مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ شفيق جرادي
عن الكاتب :
خريج حوزة قُمّ المقدّسة وأستاذ بالفلسفة والعلوم العقلية والعرفان في الحوزة العلميّة. - مدير معهد المعارف الحكميّة (للدراسات الدّينيّة والفلسفيّة). - المشرف العام على مجلّة المحجة ومجلة العتبة. - شارك في العديد من المؤتمرات الفكريّة والعلميّة في لبنان والخارج. - بالإضافة إلى اهتمامه بالحوار الإسلامي –المسيحي. - له العديد من المساهمات البحثيّة المكتوبة والدراسات والمقالات في المجلّات الثقافيّة والعلميّة. - له العديد من المؤلّفات: * مقاربات منهجيّة في فلسفة الدين. * رشحات ولائيّة. * الإمام الخميني ونهج الاقتدار. * الشعائر الحسينيّة من المظلوميّة إلى النهوض. * إلهيات المعرفة: القيم التبادلية في معارف الإسلام والمسيحية. * الناحية المقدّسة. * العرفان (ألم استنارة ويقظة موت). * عرش الروح وإنسان الدهر. * مدخل إلى علم الأخلاق. * وعي المقاومة وقيمها. * الإسلام في مواجهة التكفيرية. * ابن الطين ومنافذ المصير. * مقولات في فلسفة الدين على ضوء الهيات المعرفة. * المعاد الجسماني إنسان ما بعد الموت. تُرجمت بعض أعماله إلى اللغة الفرنسيّة والفارسيّة، كما شارك في إعداد كتاب الأونيسكو حول الاحتفالات والأعياد الدينيّة في لبنان.

النّدم (1)

هل ندمت يومًا؟ هل جربت في مرحلة من حياتك أو قرار من قراراتك الندم؟

 

صدقني يا عزيزي، إنك إن لم تشعر بفقدان معنى الحياة، أو إمكان خسارتها بسبب أمر ما، أو فعل ما، أو قرار اتخذته ثم أخذ بك إلى اختلال حياتك ونفسك فأنت لم تشعر بالندم.

 

وهنا حديثنا لا يدور حول كلمة “ليتني ما فعلت” التي نكررها يوميًّا مئة مرة، أقل أو أكثر، فهذه عبارة ورثناها عند المواقف السخيفة التي لا تستدرج ألمًا وتحوّلًا عميقين فيك.

 

مثل هذه الكلمات هي تعبيرٌ ملطّف عن عبارة سأعود لمثل ما فعلت في فرصة أخرى.

 

ليس هذا هو الندم.

 

ما لم تحفر فيك التجربة عميقًا فتنهش في جسدك لتخسر عافيتك، أو من عافيتك، لن تتعرف إلى الندم. ما لم يدفعك طمعك إلى خسارة ما ادخرت من مال وجاه ورفاهية عملت طويلًا على جمعها بلعبة أسميتها الحظ المقامر بأشكاله المتنوعة، فأنت لم تعرف معنى الندم.

 

ستتعرف إلى الندم، بشرط واحد، حينما يبلغ بك قرارٌ أو خطوة ما لتصطدم بخطر مؤلم يضع كل مسار حياتك على مفترق العاصفة.

 

هنا ستنكفئ على ذاتك، وتشعر بنحو من الانفصال بينك وبين ما حولك ومن حولك كمحموم أذهله مرضه عن كل ما عداه، فيتسرب إليه اضطرام الحمّى ليل نهار، في صحو مذهول، أو نوم مبعثر ليجول في ذهنه ألف وهم، وألف بعثرة من الفوضى الفارغة المضنية.

 

ومن دون أن تلمس مؤشر ذلك في وهن جسدك وفتور رحمتك، ورغبتك في الخلاص من الفراغ والملل الذي لا تعرف له منشأ ولا مخرجًا، أنت إذًا لم تتعرف إلى الندم.

 

يمكن لهذا الندم الذي يسبق الحسرة أن يضارعها فيتّحدا ليضعاك أمام المجهول المقلق، ويسلباك إرادة أن تفكر، وإرادة أن تثق، وإرادة أن تحكم في شيء، أو تقرر شيئًا. حينما تشعر أنك المبتلى من بين العالمين، وتغبط الناس على تعافيهم مما أنت فيه، اعلم أنك على عتبة الندم الفعلي.

 

وقبل أن تسأل من أين يتولّد الندم؟ فإن في استعراض بعض صنوفه وأشكاله مدخلًا لمسعى فهمه على أن تبقى فاصلًا بين فهم أمر كالندم، وبين عيشه.

 

وسأكتفي بنموذجين:

 

النموذج الأول: السقوط في الفخ.

 

عندما يتخذ المرء في لحظة من لحظات حياته قرارًا بأمر حسّاس ليس فيه مخالفة لأي وازع أخلاقي، أو حكم شرعي، أو تعدٍّ على أحد. إنه أمر خاص به، يمكنه أن يأخذه، ويمكنه أن لا يأخذه، لكن أخذ القرار بلا شك ستتبعه نتائج قد تكون سلبية ومؤثرة، إلا أنها محتملة وليست أكيدة. نجاحها قد يؤثر إيجابًا على حاله، إلا أنها أمور على الوجه المعتاد تسير بشكل سليم نسبيًّا رغم عقباتها، وهو يسعى ليغيّر الحال إلى أحسن رغم المجازفة. ولتقريب الصورة أكثر، هناك رجل أنعم الله عليه بالصحة والمال والمكانة الاجتماعية بين أهله ومحيطه وقع بانتكاسة صحية لا علاقة له بها، إنها انتكاسة مرضية. تعالج وتداوى إلا أنها تركت فيه بعض الآثار. وتكيفت حياته معها لفترة ليأتي من يشير عليه بمحاولة إجراء عملية جراحية في الأعصاب شديدة الخطورة، نجاحها ممكن لكن عقباتها صعبة جدًّا. ومن المعلوم أن الآراء والنصائح عادة لا تتفق على صيغة واحدة، وبرغم كل مخاوفه، وبرغم أن ليس في العمر كثير، وهو رجل سبعيني أخذ قرار العملية مجازفًا. النتيجة كانت: ذهنه وعقله حاضرًا، يرى بعينيه ويسمع، لكن وهو الذي كان يكفل كل أهله صار طريح فراش المرض، لا قدرة له على التعبير والكلام ولا الحركة، بل لا قدرة له على الطعام والشراب بنفسه.

 

هل تتصور اللحظة التي استفاق بها على نفسه كيف تحول بعد أن كان صاحب حول، فإذا به بلا أي قدرة.

 

النموذج الثاني: الدائرة الفارغة.

 

وهي تعبير عن نحوين من الناس:

 

النحو الأول: الذين يقدمون بجهلهم على ما يسبب لعقلهم ونفوسهم وأهلهم ومجتمعهم أضرارًا بسبب المعاقرة، أو التظلم، أو غير ذلك من أمور، ورغم التفاتهم لفظاعة ما يفعلون يعودون إلى ما كانوا دون تردد إذا ما لاح لهم أمرٌ من هذه الأمور التي ألفوها.

 

أما النحو الثاني: فهو الذي يُدمن على أمر ما سواءً يدمن على الحرام، أو التظلّم، أو غير ذلك، بحيث إنه يصبح مسلوب الإرادة أمامه. يعرف أن فعله يقتله، يذلّه، لكنه لا يمتلك قدرة الخروج منه، كالذي يعاقر الخمر بإدمان، أو الأفيون، ويتحول إلى ذليل ساقط، ويستمر ولا يستطيع الوقوف من سقطة الفراغ رغم بكائه وندمه وحقده على ذاته. هل تتصورون لحظة أو زمن عودته لذاته الواعية أي ندم ينهش بروحه، بحيث سقطت عنده كل قيم الأمل والرجاء؟

 

حديثنا هنا مع الحالتين نتأمل فيه حصرًا بالندم.

 

إنه أمر لازم للوضع والحالة المستجدة.

 

إنه لبوس من الوهن وفقدان القدرة على التحكم.

 

إنه الحظ الذي يضعك على مفصل المصير ومفصلة الحاضر وغياب الآتي.

 

لماذا؟ لأن سياق الحياة الطبيعي بفعل قراره توقف عن الحركة في الحالة الأولى، ولأن نموذج الحياة أُنتج بفعل الحالة الثانية. نعم إنه انتحار رمزي غير طبيعي لكنه لا إرادي، وقد ينتج عنه انتحار انتقام من الذات المهانة، أو هروب دائم من كل الناس بمن فيهم السجان المعاقب على ما أقدم من قرار، وبفعل بعض الأحيان على نفس فيه أو كلمة لم يصل إلى حد القرار.

 

خلاصة هذا التمهيد الذي وصلنا إليه هو أن الندم لحظة استفاقة حصلت نتيجة موقف، وأنه مؤثر في نفس البدن أو ناتج عن إصابة بالبدن وهو المسمّى بالأنفس، أو أنه يتصل بما شكّل في حياة إنسان ما وضعًا مُرضيًا من القدرة المالية أو الاجتماعية، ثم بفعل قرار ما سقط نسيج حياته الطبيعي ليخسر ما جمع، أو لينفضح أمره الاجتماعي بسبب أخلاقيات معينة، فيقف ليواجه المصير.

 

إذًا، الندم مُنتج للألم العميق، ولقلق من مصير معقد وصعب.

 

هل من عاقل يحتمل ذلك؟ وهل من وضع للندم يختلف فيه الناس؟

 

الناس هنا إما أن الحياة في قيمها تقتصر عندهم على الدنيا، فهؤلاء انتهى ما بنوا عليه من ماضي، والحاضر الندم، أما المستقبل فلا سبيل بالنسبة لهم إلا الحظ الذي إما يرمّم ما هم عليه، أو يُقفل، وبما أنهم لا ثقة لهم فعليًّا بما بعد الدنيا، فبعضهم يصبح أسير اليأس، والآخر يفتك فيه وسواس الانتحار. وبالمناسبة فارق بين رغبة الانتحار ورغبة الموت، لأن الثانية مصدرها ندامة جهل القرار، أما الثانية فطلبٌ للوصول إلى خواتيم الحياة.

 

وبما أن الأفق النهائي لهؤلاء هي الدنيا، وبما أن الدنيا تتمثل لمثلهم في الآخرة كأنها جسم صنعوه بالنوايا والآراء والأفعال يوم القيامة، وفي مصيرهم الأخروي الأخير، وصارت هذه الدنيا كل همهم، بل أمّهم هنا شكل التجسّم يشير إليه الباري ﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ﴾[1]. إنها النار التي أوقدها بنفسه من قرن نفسه بأمه اقتران حرام وسفاحة حرام؛ والسبب هو هذا الاختلال الوجودي والأخلاقي والشرعي عند هذا الصنف من الناس، فكيف يمكن للمرء أن يحب أمه حب شهوة ولذة وهوى؟!! كيف يمكن له أن يعقد عليها بما لا يتحمله ذوق أو ضمير بشر؟

 

إنه لون من أخطر أنواع وأبشع وأقبح صنوف الحريات.

 

يعاقرها إذا عاقر، ويتلهى بها إذا تلهى، ويقتات عليها ويكتنزها ليتسلط عليها ويتظلم. إنه وجه أهل الدنيا التي قال فيها النبي: “حب الدنيا رأس كل خطيئة”.

 

وهنا، حتى لو لم تكن الجريمة والخطأ في حق أحد كما يظن البعض، وبالتالي ما كان لأحد أن يجعلك تندم بدفع الثمن، فإن ذاتك بما هي كائن في دنيا الزمن والأعمال كفيلة أن تجعلك فريسة نار الندم القاتل ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً﴾[2].

 

كخلاصة أولية، إن الندم يأتي بعد خطوة يقوم بها المرء يعقبها نحو من التنبّه على مندرجات الخطأ الذي أقدم عليه صاحبه، فيتحرك فيه شعور عميق يضعه أمام محكمة العقاب، أو الخوف من العقاب ومنه سوء النتيجة، وأصعبه سوء العاقبة والمصير. وهذا ما يشتت قدرته على التفكير، فيصبح بحالة من الذهول سرعان ما تتجه نحو أمر واحد هو الفعل ونتائجه، لتبدأ معاناة كيف الخروج مما أنا فيه؛ إذ لا الزمن يعود إلى الوراء، ولا أيام القادم من الأيام مضمونةٌ أو يؤتمن لها، لتصبح صعقة اللحظة هي سر تحريك كل مشاعر القلق المشحونة بالمخاوف وافتراضات يسميها البعض تهمات، وأسميها فوضى وعي الذات المذهول. وللعلم فقط، إذا كانت الفلسفة دهشة تولد فكرة، فإن الندم صدمة مواجهة الذات والواقع تولد إرهاصات ولادة جديدة. لذا لا يمكنك أن تتجاوزها دون انعكاسات على الجسد، ودون وهن في قدرة التركيز، ودون انشداد طمِّ ذاتك، والمخرج ليس توفر فكرة فقط، بل إجراء من النوع المتميز.

 

وهنا علينا أن نستحضر السؤال الأهم كيف نستهدي لمواكبة الندم بشكل يولّد الخيارات المنُجية؟

 

أعود فأؤكد أن الأمر عند من لا يعتقد بحياة بعد الموت سيصبح مقفلًا؛ إذ لا رجاء، وقد يصمد فقط إذا ما كان قد ربّى نفسه على التحمّل الأقسى للظروف فقط، أما من كان إيمانه بالآخرة فإنه لم يقفل الأمر على وجود مستقبل قابل لإعادة إنتاج الأمل من خلال الرجاء.

 

وهذا ما يجعلنا نعيد قراءة الندم في النص الإسلامي وبما يرتبط بالمصير.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] سورة القارعة، الآيتان 8و 9.

[2] سورة الإسراء، الآية 14.

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد