مقالات

التّاريخ وحركة التقدّم البشري ونظرة الإسلام

 

 الشيخ محمد مهدي شمس الدين ..

التّاريخ حركة الكائن في الزّمان والمكان.

والكائن جماد، ونبات، وحيوان، وإنسان.

وتاريخ كلّ من الجماد والنّبات والحيوان يسير وفق قوانين ثابتة، وموضوعة خارج هذه العوالِم.

إنّ الجماد لم يضع قوانين حركته، ومِن ثمّ فإنّه لم يضع قوانين تاريخه، وكذلك النّبات والحيوان.

إنّ هذه العوالم الثّلاثة خاضعة في جميع حالات وجودها لمبدأ الضّرورة، ومِن ثمّ فتاريخها من جميع وجوهه خاضع لمبدأ الضّرورة، إنّه حصيلة حركتها الضّروريّة في الزّمان والمكان، ومن ثمّ فـ(الخطأ) غير وارد في تاريخ هذه العوالم، إنّها لا تصنع تاريخها؛ ولذا فهي لا تقع في أخطاء العمل.

 

* أمّا تاريخ الإنسان فشيء آخر:

إنّ الإنسان يتعامل مع الكون على أساس مبدأ الاختيار؛ لأنّه كائن حرّ لا يخضع لمبدأ الضّرورة إِلاّ في نطاق العمليّات البيولوجيّة في جسمه، ومن ثمّ فإنّه يشارك في وضع قوانين حركته في الزّمان والمكان، فإنّ الإنسان يُكيّف نفسه لتنسجم مع الطّبيعة حين يعجز عن تكيّف الطّبيعة لتنسجم معه.

والإنسان يحب ويبغض، ويأمل وييأس، ويتألّم ويحلم، والإنسان يخاف... يخاف من المجهول، ويخاف من المستقبل... والإنسان، قبل كلّ شيء وبعد كلّ شيء، يفكّر: يحلّل المواقف والمشكلات الّتي تواجهه، ويركّبها، ويوازن بين احتمالاتها، ويرجّح ويختار، ويتحرّك وفقاً لاختياره، فهو إذن يستجيب في حركته لعالمه الخارجي ولعالمه الدّاخلي من موقع الاختيار باعتباره كائناً حرّاً لا من موقع الضّرورة.

ومن هنا فإنّ الخطأ في التّحليل والتّركيب والاختيار، والرّجوع إِلى الوراء في حركته، وما يؤدّي إِليه ذلك من خيبات الأمل في خططه ومشاريعه ـ أمور حدثتْ للإنسان دائماً في حركته التاريخيّة.

ولذا فإنّ تاريخ الإنسان كما هو سجل مشرق ومشرّف لانتصاراته وإِنجازاته في الطبيعة والمجتمع، هو كذلك سجل كئيب حافل بأخطائه، وانتكاسات حركته نحو المستقبل، وخيبات أمله.

 

* ومِن أسوأ ما يمكن أنْ يقع فيه الإنسان من أخطاء:

ـ حسبانه في كثير من الحالات أنّه كان دائماً على صواب.

ـ وأنّ تاريخه يمثّل خطّاً صاعداً باستمرار.

ـ وأنّ حركته نحو المستقبل ـ لذلك ـ تقدُّميّة دائماً، خَيِّرة دائماً، صائبة دائماً، لا يتخلّلها خطأ ولا انحراف.

ومثل ذلك في السوء:

ـ حسبانه أنّ كلّ ماضيه خطأ وتخلّف.

ـ ومِن ثمّ فهذا الماضي لا يستحقّ منه الالتفات والمراجعة.

ـ وأنّه اهتدى إِلى النّظرة الصّائبة في حاضره.

ـ وأنّه في حركته نحو المستقبل حليف الصّواب والتّوفيق باستمرار.

إِنّ هذا الحسبان وذلك يحملان الإنسان على ارتكاب مزيد من الأخطاء، والوقوع في كثير من المآسي وخيبات الأمل.

ذلك بأنّ الإنسان حين يخال حركة التّاريخ دائماً على صواب، فإنّه يلغي جميع المؤثّرات الإنسانيّة، ويسلّم نفسه لحركة التّاريخ الإنساني كما لو كان هذا التّاريخ خاضعاً لمنطق الضّرورة كتاريخ الجماد والنّبات والحيوان. ومِن ثمّ فإنّه يرتكب الأخطاء الكبرى وهو يحسب أنّه على صواب، ويصحِّح أخطاءه بأخطاء أخرى تسبّب للإنسانيّة مزيداً من التخلّف على كلّ صعيد، ومزيداً من المآسي الفرديّة والجماعيّة.

 

وكذلك الحال حين يحكم الإنسان على ماضيه:

ـ بأنّه مجموعة أخطاء قاد أسلافَه إِليها الجهلُ وسوء الفهم وسوء التّوجيه.

ـ ولذا فلا شيء من هذا الماضي يصلح للحاضر وللمستقبل.

ـ وأنّه كان ضالاًّ فاهتدى.

ـ وأنّه امتلك الحقيقة التّاريخيّة وكانت ضائعة منه بسبب هذا الّذي غلّه وشلّ قواه.

إِن الإنسان باتخاذه لهذا الموقف يحكم على جميع تجارب الماضي بالفشل والبطلان، وهو حكم لا شكّ في أنّه جائر عن قصد السّبيل؛ لأنّ الحقيقة هي أنّ في تجارب هذا الماضي الكثير الكثير من الصّواب الّذي تكبّدتْ الإنسانيّة أنواعاً شتّى من الآلام والتّضحيات، وتحمّلت كثيراً من المصاعب في سبيل الوصول إِليه والاهتداء إِلى معالمه.

كِلا هذَين الموقفَين يؤدّي بالإنسان إِلى أنْ ينظر إِلى نفسه وعقله في حاضره ومؤسّساته السياسيّة وغيرها وسائر نظمه بثقة مطلقة لا مبرّر لها.

ولْنَقُل: إِنّه في هذه الحالة الّتي يرفض فيها جميع الماضي، أو في تلك الحالة الّتي يخال فيها حركة التّاريخ دائماً على صواب ينظر إِلى نفسه وموقفه بغرور أجوف، ولعلّ هؤلاء وأُولئك ممّن عناهم اللّهُ تعالى بقوله:

(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِاْلْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولئِكَ الّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً).

إنّ هذا الغرور الأجوف، وتلك الثّقة المطلقة الّتي لا مبرّر لها تؤدّيان بالإنسان إلى الوقوع في أخطاء كبرى، تعرض المجتمعات بل وجانباً كبيراً من الإنسانيّة لكوارث عظمى ومتنوّعة لم يعرف لها التّاريخ مثيلاً.

والآيات تومئ إِلى النّظرة الّتي تعتبر حركة التّاريخ خاضعة للاعتبارات المادّيّة وحدها، والنّظرة الّتي تقيس التّقّدَم البشري بالمقياس المادّي وحده. وهذا ما وقع فيه إنسان الحضارة الحديثة، والويل له ممّا صنعتْ يداه في المقبلات من الأيّام.

وقد ولّدت هاتان النّظرتان المتطرِّفتان إلى التّاريخ وإلى المستقبل مفهوماً للتّقدّم البشري غير متكامل، ومِن ثمّ دَفَعَ بالإنسان إلى ارتكاب المزيد من الأخطاء الكبرى في شأن نفسه وفي شأن عالَمِه.

 

لقد اعتبر التّقدّم في الحضارة الحديثة بالمقياس المادّي وحده، فيقاس التّقدّم في أيّ مجتمع وفي ظل أيّ نظام سياسي بحجم الإنتاج والاستهلاك بالنّسبة إلى أشياء الحياة المادّية:

ـ الطّعام.

ـ والملابس والمساكن وأدوات الزّينة.

ـ ووسائل النّقل والطّاقة والطّرق.

ـ ووسائل اللّهو ووسائل تيسير الحياة اليوميّة المنزليّة وغيرها.

ـ والمصانع والأسلحة.

ـ وما إلى ذلك من أشياء، يُضاف إلى ذلك المؤسّسات الحكوميّة والأهليّة الّتي تنظّم كلّ هذه العمليّات..

ولا يقيم هذا المفهوم عن التّقدّم البشري وزناً لوضعيّة الإنسان الأخلاقيّة وللقِيَم الّتي ينبغي أنْ توجّه سلوكه مع الطّبيعة المادّية، والعالَم، والمجتمع والأسرة.

وهذا المفهوم هو الدّليل الّذي يوجّه أفكار وخطط وعمليّات المؤسّسات الوطنيّة والدّوليّة المعنيّة بقضايا التّنمية، فالوكالات المتخصّصة للأمم المتّحدة، والجامعات، ومراكز الأبحاث الّدوليّة والوطنيّة تَعتبر حركة التقدّم والنموّ بهذا المقياس.

وكانت عاقبة ذلك تقدّماً مذهلاً في مجال المادّيات... تقدّماً تجاوز أكثر الأحلام جموحاً في بداية النّهضة الصّناعيّة الحديثة. ولكنّه تقدّمٌ ترافق مع تأخّر مأساوي في مجال المعنويّات، بدأت بعض البصائر المستقبليّة في العالم الغربي و(الشرقي ؟؟) تكتشفه وتعي خطورته، وتحذِّر من عواقبه الوخيمة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد