مقالات

أرقى عهود الحُكم في تاريخ البشرية


الإمام الخامنئي "دام ظله" ..

... شرع رسول الله صلّى الله عليه وآله منذ اللحظة الأولى من البعثة في دخول مرحلة من الجهاد الشامل والبالغ المشقّة والمكابدة، استغرقت ثلاثةً وعشرين سنة... لقد كان جهاده صلّى الله عليه وآله وسلّم جهاداً... مع أناس لا يدركون من الحقيقة شيئاً، ومع ذلك المحيط الذي كان يعمّه ظلامٌ حالك ومطبق.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام في (نهج البلاغة) في وصف ذلك: «في فِتَنٍ دَاسَتْهُمْ بِأَخْفَافِهَا، وَوَطِئَتْهُمْ بأَظْلاَفِهَا، وَقَامَتْ عَلَى سَنَابِكِهَا». لقد كانت الفتن تهاجم الناس من كلّ جانب: حبّ الدنيا، واتّباع الشهوات، والظلم والجور، والرذائل الأخلاقية التي تقبع في عمق وجود البشرية، وأيادي الطغاة الجائرة التي كانت تمتدّ على الضعفاء بلا أدنى مانعٍ أو رادع.


إرساء قواعد النظام الإسلامي
إنّ سيرة النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم في مرحلة السنوات العشر لحاكميّة الإسلام في المدينة، تُعدّ من ألمع عهود الحكم طيلة التاريخ البشريّ، ولا نقول ذلك جزافاً، وإنّما يجب التعرّف إلى هذا العهد القصير والمليء بالنشاط، والذي له تأثيرٌ خارقٌ على تاريخ البشرية. إنّ المرحلة المدنيّة هي الفصل الثاني من عصر رسالة النبيّ، الذي امتدّ لثلاثة وعشرين سنة.
الفصل الأوّل، الذي كان مقدّمةً للفصل الثاني، كان عبارة عن ثلاث عشرة سنة في مكّة. أمّا السنوات العشر التي قضاها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في المدينة فهي تمثّل سنيّ إرساء قواعد النظام الإسلاميّ، وبناء أنموذج الحكم الإسلاميّ لجميع أبناء البشرية على مرّ التاريخ الإنسانيّ في مختلف الأعصار والأمصار. وهذا الأنموذج الكامل، لا نجد له نظيراً في أيّ حقبة أخرى.


البُعد العالمي للهجرة
لقد كانت غاية النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من هجرته إلى المدينة هي مقارعة الواقع السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ بظلمه وطاغوته وفساده الذي كان مهيمناً على الدنيا آنذاك، ولم يكن الهدف مكافحة كفّار مكّة فحسب، بل كانت القضية ذات بُعد عالميّ أيضاً.
كان النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم يتعقّب هذا الهدف، فكان يغرس بذور الفكر والعقيدة أينما وَجد الأرضية المساعدة لذلك، على أمل أن تنبتَ تلك البذور في الوقت المناسب. وكانت غايته من ذلك إيصال رسالة الحريّة والنهوض وسعادة الإنسان إلى كافّة القلوب. وذلك يتعذّر إلّا عن طريق إقامة النظام النموذجيّ القدوة. لذلك فقد جاء النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة لإقامة مثل هذا النظام النموذجيّ. لكن المدى الذي تسعى (فيه) الأجيال اللاحقة لمواصلة ذلك والاقتراب من هذا النموذج، منوطٌ بهِممها ومساعيها.


حزمٌ في لِين
امتاز سلوك النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بالتدبير والسرعة في العمل؛ فلم يدعِ الفرصة تفوت في أيّ قضية. كان صلّى الله عليه وآله وسلّم طاهراً قانعاً... معصوماً نقيّاً، وهذا بحدّ ذاته يمثّل أهم عوامل التأثير. إنّ التأثير بالعمل أوسع وأعمق بدرجات من التأثير باللسان.
لقد كان صلّى الله عليه وآله قاطعاً وصريحاً. بالطبع، عندما كان يواجه العدوّ كان يستخدم معه أسلوباً سياسياً يوقعه في الخطأ؛ فلقد كان يباغت العدوّ في الكثير من الحالات، سواء في المواقف العسكرية أم السياسية، لكنّه كان صريحاً وشفّافاً مع المؤمنين ومع قومه على الدوام، نقيّاً واضحاً... يُبدي المرونة في المواطن الضرورية، كما في قضية عبد الله بن أُبَيّ... ولم ينكث عهداً مع قومه أو مع الفئات التي عاهدها وإن كانوا أعداءً له، وخاصة مع كفّار مكّة، الذين نقضوا عهودهم فردّ عليهم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ردّاً قاطعاً...


مواجهة التوحّش بالمعرفة
إنّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بنى الخلايا الأولى لجسد الأمّة الإسلامية بِيَده المقتدرة في تلك الأيّام العصيبة من تاريخ مكّة، فبنى قواعد الأمّة الإسلامية ورفع عمادها، فكان المؤمنون الأوائل، وأوّل من اعتنق الإسلام، وأوّل من كانت لديهم تلك المعرفة والشجاعة والنورانية التي مكنّتهم من الوقوف على حقيقة الرسالة النبويّة والإيمان بها، ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ..﴾.  (الأنعام:125)
لامس الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بأنامله الرقيقة شعاع تلك القلوب الوالهة، وفتح بيده القويّة أبواب الأفئدة على عالَمٍ رحبٍ من المعارف والأحكام الإلهية، فتفتّحت الأذهانُ والقرائح، وازدادت الإرادات صلابة، ودخلت تلك الثلةّ المؤمنة - التي كان يزداد عددها يوماً بعد يوم - في صراعٍ مريرٍ لا يمكن تصوّره في المرحلة المكّية. لقد تفتّحت هذه البراعم في بيئة لم تكن تعرف سوى القيم الجاهلية، فكان يسودها العصبية الخاطئة، ويعمّها الحقد العميق، وتتصارع بين جنباتها قوى القسوة والشرّ والظلم والشهوة...
ــــــــــــــــــ
مجلة شعائر

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد