الشهيد مرتضى مطهري ..
وأمّا النظرية الثالثة، فتلتزم بأصالة الفرد والمجتمع معاً ، وهي من جهة ترفض انحلال وجود الأفراد ( أجزاء المجتمع ) في الكل ، وترفض وجوداً مستقلاً للمجتمع على غرار المركّبات الكيماوية ، وبذلك تلتزم بأصالة الفرد . ومن جهة أُخرى ، تلتزم بوجود تركيب من قبيل التركيب الكيماوي بين الشؤون الروحية والفكرية والعاطفية للأفراد ، وتلتزم بأنّ الفرد يكتسب ماهيّة جديدة بالاندراج في المجتمع ، هي الماهيّة الاجتماعية بالرغم من عدم وجود ماهية مستقلّة للمجتمع نفسه ؛ وبذلك فهي تلتزم بأصالة المجتمع . فبناءً على هذه النظرية ، تحدث ظاهرة جديدة واقعية وحيّة من جرّاء التفاعل والتأثير والتأثّر المتقابل بين الأجزاء ( الأفراد ) ، وهذا الأمر الجديد هو الروح الجماعية والشعور والوجدان والإرادة الاجتماعية ، وهو أمر زائد على الشعور والوجدان والإرادة والفكر الفردي للأفراد ، وهذه الروح غالبة على الشعور الفردي .
وأمّا النظرية الرابعة فهي متمحّضة في أصالة المجتمع ، فالموجود في الخارج ليس إلاّ الروح الاجتماعية ، والوجدان والشعور الفردي ليس إلاّ مظهراً من مظاهر الشعور والوجدان الاجتماعي فحسب .
والآيات القرآنية الكريمة تؤيّد النظرية الثالثة ، ولقد سبق منّا القول بأنّ القرآن لم يذكر هذه المسائل في إطار البحث العلمي أو الفلسفي ، وإنّما يذكرها بوجه آخر ، والذي يستنبط من الدراسة القرآنية للمسائل الاجتماعية هو تأييد النظرية الثالثة .
فالقرآن يرى للأُمم ( المجتمعات ) مصيراً مشتركاً ، وصحيفة أعمال مشتركة ، ويرى للأُمّة إدراكاً وشعوراً وعملاً وإطاعةً وعصياناً .
ومن الواضح : أنّ الأُمة لو لم تكن موجودة بوجود عيني حقيقي ؛ لم يصح افتراض المصير والفهم والشعور والطاعة والعصيان لها . وهذا يدل على أنّ القرآن يؤيّد وجود نوع من الحياة للمجتمع هي الحياة الاجتماعية ، فالحياة الاجتماعية ليست مجرّد تمثيل واستعارة بل هي حقيقية واقعية ، كما أنّ الموت الاجتماعي حقيقة بدوره أيضاً .
قال تعالى في سورة الأعراف ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) ، هذه الآية تتحدث عن حياة لها أجل لا يمكن التخلّف عنه ، ولا يتقدّم ولا يتأخّر . وهذه الحياة متعلّقة بالأُمّة ( المجتمع ) ، لا الفرد . ومن الواضح أنّ الأفراد لا يفقدون حياتهم الفردية دفعةً واحدة وفي آن واحد ، بل بالتناوب والافتراق .
وقال تعالى في سورة الجاثية ( كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إلى كِتَابِهَا ) .
ويظهر من هذه الآية أنّ الكتاب ( صحيفة الأعمال ) لا يختص بالفرد حيث يستقل كل من الأفراد بكتابه ، بل المجتمعات أيضاً لها صحف أعمال ، ويُدعى كل مجتمع إلى كتابه ؛ وليس ذلك إلاّ من جهة أنّ المجتمعات تُعد من الموجودات الحيّة الشاعرة القابلة للتكليف والخطاب .
وقال تعالى في سورة الأنعام: ( زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ) هذه الآية تدل على أنّ كل أُمّة لها شعور واحد ، ومقاييس خاصة ، وأُسلوب خاص للتفكير ، وأنّ الإدراك والشعور الاجتماعي لكل أُمّة يختص بها ، وأنّ كل أُمّة لها مقاييسها الخاصة في الحكم ، خصوصاً في المسائل المربوطة بالإدراكات العلمية ، ولكل أُمّة ذوق إدراكي خاص ، وربّما تستحسن أُمّة عملاً بينما تستقبحه أُمّة أُخرى ، فالجو الاجتماعي الخاص للأُمّة يصنع ذوقها الإدراكي .
وقال تعالى في سورة غافر ( وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ) . هذه الآية تتحدث عن إرادة سوء اجتماعية لمحاولة فاشلة في معارضة الحق . وتحكم الآية الكريمة بأنّ جزاء هذا العمل والإرادة الاجتماعية هو العذاب العام الشامل .
ثم إنّ هناك موارد في القرآن الكريم ينسب العمل الصادر من الفرد إلى مجتمعه ، والعمل الصادر من جيل إلى الأجيال المتأخّرة ؛ وذلك فيما كان لهم جميعاً فكر اجتماعي واحد ، وإرادة اجتماعية واحدة ، وكما يقال : لهم روح اجتماعية واحدة . ( مثال ذلك ) ما ورد في قصة ثمود حيث عمد أحدهم إلى عقر ناقة صالح ، والقرآن ينسب ذلك إلى القوم بأجمعهم فيقول : ( فعقروها ) ، فاعتبرهم جميعاً مجرمين ، كما اعتبرهم جميعاً مستحقّي العقاب ، فقال تعالى : ( فدمدم عليهم ربّهم ) .
وقد أوضح ذلك الإمام علي ( عليه السلام ) في إحدى خطبه في نهج البلاغة ، حيث قال : ( يا أيّها الناس ، إنّما يجمع الناس الرضا والسخط ) . فبيّن الإمام ( عليه السلام ) أنّ الرضا والسخط مقياس ـ وإن أتى به واحد منهم ـ فهم مشتركون في حكمه وجزائه ، وكذلك اجتماعهم على السخط بالنسبة إلى عمل ، قال ( عليه السلام ) : ( إنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد ، فعمّهم الله بالعذاب لما عمّوه الرضا ، فقال : ( فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ ) وهنا ينبغي أن نشير إلى أنّ الرضا بالمعصية ما دام مجرّد رضا في النفس ، ولم يصاحبه عمل خارجي لا يعتبر ذنباً . فلو أذنب أحد وعلم به آخر قبل العمل أو بعده ففرح بذلك لم يعتبر مذنباً ، بل إرادة الذنب والعزم عليه لا يُعد ذنباً ما لم يصل إلى مرحلة العمل . وإنّما يعد الرضا بالذنب ذنباً إذا كان مؤثّراً في إرادة المجرم وتصميمه وعمله ، كما إذا كان الذنب جريمة اجتماعية ، فالجو الاجتماعي والروح الجماعية تستقبل الذنب وترضى به وتسير نحوه ، ويباشر العمل فرد من أفراد ذلك المجتمع في حين أنّ تصميمه وإرادته للعمل جزء من تصميم الكل وإرادته ، وهكذا يُعدّ الذنب ذنباً للجميع ، وهذا هو المراد في كلام الإمام ( عليه السلام ) الذي ورد تفسيراً للآية المباركة ، وأمّا مجرّد الفرح والرضا من دون أن يكون لهما مدخليّة في الذنب فلا يُعدّان ذنباً .
وقد نسب في القرآن بعض الأعمال التي ارتكبتها الأجيال السابقة إلى الجيل المتأخّر ، كما نسب أعمال بني إسرائيل في عهود الأنبياء السابقين إلى اليهود في عهد الرسول الأكرم (ص) ، وقد حكم عليهم باستحقاق الذلّة والمسكنة لقتلهم الأنبياء بغير حق . والسر في ذلك أنّ هؤلاء ـ من وجهة النظر القرآنية ـ استمرار لأولئك القوم ، بل هم قوم واحد بلحاظ الروح الاجتماعية . ومن هنا قيل إنّ البشرية تتشكّل من الأموات أكثر من تشكّلها من الأحياء ، يعني: أنّ للأموات والسلف سهماً أكبر في تشكيل عناصر البشرية من الأحياء والباقين . ومثل ذلك ما قيل : ( إنّ الأموات يحكمون على الأحياء أكثر من ذي قبل ) .
وقد ورد في تفسير الميزان بحث في أنّ المجتمع إذا أصبح ذا فكر اجتماعي واحد ، وروح اجتماعية واحدة ؛ كان حكمه حكم الفرد الواحد من الإنسان ، فكما أنّ أعضاء الإنسان وقواه منحلّة ذاتاً وفعلاً في شخصية الإنسان ، فلذّاتها وألمها لذّة الإنسان الكل وألمه ، وسعادتها وشقاؤها سعادته وشقاؤه ، كذلك أفراد المجتمع بالنسبة إلى المجتمع ككل . ثم أدام بحثه قائلاً : ( وهكذا صنع القرآن في قضائه على الأُمم والأقوام التي ألجأتهم التعصّبات المذهبية أو القومية أن يتفكّروا تفكّراً اجتماعياً : كاليهود والأعراب وعدّة من الأُمم السالفة ، فتراه يؤاخذ اللاحقين بذنوب السابقين ، ويعاتب الحاضرين ويوبّخهم بأعمال الغائبين والماضين ؛ كل ذلك لأنّه القضاء الحق فيمَن يتفكّر فكراً اجتماعياً . وفي القرآن الكريم من هذا الباب آيات كثيرة لا حاجة إلى نقلها ) .
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الإسلام وميول الإنسان
شروط البحث
الزهراء للإمام عليّ: اشتملت شملة الجنين (1)
التمثيل بالمحقَّرات في القرآن
الشّيخ صالح آل إبراهيم: ميثاقنا الزّوجي
اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا
المادة على ضوء الفيزياء
المعرض الفنّيّ التّشكيليّ (أبيض وأسود) بنسخته الثّالثة
القرآن وجاذبيّته العامة
القرآن الكريم وأمراض الوراثة