مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
حيدر حب الله
عن الكاتب :
ولد عام 1973م في مدينة صور بجنوب لبنان، درس المقدّمات والسطوح على مجموعة من الأساتذة المعروفين في مدينة صور (المدرسة الدينية). ثم سافر إلى الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانية لإكمال دراساته الحوزويّة العليا، فحضر أبحاث الخارج في الفقه والأصول عند كبار آيات الله والمرجعيات الدينية. عام 2002م، التحق بقسم دراسات الماجستير في علوم القرآن والحديث في كلّية أصول الدين في إيران، وحصل على درجة الماجستير، ثم أخذ ماجستير في علوم الشريعة (الفقه وأصول الفقه الإسلامي) من جامعة المصطفى العالميّة في إيران (الحوزة العلمية في قم). من مؤلفاته: علم الكلام المعاصر، قراءة تاريخية منهجيّة، فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حجية الحديث، إضاءات في الفكر والدين والاجتماع (خمسة أجزاء) ...

كيف نستفيد من عاشوراء؟ (1)

نعيش اليوم في عصر نحتاج فيه بشدّة إلى كلّ مفهوم يمكنه أن ينهض بالأمّة، ولا يجوز لنا التفريط بأيّ مفهوم ناهض، فكلّ مفهوم من تراثنا له قدرة التأثير النهضوي فهو ضروري، وكلّ مفهوم معطّل له قدرة التثبيط وبث اليأس والخمول فهو ضارّ، من هنا وعندما ننظر إلى المناسبة العاشورائية السنوية نجد أنّ لديها قدرات كبيرة على تقديم مفاهيم نهضويّة تحتاجها الأمّة اليوم أيّما حاجة، ولعلّ من أجلى هذه المفاهيم ما يلي:

 

المفهوم الأّول:

 

مفهوم المفاصلة مع الظلم واللاشرعية، فإنّ هذه الثورة الحسينية يمكنها لو وظّفناها توظيفاً صحيحاً أن تمدّنا بمفهوم بالغ الأهميّة اليوم. إنّه المفاصلة مع اللاشرعية، هي تقول لي: لا يمكن أن أنضوي تحت لواء غير شرعي، يجب أن أبحث عن انتماء مشروع في قضاياي السياسية والاجتماعية وغيرها. لا يمكن أن أعيش المخالطة مع الظلم طالما كانت لديّ القدرة على الوقوف في وجهه بإعلان مقاومته والتبرّي منه، ولو لم أتمّكن من تغيير الواقع كلّه. عندما يكون الحسين عليه السلام مستعدّاً لهجر الوطن (المدينة المنوّرة) لأجل رفض الخضوع لما هو غير شرعي، ولأجل تصويب الانتماءات، فهذا يعني أنّه من الممكن أن يكون من واجبي أن أتقبّل النفي باختياري والهجرة عن موطني أو أسرتي أو عائلتي أو محيطي كخطوة حصريّة لإعلان مفاصلتي مع الانحراف الاجتماعي والسياسي.

 

لهذا ستبدو مفارقة غريبة عجيبة الجمع بين الروح الحسينية وبين الرضا بالظلم واللاشرعيّة. عندما نشارك اليوم في مجالس الحسين عليه السلام فعلينا أن نسأل أنفسنا ونحن نرجع إلى بيوتنا سؤالاً: أين أنا من قضايا الظلم اليوم في العالم؟ وما هي مساهماتي؟ ماذا فعلت ـ بحدود إمكاناتي ـ ضدّ ظلم الإنسان المستضعف، وضدّ الاحتلال، وضدّ الطبقية الجائرة، وضدّ ظلم الطفولة، وضدّ العدوان على المرأة، وضدّ سلب الحقوق، وضدّ استغلال السلطة والموقع، وضدّ تعمية الحقائق، وضدّ التجهيل، وضدّ الفساد المالي، و.. وأين أنا من الشعارات التي أطلقها الحسين عليه السلام؟

 

وفي هذا السياق يصبح الحسين قيمةً إسلاميّة عامّة يلتقي عليها جمهور المسلمين، لاسيما منهم من يؤمن ـ من حيث المبدأ ـ بثقافة الخروج أو الرفض مثل الإمامية والإسماعيلية والزيدية والإباضيّة والتيارات الجهادية (المعتدلة)، بل يصبح قيمة إنسانيّة تصل إلى اليسار الجديد في عصرنا الحاضر ولو كان خارج الاطار الديني، وبهذا نخرج حركة الإمام الحسين من أن تكون صراعاً شخصيّاً أو قبليّاً أو عشائريّاً أو أسريّاً أو طائفيّاً، لتصبح صراعاً دينيّاً إسلاميّاً إنسانيّاً أخلاقيّاً ضدّ كل انحراف في الداخل والخارج، مهما كان ثوبه.

 

المفهوم الثاني:

 

مفهوم التضحية والشهادة، هذا المفهوم الذي يقدّم لي أولوية الأمّة على الفرد، وأولوية الإسلام على المسلم، وأولوية الوطن على الذات، شخصٌ بهذه المكانة يقدّم نفسه وأهل بيته قرابين لله تعالى في سبيل تصحيح مسارات أمّة، وفي سبيل الإصلاح الديني والاجتماعي والأخلاقي والمفاهيمي و.. يريد أن يقول لنا بأنّ كلّ شيء يمكن أن يرخص أمام القضايا الكبرى، والتي منها الأمّة نفسها ومصالحها العامّة. مفاهيم من نوع التفاني والإيثار والتضحية والبذل والعطاء والشهامة ونكران الذات كلّها يمكن أن نثوّرها في حدث بارز من هذا النوع، ليس على مستوى السرد القصصي لقصّة التفاني فقط، بل على مستوى الربط الواقعي بين القصّة بوصفها تاريخاً وبين المفهوم الأخلاقي والديني بوصفه قيمةً قائمة باستمرار في حياة الإنسان وحاجةً ملحّة.

 

إنّ استذكارك الحسين يعني استذكار هذه المجموعة المتماسكة من هذه القيم، وإعادة تظهيرها بصورة عصرية قادرة على تحريك الراكد من واقعنا وخلق نفوس عصاميّة يمكنها أن تزهد بكلّ شيء في سبيل القضايا الكبرى للأمّة والدين. وكلامي هذا ليس تنظيراً في الهواء الطلق، بل لقد شهدنا واقعه في تجارب حقّقت نجاحات كبيرة مستعينةً بمفاهيم الثورة الحسينية، مثل أكثر من حركة جهادية ضدّ الاحتلال الإسرائيلي وضدّ الأنظمة الفاسدة. ماذا تعني لنا تلك الوصايا التي سمعناها أو قرأناها لشهداء الجهاد ضد الكيان الصهيوني الغاصب؟ ألم نسمع فيها دوماً اسم الحسين وزينب والأصحاب؟ هذا يعني أنّ الوعي الجهادي والاستشهادي صار مندمجاً بوعي التاريخ الحسيني، وأنّ أشخاصاً مثل الإمام الخميني والإمام محمد باقر الصدر والإمام موسى الصدر وغيرهم نجحوا في توظيف الثورة في خلق وعي واقعي زمني متواصل لها، فمفاهيمها لا تنفصل عن تضحياتنا اليومية، وعن الشهداء وعوائلهم الصامدة. ونحن مسؤولون عن ديمومة هذا الوعي وعدم تلاشيه.

 

المفهوم الثالث:

 

فاعلية المرأة، فالحدث الزينبي وما حاطه من وقائع نسويّة هو بالتأكيد رسالة ضمنيّة للنصف الآخر من المجتمع أنّ بإمكانك أن يكون لك دور في اللحظات الحرجة على الأقلّ، فعندما أقدّم في المشهد التاريخي دور المرأة في لحظات الانهيار بشكل معاكس تماماً للنواح والعويل، ليبدو وكأنّه عصامية غير عادية، تقف في وجه أكبر حكّام العصر ـ عنيت يزيد بن معاوية وغيره من رجالاته ـ فهذا يعني أنّ المرأة ليست وظيفتها في الحياة النوح على القتلى من الرجال، بل خلق الحدث في لحظات الحزن، الحدث الإعلامي والسياسي والاجتماعي، هذا مفهوم بالغ التأثير اليوم يمكنه النهوض بالمرأة لتلعب دوراً في لحظات الشدّة، بدل أن نعلّمها النحيب واللطم على الوجه على ما افتقدت من أسرة وعيال.

 

إنّ الثورة الحسينية هنا تعيد تظهير المشهد بصورة مختلفة، فقد كان من المتوقّع أن تنهار تلك المرأة (زينب) وكلّ من معها من نسوة وبنات، لكنّ الأمور وقعت بطريقة مختلفة تماماً، هذا يعني أنّ المرأة في عصرنا إذا أرادت أن تمثل الدور الزينبي فعليها في لحظات الشدّة التي تمرّ بها أمتنا اليوم أن تستنفر طاقاتها في رباطة جأش ليكون لها دورها في الفعل والتأثير، لا أن نطالبها بالسكوت والخضوع والجلوس في البيت لا دور لها في الوقوف بوجه الظلم والعدوان والاحتلال والاغتصاب للأرض والعرض والوطن والقيم والمفاهيم.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد