مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد منير الخباز القطيفي
عن الكاتب :
رجل دين وخطيب مفكر وكاتب، يعد من أبرز علماء القطيف ومن خطبائها، ومن أبرز أساتذة الدراسات العليا (بحث الخارج) في الفقه والأصول في حوزة قم المقدسة، ولد عام 1384هـ (حوالي 1964م)، له العديد من المؤلفات.

كيف نستفيد من سيرة السّجّاد (ع)

هناك ثلاثة دروس نستفيدها ونستقيها من هذا العملاق العظيم: الدعاء والعطاء والصفاء.

 

الدرس الأول: الدعاء.

 

إن أقوى مقاومة لأي فيروس الخطير هي المناعة، وأقوى مظاهر المناعة: المناعة النفسية، وأقوى درجات المناعة النفسية: زوال القلق والاكتئاب والاضطراب من النفس، هنا تتأكد الحاجة إلى عالم الغيب، وهنا ينكشف كيف يقاوم الإنسان الأمراض الجسدية والأوبئة المادية بالسلاح الغيبي وبالارتباط الوثيق بعالم الغيب، فأقوى مناعة أمام تسرب المرض الخطير: مناعة النفس، وأقوى طريق لمناعة النفس: الاتصال الغيبي بعالم الغيب وعالم الملكوت، وأقوى وسيلة للاتصال بعالم الغيب: التوكل على الله، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾، وفي موضع آخر: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾، وقال تبارك وتعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾.

 

وإن الطريق الرحب لتحصيل التوكل على الله والثقة بالله من أجل اقتلاع شرارة القلق والاضطراب من أعماق النفس: هو الدعاء، هو أن تجلس في ظلام الليل بينك وبين ربك لتدعو، هو أن تستثمر صلاتك ومناجاتك في دعوة صادقة من أعماق القلب نحو السماء، نحو عالم الملكوت، نحو الغيب، نحو الله الذي لا ملجأ إلى غيره، وقد ورد في الحديث الشريف: من أعطى ثلاثًا أعطي ثلاثًا، من أعطى الشكر - على النعمة - أعطي الزيادة، ذلك قوله تعالى: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾، ومن أعطى التوكل - على الله - أعطي الكفاية، ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾، ومن أعطى الدعاء أعطي الإجابة، وذلك قوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾، وهنا الإمام السجاد يعلّمنا كيف نلجأ إلى الله: ”يا مَنْ تُحَلُّ بِهِ عُقَدُ الْمَكارِهِ، وَيا مَنْ يُفْثَأُ بِهِ حَدُّ الشَّدائِدِ، وَيا مَنْ يُلْتَمَسُ مِنْهُ الَمخْرَجُ اِلى رَوْحِ الْفَرَجِ، ذَلَّتْ لِقُدْرَتِكَ الصِّعابُ، وَتَسَبَّبَتْ بِلُطْفِكَ الْأَسْبابُ...، وَألَمَّ بي ما قَدْ بَهَظَني حَمْلُهُ، وَبِقُدْرَتِكَ أوْرَدْتَهُ عَلَيَّ، وَبِسُلْطانِكَ وَجَّهْتَهُ إلَيَّ، فَلا مُصْدِرَ لِما أوْرَدْتَ، وَلا صارِفَ لِما وَجَّهْتَ، وَألَمَّ بي ما قَدْ بَهَظَني حَمْلُهُ، وَبِقُدْرَتِكَ أوْرَدْتَهُ عَلَيَّ، وَبِسُلْطانِكَ وَجَّهْتَهُ إِلَيَّ، فَلا مُصْدِرَ لِما أَوْرَدْتَ، وَلا صارِفَ لِما وَجَّهْتَ، وَلا فاتِحَ لِما أغْلَقْتَ، وَلا مُغْلِقَ لِما فَتَحْتَ، وَلا مُيَسِّرَ لِما عَسَّرْتَ، وَلا ناصِرَ لِمَنْ خَذَلْتَ، فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وآلِهِ، وَاْفْتَحْ لي يا رَبِّ بابَ الْفَرَجِ بِطَولِكَ، وَاكْسِرْ عَنّي سُلْطانَ الْهَمِّ بِحَوْلِكَ، فَقَدْ ضِقْتُ لِما نَزَلَ بي يا رَبِّ ذَرْعاً، وامْتَلأتُ بِحَمْلِ ما حَدَثَ عَليَّ هَمّاً، وأَنْتَ الْقادِرُ عَلى كَشْفِ ما مُنيتُ بِهِ، وَدَفْعِ ما وَقَعْتُ فيهِ، فاَفْعَلْ بي ذلِكَ“.

 

الدرس الثاني: العطاء.

 

إن أكثر صفات الإنسانية نبلًا وعظمة هو العطاء، أن تعطي بلا مقابل، ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، وفي هذه الأيام الشديدة، وفي هذه الأزمات الصعبة تتجلّى هذه الصفة الكبيرة، هذه الصفة الإنسانية النبيلة، ألا وهي صفة العطاء، هناك من تعطّلت أعمالهم، وضاقت بهم الدنيا، وانقطعت عنهم سبل الرزق...

 

العطاء نتعلمه من الإمام زين العابدين علي..... الذي كان يحمل جراب الطعام رغم ضعف جسده ونحولة بدنه، ويمرّ به على فقراء المدينة، ولقد رآه ابن شهاب الزهري ليلةً مطيرة وهو يحمل جرابًا على ظهره، فقال له: إلى أين يا ابن الحسين؟ قال: إلى سفر أعددتُ له زادًا، فظنّ ابن شهاب أنه فعلًا إلى سفر، لكنه رآه في اليوم الثاني في المدينة، فقال: يا ابن الحسين لقد سألتك إلى أين ليلة البارحة، وقلت إلى سفر، ولم أجدك قد سافرت؟ فقال له: يا ابن شهاب، ليس السفر ما ظننت، إنه سفر الآخرة، وزاد المؤمن إلى الآخرة بذل الندى في الخير والورع عن محارم الله.

 

فيا أيها الإخوة والأخوات، إذا أردنا أن نتزود لآخرتنا فهنا طريقان، أحدهما بذل الندى في الخير، ما دمت قادرًا قدرة مادية وقدرة علمية وقدرة ثقافية وقدرة قلمية فسخّر قدراتك التي تملكها في خدمة المجتمع، لا تكن إنسانًا سلبيًّا، لا تكن إنسانًا يوزّع القلق والاضطراب بكلماته وأخباره وبياناته، لا تكن إنسانًا أنانيًّا تحتكر النعمة والثروة والمال والغذاء لنفسك...كن إنسانًا إيجابيًّا، كن إنسانًا معينًا.... أنفق مما تحب، ولأجل ذلك الإمام السجاد يشخّص لنا طريقين: بذل الندى في الخير، والورع عن محارم الله.

 

الدرس الثالث: درس الصفاء.

 

صفاء النفس، كن صافي النفس، إلى متى ستبقى تحمل أحقادًا وكراهية لغيرك، لمن أساء إليك وأخطأ في حقك؟ حاول أن تستثمر في الخلوص إلى الله، في تطهير قلبك، في إزالة القذارات النفسية من وجدانك وأعماقك، حاول أن تكون إنسانًا مؤمنًا خالص الإيمان، طاهرًا خالص الطهارة، قريبًا من الله خالص القرب، كن صافيًا لا مشوّشًا ولا كدرًا ولا قذرًا، حاول أن تعيش الصفاء، فإنّ الصفاء طريقٌ لخلاصك من البلاء.

 

كان الإمام السجّاد يمشي فلحقه رجلٌ شاميٌّ وشتم أباه وشتم جدّه أمير المؤمنين عليًّا ، ولكن الإمام كان مغضيًا عنه، فجاء وأمسك به وقال: يا ابن الحسين، إيّاك أعني! قال: وعنك أغضي، ﴿والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين﴾، ﴿وإذا مرّوا باللغو مروا كرامًا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا﴾، هكذا يعلّمنا الإمام زين العابدين علي.

 

ولما خرج الثوّار قبل واقعة الحرّة في المدينة المنوّرة على الحكم الأموي، وقامت الضجّة، فهرب الأمويّون وآل مروان من المدينة، وبقيت نساؤهم وأطفالهم وعوائلهم عرضةً للاعتداء والنيل والسرقة والتجاوز، وكانوا في خوفٍ شديدٍ وقلقٍ مريعٍ، وإذا بالإمام السجّاد يقوم ويحتضن عائلة بني مروان في بيته، ويغدق عليهم الهدايا والعطايا، ويسقيهم ويطعمهم ويؤمنهم من الخوف والفزع، وهم أشدّ أسرة معادية للبيت النبوي العلوي الفاطمي، حتى قالت نساؤهم: ما لقينا في بيوتنا ومن رجالنا حفاوةً كما لقينا من زين العابدين، هكذا يجسّد لنا الإمام أروع صفات الإنسانية من العفو والتجاوز وإزالة الحقد والضغينة وتطهير القلب وتنظيف الداخل، وأن يكون الإنسان قطعةً طاهرةً ناصعةً بيضاء.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد