مقالات

من هم المؤمنون؟



﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾1.


الإيمان كفيل السعادة
إنّ الإيمان الحقيقي هو الذي يُحقّق للإنسان سعادته في الدنيا والآخرة، إنّه ذلك الإيمان الذي يستقرّ في النفس الإنسانية فيُغيّر أحوالها وينهض بها إلى أعلى المراتب ويجعلها تستشعر عظمة الله ووحدانيّته، وأنّه هو المتصرّف الوحيد في هذا الكون وهو المسيّر له ولا يتحرّك ساكن إلا بأمره، ويُسمّى الإيمان القلبي ومقرّه القلب.
وإذا دقّقننا أكثر سنجد: "أنّ الإيمان والكفر إنّما يتبعان صفات موجودة في القلب، فلا يُمكن تحقّق الإيمان إلَّا بعد التزكية، كما أنّ الكفر والنفاق من آثار رذائل الصفات، ولا يُمكن إزالة النفاق والكفر إلَّا بعد إزالة مبدئهما من حبّ الدنيا والنفس"2.
والإيمان إنّما يتكوّن في القلب وتظهر آثاره في اللسان والجوارح والأركان، وبظهور هذه الآثار تتمّ حقيقة الإيمان. وكما يقول بعض المفسّرين فإنّ: "حقيقة الإيمان هو ما أوجب الأمان فمن بقي في مخاوف المرتابين لم يبلغ إلى حقيقة الإيمان"3.


ما هو الإيمان
الإيمان لغةً مصدر آمن يؤمن إيماناً فهو مؤمن، فهو مأخوذ من مادة (أ م ن) التي تدلّ على عدّة معان:
الأول: الأمانة ضدّ الخيانة: ومعناها سكون القلب.
الثاني: الأمن والأمان ضدّ الخوف.
الثالث: التصديق ضدّه التكذيب.
الرابع: الإيمان ضدّ الكفر: وقد أُخذ هذا المعنى من التصديق.
الخامس: السكينة والطمأنينة: الأمن والأمانة والأمان في الأصل مصادر، تُطلق على الحالة التي يكون عليها الإنسان في الأمن من طمأنينة النفس، وزوال الخوف.
وقد خلص الشهيد الثاني إلى أنّ لمفردة الإيمان عند علماء اللغة جذرين:
الأول: التصديق والاعتقاد والاعتراف.
والثاني: الأمن والأمان بمعنى سكون النفس واطمئنانها4.
والمعنى الإصطلاحي للإيمان موافق للمعنى اللغوي، فقد عرّف المتكلّمون الإيمان بالتصديق، فحقيقة الإيمان هي التصديق بالقلب، لأنّ الخطاب الذي توجّه فيه القرآن بلفظ آمنوا إنّما هو بلسان العرب ولم يكن العرب يعرفون الإيمان غير التصديق5.


الإيمان في الفقه
وللإيمان في الفقه اصطلاحان:
الأول: وهو الاعتقاد الخاصّ بالله تعالى وبرسله6 وبما جاؤوا به، وهو بهذا المعنى يختلف عن الإسلام الذي هو إقرار بالشهادتين باللسان. وقد أُشير إليهما في قوله تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾.
الثاني: الاعتقاد بالله وبالرسل وما جاؤوا به وبإمامة أهل البيت عليهم السلام7، ويُعبّر عنه بالإيمان بالمعنى الأخصّ المقابل للإيمان بالمعنى الأعم لخلوّه عن هذا الاعتقاد، فهو داخل في اصطلاح الإمامية.
إذا لاحظنا مصطلح الإيمان مع الإسلام فيُطلق الإيمان - تبعاً لآراء الفقهاء - على أربعة معانٍ منها:
المعنى الأول: يُساوي الإسلام،8 كما في قوله تعالى: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ﴾9، وقوله تعالى: ﴿وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيل﴾10.
المعنى الثاني: مغاير للإسلام كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾11 وقوله تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَ﴾12.
وتحت عنوان المغايرة قد يُساوي الإيمان الإسلام، وقد يُراد بالإيمان التصديق القلبي، أو يُراد منه التصديق المقرون بعمل الجوارح، وقد يكون خاصّاً بالاعتقاد الاثني عشري.
وبذلك يكون مجموع الآراء الفقهية وفق هذه المعاني الأربعة.


حقيقة الإيمان
ذكرنا سابقاً أنَّ المعنى اللغوي والقرآني للإيمان هو التصديق لكن وقع البحث في أنّ الإيمان من مقولة التصديق القلبي فقط ولا دخالة للإقرار اللساني فيه أو أنّ حقيقته التصديق القلبي مع الإقرار اللساني، أو يُضاف إليهما عمل الجوارح أيضاً13.
والأقوال في حقيقة الإيمان عند علماء الإمامية على الشكل التالي:
1- التصديق القلبي:
وهو قول أكثر علماء الإمامية، والإيمان بهذا المعنى قوامه وحقيقته هو التصديق القلبي دون أن يكون للعمل أو الإقرار اللساني دخالة فيه.
2- التصديق القلبي مع الإقرار باللسان:
صرّح به الشيخ الصدوق في الهداية والمحقّق نصير الدِّين الشيخ الطوسي والمحقّق الكركي، ونسبه الشهيد الثاني إلى جماعة من المتأخّرين.
يقول المحقّق الشيخ الطوسي: الإيمان التصديق بالقلب واللسان. واختاره العلّامة الحلّي في شرحه لكلام المحقّق الشيخ الطوسي14. وهذا ما يراه جمهرة الفقهاء والمتكلّمين من السنة والشيعة: وهو أنّهم جعلوا الإيمان نفس التصديق مع الإقرار باللسان، وجعلوا العمل كمال الإيمان15.
3- التصديق القلبي والإقرار باللسان والعمل بالجوارح:
وهو اعتبار العمل في الإيمان إضافةً إلى الأوّلين بحيث يكون المرتكب للكبيرة خارجاً عن الإيمان، ولا تشمله الأحكام الخاصة بالمؤمنين، فنسبه الشهيد الثاني إلى المحدّثين، بل في مرآة العقول انعقاد اصطلاح المحدّثين عليه، ونسبه المحدّث البحراني إلى جملة من متقدّمي أصحابنا كالصدوق والمفيد.
كيف فسّرت الروايات معنى الإيمان؟
وبالتأمّل في الروايات يتّضح أنّها ليست بصدد تفسير الإيمان الذي هو موضوع للأحكام الظاهرية وهو الذي يُعبّر عنه بـ "الإسلام" في غالب الروايات، بل هي ناظرة إلى إحدى الجهات التالية:
1- أنّ ترتُّب آثار الإيمان في الظاهر يتوقّف على الإقرار اللساني أو ما في حكمه، كما أنّ ترتُّب آثار الإيمان في الواقع يتوقّف على العمل بمقتضاه.
2- عُدّ العمل بالأركان من أجزاء الإيمان، باعتبار أنّ الإيمان بمنزلة الشجرة والأعمال ثمرتها، فالإيمان بلا عمل كالشجر بلا ثمر، وبهذا الاعتبار يصحّ أن يُقال: الإيمان يتقوّم بالعمل.
3- المعصية وإن كانت غير منافية للإيمان الظاهري، لكنّها مناقضة للإيمان الباطني الذي هو الإذعان القلبي بأحكام اللّه تعالى، ومن هنا روي عنه صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم أنّه قال: "لَا يَزْنِي الزَّانِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ‏ السَّارِقُ‏ وَهُوَ مُؤْمِن"16.
4- قد ظهرت في النصف الثاني من القرن الأوّل الهجري عقيدة باطلة باسم "الإرجاء" وكانت تهدف إلى أنّ المعصية لا تضرّ بالإيمان، ويكفي لنجاة الإنسان أن يكون مؤمناً باللّه ورسوله فحسب، وإن لم يعمل بالفرائض أو ارتكب المعاصي، وصارت خير وسيلة للظلمة الطغاة الأمويين لتبرير أعمالهم الإجرامية، وخصوصاً ما كانوا يفعلونه بالرجال الأحرار من العلويين وغيرهم. وعلى هذا، فقسم من الروايات المؤكّدة على أنّ العمل من أجزاء الإيمان ناظرة إلى بطلان عقيدة المرجئة17.


الفرق بين الإيمان والإسلام
إنّ المُراجِع لكلام الإمام علي في نهج البلاغة وفي غيره من الكتب الروائية والذي يُستفاد أيضاً من الروايات الواردة عن الأئمّة الأطهار يكتشف وجود نوع من الاختلاف المفهومي والمصداقي بين الإيمان والإسلام.
فالإيمان هو: التصديق القلبي الذي ينعقد في قرارة النفس، وهو أعلى رتبة من الإسلام، في حين أنّ الإسلام هو: التشهّد بالشهادتين لساناً والعمل بالشرع ظاهراً.
وبالتّالي ستختلف الشروط والصفات لكلّ واحد منهما، فصفات المسلم مختلفة إلى حدٍّ ما عن صفات المؤمن.
وإنّ العلاقة بينهما قد تلحظ باعتبار الصدق أي الانطباق على المصداق، فالإسلام أعمّ مطلقاً من الإيمان وهو أخصّ مطلقاً من الإسلام، فكلّ مؤمن هو مسلم وليس كلّ مسلم هو مؤمن وقد تلحظ بلحاظات أخرى18.
ويدلّ عليه صريحاً قوله تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾، كما استدلّ بها أبو عبد الله عليه السلام لجميل بن درّاج على افتراق الإسلام عن الإيمان، وفي رواية أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام ذيل الآية: "فمن زعم أنّهم آمنوا فقد كذب، ومن زعم أنّهم لم يسلموا فقد كذب"19.
رواية فُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله قَالَ: "الإيمان يُشَارِكُ الإسلام والإسلام لَا يُشَارِكُ الإيمان"20.
وعن فُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله يَقُولُ: "إِنَّ الإيمان يُشَارِكُ الإسلام ولَا يُشَارِكُه الإسلام، إِنَّ الإيمان مَا وَقَرَ فِي الْقُلُوبِ، والإسلام مَا عَلَيْه الْمَنَاكِحُ والْمَوَارِيثُ وحَقْنُ الدِّمَاءِ والإيمان يَشْرَكُ الإسلام والإسلام لَا يَشْرَكُ الإيمان"21.
ولعلّ المراد من: "المشاركة وعدمها في الرواية وفق عدّة اعتبارات: إمّا باعتبار المفهوم فإنّ مفهوم الإسلام داخل في مفهوم الإيمان دون العكس، أو باعتبار الصدق فإنّ كلّ مؤمن مسلم دون العكس، أو باعتبار الدخول فإنّ الداخل في مفهوم الإيمان داخل في الإسلام دون العكس أو باعتبار الأحكام فإنّ أحكام الإسلام مثل حقن الدماء وأداءِ الأمانة واستحلال الفرج ثابتة للإيمان دون العكس، فإنّ الحكم المترتّب على الإيمان مثل الثواب والنذر للمؤمن وإعتاقه لا تكون للإسلام"22، وكلّ هذه المعاني تُدلّل على الفرق بينهما.


* كتاب بغير حساب، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- سورة الحجرات، الآية 14.
2- الشيخ حسن المصطفوي، التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج11، ص79.
3- السلمي، تفسير السلمي، تحقيق سيد عمران، نشر دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1421هـ. - 2001م، ج2، ص353.
4- ينظر: الشهيد الثاني، زين الدين بن علي بن أحمد العاملي، حقائق الإيمان، تحقيق السيد مهدي الرجائي، إشراف السيد محمود المرعشي، نشر مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي العامة - قم المقدسة، مطبعة سيد الشهداء عليه السلام، الطبعة الأولى، 1409هـ، ص 50.
5- الثعلبي، الكشف والبيان عن تفسير القرآن (تفسير الثعلبي)، تحقيق الإمام أبي محمد بن عاشور، مراجعة وتدقيق الأستاذ نظير الساعدي، نشر دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1422 - 2002م، ج1، ص145.
6- هذا المعنى قال به السيد المرتضى، الشيخ الطوسي، ابن إدريس الحلّي، المحقق الحلّي، وغيرهم من الأعلام.
7- وصرّح بهذا المعنى الشهيد الأول، الشهيد الثاني، المحقّق الأردبيلي، وغيرهم من الأعلام.
8- الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، انتشارات ناصر خسرو، دار المعرفة، طهران، ط1، 1406هـ – 1986م، ج1، ص391.
- الشهيد الأول، الروضة، ج3، ص21.
- المحقق الخوانساري، مشارق الشموس، نشر مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، ج2، ص430.
- الهندي، محمد بن الحسن، كشف اللثام عن قواعد الأحكام، تحقيق مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، ط1، 1424هـ، ج7، ص83.
9- سورة النساء، الآية 92.
10- سورة النساء، الآية 141.
11- سورة الأحزاب، الآية 35.
12- سورة الحجرات، الآية 14.
13- يقول العلامة ابن ميثم البحراني: "الإيمان إمّا أن يكون الإيمان والكفر من أعمال القلوب أو من أعمال الجوارح أو من أعمالهما. والأوّل هو التصديق القلبي. وأمّا الثاني: فإمّا أن يكون عبارة عن التلفُّظ بالشهادتين، وهو منقول عن الكرامية، أو من جميع أفعال الجوارح من الطاعات، وهو قول قدماء المعتزلة والقاضي عبد الجبّار، أو عن جميع الطاعات من الأفعال والتروك، وهو قول أبي علي وأبي هاشم. وأمّا الثالث فهو قول أكثر السلف، فإنّهم قالوا الإيمان تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان. والمختار أنّ الإيمان عبارة عن التصديق القلبي بالله تعالى وبما جاء به رسوله من قول أو فعل، والقول اللساني سبب ظهوره، وسائر الطاعات ثمرات مؤكّدة له". (البحراني، ابن ميثم، قواعد المرام في علم الكلام، تحقيق السيد أحمد الحسيني، بإهتمام السيد محمود المرعشي، نشر مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي، مطبعة الصدر، الطبعة الثانية، 1406هـ، الإيمان والكفر، ص 170).
14- ينظر: الحلي، الحسن بن يوسف، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، تعليق حسن حسن زاده آملي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، ط5، 1415هـ، المسألة الخامسة عشرة: في الأسماء والأحكام، ص 577.
15- جعفر السبحاني، الإيمان والكفر في الكتاب والسنة، ص 15. وللمزيد من الإطلاع: راجع: الشهيد الثاني، حقائق الإيمان، تعريف الإيمان الشرعي، ص 53-58.
16- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص 285.
17- نصير الدِّين الشيخ الطوسي، شرح قواعد العقائد، ص 142-148.
18- يقول الشيخ المفيد: "واتفقت الإمامية على أنّ الإسلام غير الإيمان، وأنّ كلّ مؤمن فهو مسلم وليس كلّ مسلم مؤمناً، وأنّ الفرق بين هذين المعنيين في الدِّين كما كان في اللسان، ووافقهم على هذا القول المرجئة وأصحاب الحديث. وأجمعت المعتزلة وكثير من الخوارج والزيدية على خلاف ذلك، وزعموا أنّ كلّ مسلم مؤمن وأنّه لا فرق بين الإسلام والإيمان في الدِّين" (المفيد، محمد بن محمد بن النعمان، أوائل المقالات، تحقيق الشيخ إبراهيم الأنصاري، نشر دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان، الطبعة الثانية، 1414 - 1993 م، القول في التوبة وقبولها، ص48).
19- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص 25.
20- م.ن، ص 25.
21- م.ن، ص25.
22- المازندراني، محمد صالح بن أحمد، شرح الكافي - الأصول والروضة، المكتبة الإسلامية، طهران، الطبعة الأولى، 1424هـ، ج8، ص 79.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد