مقالات

العدالة في عهد الإمام: سمات ومقومات (3)


إيمان شمس الدين ..

التمييز:
التمييز تارة يصب في صالح العدالة، وهو تمييز إيجابي يخلق جوًّا تنافسيًّا تكامليًّا، ويدفع باتجاه التطور والنهضة، خاصة التمييز على أساس الكفاءة والمرتبة العلمية، كون الله ميز في المراتب بين الأنبياء، ولم يساوِ بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وهذا النوع من التمييز هو من فروع تحقيق العدالة.
وتارة يكون التمييز عقبة في طريق تحقيق العدالة، بل سهمًا يصيب العدالة في مقتل، وهو التمييز السلبي، الذي يضع معايير قبلية ومذهبية أو عائلية في التمييز بين فرد وآخر، ولا وجود لمعايير مثل الكفاءة والحق والأهلية، بحيث يتم التعاطي مع الفرد وفق معايير ذاتية قائمة على أسس عصبوية بعيدة عن الحق وعن منهج الله تعالى، ويحقق هذا النوع من التمييز فوضى في القيم والمعايير ويكون قاعدة لكل فساد.

فحينما يتم التمييز بين الأفراد، سواء كانوا أفراد في الأسرة، أو المجتمع، أو مؤسسات الدولة، أو في المدرسة، ويكون التمييز سلبيًّا، فإن ذلك مع التقادم سيخلق عند الذين وقع ضدهم التمييز حالة من الشعور بالغبن، وهو ما يولد شعورًا بالظلم يتعاظم إذا ما تم إنصاف هذا الشخص، وبالتالي ستغيب صفة الإنصاف، وتحضر صفة الانتقام وفق مراتبها الخاصة، حيث لكل مرتبة غبن هناك مرتبة انتقام تناسبها، وهو ما يدفع المظلوم لممارسة الظلم ذاته على من ظلمه، لتحقيق الراحة النفسية ورفع شعور الظلم، وحتى لو مارس تمييزًا مماثلًا بحق مع ظلمه، بحيث تترسخ مع التقادم معايير وقيم جديدة بعيدة كل البعد عن الحق والإنصاف والعدالة، وتدريجيًّا تنتقل هذه كعدوى في المجتمع، وتصبح مفاهيم العدل مشوهة، بحيث يجد المظلوم أن العدل هو أن تمارس نفس ما مارسه الظالم عليك، تمارسه بحق الظالم لك، ويغيب معيار الإنصاف الذي يعتبر معيارًا يعيد ميزان العدالة لنصابه حتى مع وجود بعض الظالمين، فالإنصاف يزيل الحجب عن النفس، ويعدل الشعور النفسي بالظلم، ويمنع تحوله لشعور بالانتقام، بل يضبطه ليكون شعورًا يسعى لتحقيق العدل حتى في حق الظالم.

فمثلا: إذا كان الحاكم قام بممارسة تمييزًا بين أفراد الشعب، بأن قرب فئة وأعطاها ميزات على حساب فئة أخرى لأسباب مذهبية أو قبلية أو عائلية، وقامت هذه الفئة باستخدام نفوذها في مخالفة القوانين ضد الفئة الأخرى كنوع من الهيمنة والتهميش، فإن الإنصاف يقتضي من الفئة المظلومة، من عدم السعي للانتقام، وعدم ممارسة نفس ما قامت به تلك الفئة في حال أتيحت الفرصة للفئة المظلومة مساحة للقرب من الحاكم. فإذا اخترقت الفئة المقربة من الحاكم قوانين وظلمت بهذه القوانين الفئة المهمشة، فإن ذلك يستدعي من الفئة المهمشة وفق قاعدة الإنصاف، أن تعيد ميزان العدالة لوضعه الطبيعي، وأن لا تستخدم الأدوات المنحرفة التي استخدمتها تلك الفئة لإعادة حقّها، والدفاع عن الحق واسترداده لا يبرر استخدام نفس أدوات الظالم أو لا يبرر ظلم الآخرين بحجة استرجاع الحق، كون الحق لا يسترد بالظلم، أو للانتقام من تلك الفئة، بل عليها أن تعيد ميزان الحق والعدالة لينعم الجميع بها، ولمواجهة الفساد والتقليل من انتشاره.
لذلك يعتبر التمييز السلبي على مستوى من الخطورة بحق تحقيق العدالة، لآثاره النفسية والاجتماعية، وتغييبه معيار وقيمة الإنصاف، وبغيابها تحجب النفس عن الحق والعدالة، وتوجه إلى حالة الانتقام المتبادل الذي يغرق المجتمع بالظلم والتفرقة ويشتت جهوده ويشيع الفساد، ويكرس وجود الظالم، ويغيب مبدأ التوحيد على المستوى العملي، وإن بقي مرتكزًا نظريًّا في النفس، لكنه معطل عمليًّا فلا يحرز الأثر المرجو منه.

بينما الإنصاف معيار يعيد نصاب الأمور إلى ميزان العدل والحق، ويمنع تفاقم الفساد، وتوسيع الهوة بين الأفراد والمجتمعات، ويعيد نصاب النظم وفق أسس سليمة في المجتمعات وفي المؤسسات والأسر.
إن إحراز العدالة النفسية وحضور قيمة الإنصاف التي هي قلب العدالة، يمنع انتشار الأمراض في النفس وفي المجتمع، فهو يمثل ضابطة للحاكم من جهة، وضابطة للمحكومين، ويعلي من منسوب الرقابة لكل جهة على الجهة الأخرى، وفق معيار الحق والباطل، بحيث يخرج من دائرة المعيارية كل أنواع الشخصنات مثل القداسات النابعة من المواقع والانتماءات، والعصبيات وكل نفوذ وظيفي أو موقعي يعمد إلى تجيير نفوذه لصالحه أو من ينتمي إليه. بالتالي هو يذيب الحواجز والهواجس، ويبني جسورًا للتواصل والتواصي بالحق، لأجل تحقيق العدالة الشاملة.


خلاصة ورؤية:
- إن إشكالية مجتمعنا اليوم هو غياب العدالة، وحضور التمييز السلبي بكل أشكاله، ووهذا دفع بالكثيرين إلى غياب قيمة الإنصاف على مستواهم العقلي والنفسي وبالتالي السلوكي، ومن ثم إشغال المجتمع بخلافات بينية بعيدة كل البعد عن الإشكاليات الحقيقية وملفات الفساد.
- غياب المرجعية المعيارية وفق مبدأ الدليل والحق والباطل، وحضور القداسات الشخصية والانتماءات القبلية والمذهبية كمرجعية معيارية، وبالتالي الانشغال بصراعات لا تنجز شيئًا غير الفرقة والكراهية وتقسيم المجتمع، وأخطر آثارها تقويض بنى الدولة، وتكريس الاستبداد، وتغييب العدالة واستحضار كل أنواع الغرائز وحضور مبدأ التوحيد على مستواه النظري أو كفرة عابرة، وغيابها على المستوى العملي بما يعيد مبدأ العبودية بأشكال مختلفة.
- عدم قيام المعنيين من النخب من كافة الطبقات بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفق معيار الحق لا المصلحة، وهو ما يكرس من الفساد باسم المصلحة ويشرعنه بحجج نفعية ذاتية آنية يسبب فسادًا متراكمًا على المدى البعيد يضر ببنية المجتمع ككل.
- انقياد أغلب النخب لرغبات ومطالب الجمهور حتى لو كانت خلاف الحق والعدل، مع عدم وجود وعي واقعي وموضوعي عند أغلب طبقات الجمهور، بل تحول الجمهور لنظرية مزرعة البصل، كلهم رؤوس.
- عدم امتلاك منهجية معرفية في تقصي الحقائق وامتلاك المعرفة، والاعتماد غالبًا على الشائعات في اتخاذ المواقف، مما يدخل المجتمع دومًا في رياح الفتنة، ويشغل المجتمع بشائعات تستنفذ طاقته فيما لا يجب، ويسهل تمرير مشاريع سلطوية بعيدًا عن الرقابة والمحاسبة، فغياب معايير قيمية على رأسها العدالة، من خلال مصادرة الحريات وممارسة شتي أنواع التمييز السلبي يؤدي إلى الفوضى المعرفية والحكمية.


رؤية مقترحة:
- تفعيل العمل المدني التوعوي القائم على توعية الأفراد والمجتمع على حقوقه، وعلى أهمية مبدأ العدالة الاجتماعية، ونشر وعي حقوقي يمكّن الشعب من ممارسة دوره في تصحيح مسار النخب والسلطة.
- تفعيل مبدأ الإنصاف لتفويت الفرصة على محاولات تقويض القانون وخلق فجوات بين مكونات المجتمع وقطع جسور التواصل والوحدة. من خلال مبدأ الحق لا يسترد بالظلم. ومبدأ ادفع بالتي هي أحسن، وتفعيل قاعدة ولا يجر منكم شنآن قوم ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى، وهذا يفترض أن تقوده النخب من خلال المبادرات إلى تفويت الفرص على الفتن المتنقلة، ومواجهة كل أنواع الإنحرافات والفساد الذي يقوض مبدأ العدالة ويستخدم أدوات ظالمة في حق المختلفين معنا حتى لو قاموا هم باستخدامها في حقنا، ولا يكون ذلك إلا بتصدي النخب لتوعية الناس بكافة الوسائل المتاحة.
- تحديد الأولويات التي على النخب والشعب الانشغال بها لتحقيق العدالة، وهو ما يتطلب عمل ورش توعوية حول ذلك تمكن الشعب من فهم الواقع كما هو لا كما يروج له.
- مد جسور التواصل والحوار مع الجميع ووضع قاعدة مشتركات بين الجميع أساسها العدالة والمساواة.
- كشف رعاة الفتن كشفًا توثيقيًّا أمام الشعب، وتشكيل وحدات عمل تتحرك في المقار الانتخابية في وقت الانتخابات مهمتها كشف مدعي الإصلاح وتوعية الناس.
- تفعيل مبدأ التشبيك بين النخب وبين المؤسسات الفاعلة ووضع برنامج تقويمي لمسار العمل السياسي والاجتماعي.

الإنصاف عين العدل والحرية المنضبطة علة غائية لتحقيق العدل، والعدل بوابة لازمة لتحقيق الكرامة الإنسانية.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد