يقول الله في كتابه الكريم: {فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولي بَأْسٍ شَديدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْدًا مَفْعُولا} [الإسراء، الآية5]؛ يقول الإمام علي عليه السلام: "من أحدّ سنان الغضب لله قوي على قتل أشدّاء الباطل".[1]
في مواجهة الأعداء نحتاج إلى قوة الأنفس أكثر من قوة العتاد. العتاد المتطوّر بيد المرتعب يصبح وبالًا عليه وعلى من حوله. قالوا: "الخيل بخيّالها"؛ وصدقوا. هذه الشدة والبأس والشجاعة والثبات التي هي عناصر القوة النفسية قد تنبع من إدراك ما يمثله العدو من معاندة ومخالفة لله العزيز الجبار، ويكون هذا المدرِك محبًّا لله شديد الالتصاق به، عاشقًا لجماله، فيروعه ذلك الخلاف والعناد، ويشتد حنقه وغيظه إلى الدرجة التي لا يقدر معها على تحمُّل وجود هذا العدو لحظةً واحدة. فهو غاضبٌ لأجل حبيبه الله، يغلي مرجل الغيظ في قلبه بأشد ما يكون بسبب جرأة ذلك العدو على هتك حرمات حبيبه وتجاوز حدود ربّه واستخفافه بمقامه وعدم توقير جنابه الأقدس. وكلما استحضر هذه المعاني في نفسه كان كمن يسنّ سيف الغضب ويجعله حادًّا قاطعًا فيصبح شديد القطع والنفوذ.
هذا المقاتل في سبيل الله يحتاج إلى معرفة أفعال العدو من جهة مخالفتها للحق المتعال والجرأة عليه سبحانه. وهذا ما يتطلب معرفة مقام الرب وإدراك عظمته الفريدة، لأنّ قبح المعصية وبشاعتها ليست في حجمها الظاهر، بل بما تمثله من جُرأة على من يُعصى. وقد قيل: "إِذَا وَقَعْتَ فِي مَعْصِيَةٍ فَلَا تَنْظُرْ إِلَى صِغَرِهَا وَلَكِنِ انْظُرْ مَنْ عَصَيْتَ".[2] فلا يشتد غضب لله إلا بعد معرفة الله حقًّا وبعد رسوخ عظمته في النفس. وهذا ما يمكن أن يتحقق عبر السير في التراث العرفاني والنهل منه كخيار مساعد جدًّا، كونه تراثًا متميزًا في المعارف الإلهية ومعرفة الذات. فالتراث العرفاني عمومًا ممتزجٌ بالروح والأدب الرفيع والتفاصيل المعنوية والعشقية الفريدة التي تعمّق الرابطة الروحية وتلامس شغاف الروح وتبعث فيها أعمق المشاعر، وترسّخ العُلقة القلبية بين المخلوق الضعيف والخالق العظيم؛ وهذا ما لا نجده في التراث الفلسفي الجاف أو الكلامي المشاغب.
يمكن استخراج الكثير من النصوص والمقالات التي تُساهم في الارتقاء بهذه العلاقة المعرفية القلبية المعنوية إلى درجة يصبح الله تعالى معها أعظم محبوب، ويتحقق بواسطتها هذا الانتماء العميق لله، بحيث يصبح المجاهد عاشقًا كبيرًا لله الجميل، فيقاتل في سبيله حقًّا وصدقًا.[3] وإذا قيل له: علام تقاتلهم؟ انهمرت دموع الحزن من عينيه لما يراه من جرأة عدو الله على سيده ومولاه. ومن قلب هذا الحزن يستعر غضبٌ لا مثيل له ويتأجج حتى قد يبلغ عند بعض الأولياء مرتبة غضب مالك خازن النار الذي به تشتعل وتزداد سعيرًا! كما أضحى غضب مالك الأشتر (وما أصدق تسميته) حين وصفه الإمام علي عليه السلام قائلًا: "أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ وَجَّهْتُ إِلَيْكُمْ عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَا يَنَامُ أَيَّامَ الْخَوْفِ وَلَا يَنْكُلُ عَنِ الْأَعْدَاءِ حِذَارَ الدَّوَائِرِ أَشَدُّ عَلَى الْكُفَّارِ مِنْ حَرِيقِ النَّارِ وَهُوَ مَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ الْأَشْتَر".[4]
المصدر الآخر للبأس والشدة هو الذي يتشكل من وعي الإنسان ومعرفته بمستوى بغض العدو له وعدائه وخطره عليه وعلى شعبه، وما يضمره له من سوءٍ وأذى. والوعي وحده لا يكفي هنا، بل ينبغي أن يتغلغل في عمق المشاعر حتى يُترجَم إلى أفعال الانتقام؛ لأنّ من طبيعة النفس في بعض الشدائد ومواقف النزال التفريق بين المعرفة والشعور، فإن لم يكن من شعور، لا ينفع العلم إلا قليلًا. ولذلك كان لا بد من تذكر أفعال العدو الإجرامية واستحضارها وتجميعها حتى تتراكم في النفوس كما تتراكم كثبان الرمال لتتحول إلى جبال غليظة. وهذا ما يمكن أن يتحقق عبر قراءة التاريخ بشكل أساسي.
وكلما كان للعدو تاريخ إجرامي وسجل دموي معنا ومع من ننتمي إليهم، كانت المراكمة أيسر وأسهل، شرط أن نقرأ هذا التاريخ حقًّا ونطالعه ونتفكر فيه... يقول الإمام علي عليه السلام: "إِنِّي وَإِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي، فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَفَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ، وَسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ، حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ، بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَى إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ".[5]
لقد جمعت نفسي من الحقد على الاستعمار ما كنت أعتقد أنّه بركانٌ متفجّر لا يخمد أبدًا، ولكن هذا الحقد ازداد وتضاعف حين طالعتُ مؤخّرًا مجموعة من الكتب حول تاريخ الاستعمار في العالم.[6] لا يمكن لأي شخص يطّلع على ما فعله الأوروبيون في مختلف مناطق العالم بحق شعوبه الغافلة الآمنة إلا وأن يتفجر حقدًا وسخطًا، ويقرر الانتقام من ذلك الإجرام الذي لم يكن له مثيل في تاريخ البشرية، خصوصًا إذا رأى أنّ هذا الاستعمار ما زال موجودًا بكل أشكاله وهو يمعن قتلًا وتنكيلًا كل يوم بشعوبنا المسلمة المستضعفة، ويرسل طائراته ويقصف بصواريخ ويبعث فرق إعدامه ويجوس في الأزقة والأحياء ويدمر البيوت على رؤوس أصحابها ويدنس المقدسات ويستولي على الحرم الإلهي ومعه عملاء حكام صنعهم بيد مكره وحقده ويتجاهر بالعداء للإسلام وقيمه.
لو أننا استطعنا أن نعرض هذا التاريخ بمواقفه ومراحله لتمكّنا من تكوين قلوب مفعمة بحقد لا مثيل له، لا يمكن لأي كافر أو فاجر أو شيطان أن يمتلك مثله؛ ولذلك سيكون بأسنا أشد بكثير؛ ولمَ لا؟! والحق أنّه لا يوجد بأس وغلظة أشد من غلظة مالك وأعوانه في الوجود كله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]. نهج البلاغة، ص501.
[2]. بحار الأنوار، ج75، ص452.
[3]. ومنها ما جمعه وليم تشيتيك في كتاب حب الله الذي تُرجم إلى اللغة العربية.
[4]. الغارات، ج1، ص171.
[5]. نهج البلاغة، ص393.
[6]. خريجو السجون، تاريخ الاستعمار، القصة لم تنتهِ بعد... للكاتب الإيراني مهدي ميركيائي.
محمد رضا اللواتي
السيد عباس نور الدين
عدنان الحاجي
السيد جعفر مرتضى
الشيخ محمد صنقور
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد علي عباس الموسوي
د. سيد جاسم العلوي
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
عبدالله طاهر المعيبد
حبيب المعاتيق
شفيق معتوق العبادي
جاسم بن محمد بن عساكر
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
الصبر والثبات في أيام الشدّة
سؤال عن أخلاق مرحلة (ما بعد الإنسانية)
كيف نواجه الأزمات والابتلاءات؟
رحلة إلى بلاد الألف ملّة
كيف نصنع البأس ونزيده؟ ابحثوا عن منابعه ومصادره
كيف نواجه العدوّ؟
فورة الانفعالات في مرحلة الطفولة واضطرابات الاكتئاب والقلق في مرحلة المراهقة
الحالة العامة في معسكر الأعداء (1)
ترتيب السُّور من حيث تاريخ النزول
لماذا يجب التركيز على الآخرة في التربية؟