مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

العالم كما نراه... وتأثير هذه الرؤية على نفوسنا

إذا كان الكون عبارة عن السماوات والأرض، وكانت الأرض عبارة عن هذه الكرة الأرضية وما عليها، فإنّ رؤيتنا الكونية تتعلّق في جانبٍ مهمٍّ منها بالحياة الاجتماعية على هذه الأرض التي تُحدّد مصير الأرض، فيتحدّد تبعًا لذلك مصير السماوات، التي تكون بدورها أبواب الورود والانتقال إلى المصير الأبدي.

 

لا يُمكن الغض عن هذا البعد الكوني المُرتبط بواقع العالم البشري المتمثّل في حركة الشعوب ونشاط الدُّول، وذلك لسببين أساسيين:

 

الأول: هو أنّ الحياة الاجتماعية ذات تأثير كبير على عقائدنا وقيمنا وأفعالنا، لما تفرضه علينا من تفاعلٍ كبير مع أمور المعاش.

 

والثاني: هو أنّ أبناء القرآن يُلاحظون حضورًا ملفتًا للمجتمعات البشرية في قسمٍ كبيرٍ من آياته. فلا مبالغة إذا قلنا بأنّ أكثر من ثمانين بالمئة من آيات كتاب الله تتعرّض لوقائع الأقوام والشعوب والأمم والجماعات، واصفةً أحوالها وأفعالها وأهدافها ومآلاتها. كل ذلك حيث يكون هذا الميدان الاجتماعي المتلاطم أبرز مظهر تتجلّى لنا فيه قدرة الله وتدبيره وحكمته وجبروته وقاهريته وألطافه.

 

تتشكّل رؤيتنا لهذا العالم انطلاقًا ممّا نفهمه من هذا الكم الكبير من آيات القرآن المجيد ونحن نتلوه منذ الصغر. ثم يأتي دور مطالعاتنا ومتابعتنا لما يجري فيه، فنكون أمام رؤيةٍ أخرى تعرضها وسائل الإعلام وغيرها من فنون البيان.

 

المقارنة الدائمة التي نجريها بين حصيلة المطالعة القرآنية والمطالعة البشرية قد تكون أحد أسباب قلقنا المزمن. الرؤية القرآنية هنا لا تنسجم مع الرؤية الناتجة عن نشرات الأخبار وتحليلات الصحف. فمن جانب، يعرض القرآن الكريم دومًا لانتصار أهل الحق وفوزهم وهزائم الكفّار والمجرمين وخسارتهم، في حين أنّ عكس ذلك قد يتراءى لمن يواظب على متابعة وسائل الإعلام المختلفة، حتى تلك التي تصنّف نفسها في دائرة أتباع القرآن والإسلام.

 

ليس من السهل إسقاط الرؤية الكونية القرآنية على الواقع العالمي، خصوصًا إذا أردنا أن نعتمد المنهاج السائد في متابعة أحداث العالم وتناولها. عرض ثلاثة انتصارات للمظلومين في نشرة إخبارية واحدة مقابل خمسة للمجرمين، يؤدي على مدى الأيام إلى تشكيل تصوّرٍ مخالف لتلك الرؤية القرآنية. (التعبير بالانتصار والهزيمة هنا يشمل أي نوع من الإنجازات حتى لو كانت افتتاح مصنع للسكر).

 

يحتاج أحدنا إلى تلاوة مستفيضة لكتاب الله حتى يمتلك المناعة اللازمة لعدم الوقوع في أسر الرؤية الكونية الأخرى. وحتى مع هذه المناعة يبقى إسقاط الرؤية القرآنية أمرًا صعبًا للغاية. فالمُعطيات والمعلومات التي يصوغها أهل الباطل انطلاقًا من رؤيتهم، حتى لو كان ذلك على غير تعمُّدٍ منهم وتخطيط، لن تزوّدنا بما نحتاج إليه لرؤية الصورة الكاملة والوقائع الحقيقية لما يجري في العالم. هنا سنحتاج إلى منهجٍ آخر لتقصي الحقائق والوقائع.

 

المستسلمون لرؤية الماديين والظاهريين لهذا العالم لن يعيشوا التناقض والتضاد والازدواجية. قد يبدو ذلك مريحًا للوهلة الأولى. فما أصعب أن يستمر الإنسان في عيش صراع بين الأفكار والواقع، وأصعب منه من لا يعيش أي صراع لانتفاء الاهتمام عنده. لكن المتعايشين مع الباطل لن يطول بهم الأمر حتى يصلوا إلى طريقٍ مسدود، لأنّ فُقاعة الباطل ستنفجر في النهاية والسراب الذي يحسبونه ماءً بقيعة سينكشف عن عدم ولا شيء. وما أشد ألم العدم وصعوبة الباطل. لقد قال الإمام علي عليه السلام: "إن الحق ثقيل مريء وإن الباطل خفيف وبيء".[1] ولا يمكن لمن رسم صورة مخالفة للواقع أن يعيش براحةٍ وهناء، بل ستكون هذه الصورة وبالًا عليه وسببًا لتنغُّص عيشه وكدورته آخر المطاف.

 

ينسحب معظم الناس من متابعة الحياة الاجتماعية ومواكبة أحداثها حتى لو كانت بمستوى التهديد بوقوع حرب نووية، لأنّهم يفرّون من ذلك الكدر والمرارة. يصعُب أن تجد مواكبًا لنشرات الأخبار العالمية غير سيئ المزاج. البشارات القرآنية بمستقبلٍ واعدٍ وغدٍ مشرقٍ ومصيرٍ طيّب للصالحين وعاقبة سيئة للمجرمين المُفسدين، وذكر الوقائع التفصيلية لما جرى ويجري على كلا الطائفتين يورِّطنا في أحداث العالم ويدفعُنا نحو مواكبةٍ يومية مُستفيضة، حتى لو كان ذلك يرتبط بأقاصي الأرض. لكن صعوبة رؤية تلك البشارات القرآنية في الواقع قد تجلب لنا المرارة أيضًا. تصوّر كم يحتاج المؤمن من شحنٍ إيماني إيجابي لكي يتحمل فكرة طول عصر الغيبة دون وجود أفقٍ واضح للظهور.. بشارات الأمل هنا هل ستكون قادرة على إحباط الأخبار المؤلمة التي تنهال عليه من كل حدب وصوب؟! يقول: إلى متى يا إمام نظل نتجرّع مرارات هذا الواقع العالمي الذي انخرطنا في التفكير فيه إلى هذا الحد؟ ليتنا نستطيع أن نعيش بطمأنينة وسكينة كالكثير من سكان هذه الأرض الذين لا يهمهم سوى قضايا بسيطة وسطحية.

 

ولكن هل كانت الحياة على الأرض لأجل الوصول إلى هذه الطمأنينة، أم أنّ جزءًا مهمًّا من حكمة وجودنا عليها هو لأجل أن نخوض في حوادثها وتقلّباتها العجيبة؟

 

إذًا، القلق والاضطراب أمرٌ طبيعيّ وضريبة لازمة ندفعها مقابل وجودنا في عالمٍ يُفترض أن يكون سريع الزوال، ولكنّه فرصة عظيمة للوصول إلى الكمال. هل يُمكن تبديل هذا القلق إلى طمأنينة في النهاية، أو المطلوب هو احتواء القلق بطريقة تؤدّي إلى ظهور تلك الرؤية الكونية القرآنية كخلفية حتمية لما يجري في هذا العالم؟

 

هكذا يتميّز أهل القرآن عن غيرهم، بخوضهم واهتمامهم بما يجري في العالم وما يتعلّق بقضاياه الكبرى. لكن أهل القرآن مدعوون إلى مأدُبة الهداية الإلهية التي يتناولون منها غذاء العرفان والشهود لحضور الرب المتعال بصورةٍ لن تتكرّر في أيّ عالمٍ آخر. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]. نهج البلاغة، ص542.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد