مقالات

حديث رمضان


الشيخ محمد جواد مغنية

لقد غيَّر العلم فَهْمَ الإنسان لحقيقة الحياة، وقضى على كثير من التقاليد والمعتقدات، قضى على المعتقد الذي أقام الخرافة مقام العلم، والأحلام مقام الملموس والمنظور، وفسَّر الطبيعة وحوادثها بأشياء لا تَمُت إليها بسبب. فسّر المرض بلمس الجنّ، فعالجه بالرقى والتعاويذ، ونَسَبَ الفقر إلى القَدَر، فأوجب الاستسلام له والانقياد، وأسند سلطة الحاكم إلى اللّه، فأمر الناس بالسمع له والطاعة. هذه هي العقيدة التي ناصرها الظلم، وقاومها العلم، ودعمها الإقطاع، وكذبها الوعي، ودللها الاستعمار وخنقها التطور .
أمّا الدّين الذي يحارب الخرافات والأوهام، ويدعو إلى تفسير الطبيعة بأسبابها، ويتصل بحياة الإنسان مباشرة، ويهدف إلى أن تكون الفضيلة عملاً مجسماً يحسّه ويشعر به كُلّ فرد فأنّه يسير مع العلم جنباً لجنب حليفين متناصرَين، وهل يحارب العلم ديناً أساسه الدعوة إلى العلم، وحدّه العدالة والمساواة، وهدفه سعادة الإنسانية ورفاهيتها؟ إنّ مثل هذا الدّين يرفع الإنسان إلى مستوى أعلى، فقد رفع الإسلام قبائل العرب المتوحشة إلى أقصى ما يمكن أن يصلوا إليه من التقدم والحضارة في ذلك العهد، وهذا التاريخ طبع كثيراً من الحضارات بطابع الدّين وسماته، فوصف هذه بالحضارة الإسلامية، وتلك بالحضارة المسيحية، وثالثة بالحضارة البوذية، ولو كان العلم يعاند الدّين لما كان للحضارة الدينية في التاريخ ذكر، وللكنائس ورجالها في أميركا وأوروبا عين ولا أثر في هذا العصر الذي يجري فيه تيار العلم بأقصى ما يجري تيار في جميع العصور .

يتبين من هذا أنّ العلم لا يعاند اللاهوت، وأنّ عدوّ اللاهوت هو اللاهوتي الذي يفسر الطبيعة بالخيال والوهم، ويتخذ من أقوال السلف برهاناً على الحقيقة، ولو كذبتها التجربة والعيان، ويحاول إِقناع الناس بأنّ دينه خير الدّين، وأنّ طائفته تسعد غداً في جنات النعيم، وسائر الطوائف تشقى بنار الجحيم .
ليس الدّين ذلاً ولا انكساراً وزهداً في الحياة وملذاتها، ولا صلاة وصياماً يذوب له الصائمون، إنّ الصلاة رمز إلى إيمان المصلي، إيمانه بحقّ الإنسان وخالقه، وتعبير عن حبه للنظام الذي يحقق الحرية والرخاء للجميع، وأنّه يتقبل هذا النظام، و يحافظ عليه، ويخضع له بمحض إرادته واختياره. فالصلاة الصحيحة هي ما ينتهي بها المصلي، ويتورع عن كُلّ ما فيه ضرر لنفسه ولغيره، ويأتمر ويفعل كُلّ ما فيه الخير والصلاح له وللمجتمع، وبهذا نجد تفسير الآية الكريمة: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَر ).
أمّا الصيام فقد أمر به الإنجيل قبل أن يأمر به القرآن: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) وليست الحكمة من وجوب الصيام أن يتذكر الصائم الجائعين، فيحسن إليهم. ويتصدّق عليهم بالقرش والرغيف - كما قيل – و لو كانت هذه فائدة الصيام لوجب الصيام على الأغنياء دون الفقراء، ولكان حقاً على اللّه أن يسلط على الناس حاكماً ظالماً يظلمهم، ويستعبدهم ليتذكروا المظلوم، وينتصروا له من الظالم .

إنّ قول اللّه سبحانه: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) إشارة إلى أنّ الحكمة من وجوب الصوم، وامتناع الإنسان عن طعامه وشرابه – وهما في بيته ومتناول يده - أن يضبط الصائم نفسه بوازع يردعه عن استغلال الناس واستثمارهم، والتعدّي على طعامهم وشرابهم . أن يدرك عملاً لا قولاً إنّ إطلاق العنان لأنانيته وأهوائه يجعل أقوات الناس ومقدراتهم رهناً بمقدرته على الاحتكار واللعب بالأسواق، وبمهارته في فنّ الغشّ والتدليس، وفي ذلك خطر كبير عليه وعلى المجتمع. أن يدرك أنّ حرية الفرد واستقلاله ومصالحه - مهما بالغنا في احترامها - هي دون حرية المجتمع واستقلاله ومصالحه . أنّ الحرّ فرداً كان أو مجتمعاً هو من لا يَسْتَغِل ولا يُسْتَغَل، لا يَستَعبِد ولا يُستَعبَد. وبالتالي أن يُهيِّئ الصائم نفسه بنكران ذاته، وكبح شهواته ليكون عضواً صالحاً في مجتمع يسير في سبيل النجاح والازدهار .

إنّ الدّين أمر بالصوم تحدياً للجوع والعطش، لا رغبة في الجوع والعطش، تحدياً للأهواء التي تفرض على الناس ضريبة الجوع والعطش، وتعيق سير التقدم بجشعها الذي لا يقيد بقيد، ولا ينتهي إلى حدّ. قال الرسول الأعظم محمد بن عبد اللّه (صلى الله عليه و آله): (الصائم من يذر شهوته وطعامه وشرابه، لأجل اللّه سبحانه)، وقال: (كم من صائم ليس له من صيامه إلاّ الجوع والعطش). أجل، لأنّ صيامه لم يَحُد من طمعه، ولم يَرقَ به إلى احترام الحياة، والإيمان بحقوق الإنسان. وجاء في بعض الأدعية التي يتلوها المؤمنون في شهر رمضان المبارك: (اللهم ارزقني الجدّ والاجتهاد، والقوة والنشاط لما تحبّ وترضى ... والوجل منك، والرجاء لك والتوكل عليك، والثقة بك، والورع عن محارمك)، إنّ الخوف من اللّه سبحانه، والورع عن محارمه، والنشاط لما يرضيه، كُلّ ذلك، إنّما يكون بالتحرر من عبودية الهوى، وحبّ السيطرة والاستئثار، والبعد عن الكسل والخمول، عن سبيل الذين يقامرون بقرش الفقير، ورغيف البائس، ولا عمل لهم سوى الانتقال من مقهى إلى بار، ومن ملهى إلى حانة، إن اللّه لا يحبّ ولا يرضى عن مجتمع لا يجد ويجتهد، ولا يكافح ويناضل في سبيل حياة أرقى وأبقى، ولو ملأ الشوارع بالكنائس والجوامع، والفضاء بالأجراس والأذان، إنّ المجتمع الذي يحبه اللّه ورسوله، ويحبّ اللّه ورسوله هو الذي لا ترى فيه إِلاّ عاملاً في مصنع، أو زارعاً في حقل ، أو راعياً على منحدر جبل، أو سمّاكاً يجذب شباكه، أو فناناً يرسم على لوحة، أو طبيباً في عيادة، أو عالماً في مختبر، أو أديباً ينقد الأوضاع .

إنّ مثل هذا المجتمع خليق بأن يعبد اللّه مخلصاً له الدّين والصلاة والصيام .

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد