14 ص 491 و (ط الدار الإسلامية) ج 10 ص 383 والبحار ج 98 ص 152 و 266 .
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
د. سيد جاسم العلوي
السيد جعفر مرتضى
عدنان الحاجي
الشيخ محمد هادي معرفة
الشهيد مرتضى مطهري
حيدر حب الله
الشيخ محمد صنقور
السيد عباس نور الدين
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
عبدالله طاهر المعيبد
حبيب المعاتيق
شفيق معتوق العبادي
جاسم بن محمد بن عساكر
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
ما هي حقيقة لقاء الله؟
علم التفسير وطبقات المفسرين
المشكلة الاستقرائية على ضوء المذهب التجريبي والمذهب الذاتي في المعرفة (1)
في المواجهة (2)
البروفيسور جعفر آل توفيق (المبتكر المثالي)
المواد الكيميائية في أدمغتنا وتأثيرها في سلوكنا (1)
دقائق في القرآن هي روائع في التعبير (3)
ميثم التمار (رض) شهيد العقيدة والولاء
الإسلام دين العمل والجهاد
العقل المستقيل