مقالات

الإمام السجّاد (ع) بعد عاشوراء

السيد محمد تقي المدرسي

 

مهما كانت قوة الحركة السياسية في عهد معاوية، فإنها كانت ناراً تحت رماد الهدوء السياسي، الذي فرضه معاوية على الساحة بدهائه المعروف، وبوسائله المختلفة، من توزيع الأموال والمناصب ثمناً لسكوت الطامعين، وتوزيع العسل المسموم على الأحرار. وقد اشتهر عنه القول: إن لله جنوداً من عسل.

 

وهكذا كانت التيارات السياسية تنتظر بفارغ الصبر هلاك معاوية. ومن هنا أصبحت واقعة كربلاء صاعقاً فجَّر الثورات في آفاق العالم الإسلامي، لأنها جاءت في الوقت المناسب بعد هلاك وريث أبي سفيان، داهية العرب، فافتتحت عصر الثورات المناهضة للجاهلية المقنَّعة.

 

فبعد شهادة السبط الشهيد عليه السلام انتفضت مدينة الرسول صلى الله عليه وآله، وخلعت يزيد بن معاوية، وقام عبد الله بن الزبير بمكة يطالب بالخلافة، وثارت الكوفة بقيادة سليمان بن صرد، ثم بقيادة المختار. وهكذا أصبحت الثورات والانتفاضات صبغة الحياة السياسية في البلاد الإسلامية، وأسلوباً شاخصاً لمواجهة الطغيان والفساد. ولذلك فإننا نستطيع أن نُسمي عهد الإمام السجاد عليه السلام، خصوصاً في بداياته - منذ واقعة عاشوراء - عهد الثورات والانتفاضات.

 

بيد أن الثورة بذاتها ليست هدفاً مقدساً، وإنما الهدف المقدس هو تلك القيم المتسامية التي تُحَرِّكُها، وإلَّا فإن ضررها يكون أكبر من نفعها. أَوَلَيست الثورة بذاتها حالة تمرد على النظام وتُعكِّر جَوَّ الأمن، وتُثير الاضطراب، وتُريق الدماء؟ بلى، فهي - إذاً - حالة استثنائية لا يحمدها العقلاء، ولكنها إنما تكتسب شرعيتها وقدسيتها من الغايات النبيلة التي تهدف إليها.

 

فلأنها تُخرج الناس من ظلمات الركود والجهل والظلم إلى نور النشاط والعقل والعدالة، أصبحت الثورة - بمعناها الشامل - صبغة حياة الأنبياء والأوصياء وعباد الله الأبرار.

 

ولأنها تُزيل عن قلوب الناس رين الغفلة واللامبالاة، وعن تجمعاتهم سحابة الظلم والاعتداء، وعن مجتمعهم كابوس الطغيان والفساد، فقد أصبحت مسؤولية كلِّ حرٍّ أبيٍّ، ووسامَ حقٍّ لكلِّ ذي كرامة وشرف.

 

ومن هنا ركَّزت نصوص الوحي على هدف الثورات ضمن تعبير «القيام لله»، وحيث قال ربُّنا سبحانه: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ) «1». وقال عزَّ وجلَّ: (قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ) «2».

 

وهكذا كانت الحالة الثورية التي عمّت آفاق البلاد الإسلامية ببركة استشهاد الإمام الحسين عليه السلام، بحاجة إلى هوية وصبغة، وروح، وقيم، لكي تتكرس في ضمير الأمة، ولا تُصبح كشعلة السعف أو زوبعة الفنجان لا تلبث أن تتلاشى، ولكي تتخذ مساراً رساليًّا مستقيماً، ولا تُصبح أداةً بيد كلِّ طامع أو متهوِّر كأمثال عبد الله بن الزبير وكغيره من الذين طفقوا يستفيدون منها بأبشع صورة.

 

فهذا ابن الزبير يصعد المنبر بعد مقتل الإمام الحسين عليه السلام فيُثني عليه ويلعن قاتله ويخلع يزيد. ولكن عندما أحس باستتباب الأمر له أظهر عداءً شديداً لآل البيت عليهم السلام، حتى أنه ترك الصلاة على جدهم النبي صلى الله عليه وآله، لكيلا يشمخوا بأنوفهم عند ذكره حسب قوله!

 

فمن أجل ألَّا تُصبح الحالة الثورية مطيَّةً لكل من يهوى السلطة أو يبحث عن مجدٍ مثل ابن الزبير، جاء الإمام السجاد عليه السلام يُعطي لتلك الحالة هويَّتها الرسالية، وصِبغتها الإلهية، وروعتها التي تمثَّلت في قيم الوحي، وسبيلها القويم الذي رسمته شريعة الله تعالى.

 

ولعل هذا أعظم دور قيادي قام به الإمام السجاد عليه السلام. ولم يكن هذا الدور نابعاً من حالة مزاجية عند الإمام عليه السلام، أو لأنه شَاهَدَ مثلًا وقائع الطف الفظيعة، فاصطبغت شخصيته بها، ولم يملك إلَّا البكاء والتفجّع والتبتّل والضراعة.

 

أجل، إن تلك الحادثة كان لها أثرها البالغ في شخصيته الكريمة، ولكن الإمام المعصوم عليه السلام يقوم بواجبه الإلهي، وليس بما تمليه حالته النفسية. والشاهد على ذلك أن الإمام زين العابدين عليه السلام، الذي اصطبغت شخصيته الكريمة بالتهجد والبكاء، حمل رسالة عاشوراء بعد شهادة والده، هو وعمّته عقيلة الهاشميين زينب عليها السلام. وما أدراك ما رسالة عاشوراء!. إنها رسالة الجرح الثائر، والدم المنتصر، والألم المتمرد، والانتفاضة التي لا تهدأ. أَوَما سمعت خطبته اللاهبة في أهل الكوفة بعد ثلاثة أيام من فاجعة الطف كيف أثارت فيهم دفائن العطف، ونفضت عن أفئدتهم غبار الرهبة والتردد، فقالوا له: مُرْنَا بأمرك فإنّا مطيعون لأمرك، لنأخذنَّ يزيد ونتبرأ ممن ظلمك وظلمنا.

 

ولكنه قال لهم: «مَسْأَلَتِي أَلَّا تَكُونُوا لَنَا وَلَا عَلَيْنَا» «3». وها نحن نستمع معاً إلى فقرات من تلك الخطبة الثائرة: «أَوْمَأَ إِلَى النَّاسِ أَنِ اسْكُتُوا فَسَكَتُوا، فَقَامَ قَائِماً، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَذَكَرَ النَّبِيَّ وَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ! مَنْ عَرَفَنِي فَقَدْ عَرَفَنِي، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي فَأَنَا عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ، أَنَا ابْنُ المَذْبُوحِ بِشَطِّ الْفُرَاتِ مِنْ غَيْرِ ذَحْلٍ وَلَا تِرَاتٍ، أَنَا ابْنُ مَنِ انْتُهِكَ حَرِيمُهُ وَسُلِبَ نَعِيمُهُ وَانْتُهِبَ مَالُهُ وَسُبِيَ عِيَالُه. فبِأَيَّةِ عَيْنٍ تَنْظُرُونَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله إِذْ يَقُولُ لَكُمْ: قَتَلْتُمْ عِتْرَتِي وَانْتَهَكْتُمْ حُرْمَتِي فَلَسْتُمْ مِنْ أُمَّتِي. ثم بكى عليه السلام» «4».

 

وعندما أُدخل أسيراً على ابن زياد الطاغية الذي زعم أنه انتصر على الخط الرسالي وإلى الأبد، تحدَّاه الإمام عليه السلام وقال له: «سَوْفَ نَقِفُ وَتَقِفُوْنَ، وَنُسْأَلُ وَتُسْأَلُوْنَ، فَأَيَّ جَوَابٍ تَرُدُّوْنَ، وَبِخِصَامِ جَدِّنَا إِلَى النَّارِ تُقَادُوْنَ» «5». فلما همّ ابن زياد بقتله قال له الإمام عليه السلام: «أأنت تُهَدِّدُنِي بِالْقَتْلِ؟. أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْقَتْلَ لَنَا عَادَةٌ، وَكَرَامَتَنَا الشَّهَادَة؟». وكان موقفه من الطاغية يزيد، ذلك المجرم الذي لم يدع جريمة شنيعة إلَّا وارتكبها في سِنِيِّ حكمه القصيرة، كان موقفه قمة في التحدِّي ومثلًا أعلى في الجهاد بالكلمة الرافضة.

 

ومرة أخرى حينما نال خطيب يزيد في الجامع الأموي من آل بيت الرسول تصدَّى له الإمام السجاد عليه السلام قائلًا: «وَيْلَكَ أَيُّهَا الخَاطِبُ! اشْتَرَيْتَ مَرْضَاةَ المَخْلُوقِينَ بِسَخَطِ الخَالِقِ، فَتَبَوَّءْ مَقْعَدَكَ مِنَ النَّار» «6». ثم التفت إلى يزيد واستأذنه بصعود المنبر، فلم يجد يزيد بدًّا من ذلك، فلما تشرَّف به المنبر ألقى تلك الخطبة البليغة التي لا يزال صداها يدوّي في الآفاق إلى اليوم، وإلى أبد الآبدين.

 

وحينما هدم طاغية العراق الحجاج بن يوسف الثقفي الكعبة تصدَّى له الإمام عليه السلام وقال: «يَا حَجَّاجُ عَمَدْتَ إِلَى بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ فَأَلْقَيْتَهُ فِي الطَّرِيقِ وَانْتَهَبْتَهُ، كَأَنَّكَ تَرَى أَنَّهُ تُرَاثٌ لَكَ، اصْعَدِ المِنْبَرَ وَأَنْشِدِ [انْشُدِ] النَّاسَ أَلَّا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْهُمْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئاً إِلَّا رَدَّه» «7».

 

وهكذا كانت سجية الإمام الشجاعة، ولكن الظروف التي عاشها لم تكن تنقصها الثورة والشجاعة، لأن واقعة الطف قد شحنت ضمير الأمة بالشجاعة بِما يكفيها لقرون متمادية، وربما إلى الأبد. إنما كانت بحاجة إلى صبغة إيمانية تسمو بالثورة إلى أهدافها القيّمة، وهكذا اتَّجه الإمام عليه السلام إليها.

 

فزعم السذج من الناس أن ذلك كان مزاجاً شخصيًّا، كما زعموا مثل ذلك في الأنبياء. فمنهم من قال: إن تضحية إبراهيم وصبر نوح، ووحدة موسى وزهد عيسى وخُلق محمد عليهم السلام، وسائر الصفات المتميزة لكل نبيٍّ من رُسل الله عليهم السلام، إنما كانت سمات شخصياتهم، وحالاتهم المزاجية. ناسين أن الله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته، وأنه لا يجعل رسالته إلَّا حيث تقتضي حكمته، وأن تلك الصفات التي تجلَّت بهم كانت ضرورية للظروف التي عاشوها والبشر الذين تعاملوا معهم. حتى ولو افترضنا جدلًا أن نبيًّا وُضِعَ في مقام نبيٍّ آخر لتبنّى سلوكه وعمل بمنهاجه، بلا اختلاف قليل أو كثير.

 

وكالأنبياء يكون الأئمة، فلكل واحد منهم صحيفة يعمل بها، وقد كانت مرسومة ضمن السياق التاريخي الذي عاشه. وحسب تلك الصحيفة الإلهية عمل الإمام السجاد عليه السلام، الذي كانت حياته قمة في العبادة والضراعة، وبثَّ روح الإيمان في المجتمع، وتربية رجال متميزين في الزهد والتهجد، من أمثال: الزهري، وسعيد بن جبير، وعمر بن عبد الله السبيعي، وآخرين.

 

وهكذا رسمت صحيفة السجاد عليه السلام منهاج إمامته فيما يبدو في التركيز على الجانب الروحي، على أنه كان في طليعة مهامِّ سائر الأئمة عليهم السلام، إلَّا أن الحاجة إليه كانت في عهد الإمام زين العابدين عليه السلام أشد، ولذلك كان التركيز عليه أعظم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) سورة سبأ، الآية: 46.

(2) سورة النساء، الآية: 135.

(3) بحار الأنور، ج 45، ص 112.

(4) ناسخ التواريخ، ج 2، ص 140.

(5) ناسخ التواريخ، ج 2، ص 141.

(6) بحار الأنوار، ج 45، ص 137.

(7) عوالم العلوم، ج 18، ص 179.

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد