مقالات

علم الإمام علي بن أبي طالب


الشيخ محمد جواد مغنية

كان مظهر الحياة الفكرية عند العرب قبل الإسلام اللغة، والشعر، والأمثال، والقصص، ومعرفة الأنساب. وبعد الإسلام والقرآن تطورت الحياة الفكرية والمادية، وتعددت العلوم، وأصبح كل ما أشار إليه القرآن من قريب أو بعيد علماً مستقلاً، ولم يتعرض الإسلام للعقائد والأخلاق والعبادات فحسب، بل تعرض أيضاً للتشريع، والقضاء، والكون وعلاقة الناس بعضهم ببعض .
وكان من نتيجة تعرّض الإسلام للحياة الدنيوية أن آمن المسلمون بمبدأ عام، وهو أن الدين مبدأ التشريع، وحدا بهم هذا الإيمان أن يتخذوا من الدين أساساً لحياتهم الفكرية بشتى فروعها وشعبّها، وأن يبحثوا عن إرادة اللّه وقصد الرسول في كل مسألة تعرض لهم، سواء أ كانت دينية أم دنيوية، لأن الدين إذا كان مصدر الهداية فيجب أن يكون مصدراً من مصادر المعرفة أيضاً. وقد رافقتهم هذه الظاهرة في جميع أدوارهم، ولن ينسوها بعد أن اتصلوا بالفلسفة اليونانية والأمم المتحضرة. لم تكن الفلسفة معروفة في صدر الإسلام، ولما عرفها المسلمون فيما بعد انحرفوا بها إلى الدين، وأوضح مثال على ذلك علم الكلام والتوحيد، فإنه فلسفي في صورته دينيّ في مادته .
وليس من غرضنا الآن أن نترجم لكل إمام من أئمة آل البيت ونبيّن منزلته من العلوم، وإنما غرضنا الأول أن نقدّم صورة لعلومهم على وجه العموم، وخير مثال لذلك علم الإمام علي وحفيده جعفر الصادق. فقد ذاع علمهما وانتشر. وظهر أثره في المؤلفات والمدارس الإسلامية أكثر من علم غيرهما من الأئمة. على أنه إذا استطعنا أن نصوّر علم هذين العظيمين أمكننا أن ندرك من خلاله مدى علوم سائر الأئمة، لأن كل إمام كان يأخذ العلم عن أبيه إلى أن تنتهي السلسلة إلى الرسول الأعظم، كما قال الشيخ أبو زهرة في كتاب الإمام الصادق .

كان الإمام علي بن أبي طالب عالماً بأمور الدين والدنيا التي تعرض لها القرآن والسنة. ولم يخف عليه شيء يمتّ إلى الإسلام بسبب قريب أو بعيد، بل رُوي عنه أنه قال: "لو ثنيت لي الوسادة لأفتيت أهل التوراة بتوارتهم، وأهل الإنجيل بإنجيلهم، وأهل القرآن بقرآنهم". وعلمه هذا نتيجة لطول صحبته مع الرسول، فقد ضمّه إليه وهو طفل، وبقي في كنفه بعد النبوة، إلى أن لحق النبي بالرفيق الأعلى. وأسلم حيث لا يوجد على وجه الأرض مسلم إلا محمد وزوجته خديجة . واهتم النبي بتنشئته وتربيته، واتخذه أميناً لسره، واصطفاه لعلمه، وكان كاتبه وشريكه في نسبه وزوج ابنته، وأبا ريحانيته الحسن والحسين، وأخاه حين آخى بين المسلمين، وبديله على فراشه حين همّ المشركون بقتل من يبيت في الفراش. واستخلفه على ما كان عنده من ودائع لما هاجر من مكة إلى المدينة، كما استخلفه على المدينة يوم سار إلى غزوة تبوك، وقال له: أنت مني بمنزلة هارون من موسى. وولاّه القضاء في اليمن، وبلغ عنه سورة "براءة". وشهد مع النبي مشاهده كلها. بل كان علي نفس النبي كما نطقت بذلك الآية 61 من سورة آل عمران : ﴿ ... فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴾  .  فقد أجمع المفسرون على أن المراد بأبنائنا الحسن والحسين، وبنسائنا فاطمة، وبأنفسنا النبي وعلي. وقال النبي: "علي مني وأنا من علي . . . عليّ مع الحق والحق مع علي. . . علي ربَّانيُ هذه الأمة . . . من كنت مولاه فعليّ مولاه"، إلى غير ذلك من الفضائل التي قال عنها طه حسين في كتابه "علي وبنوه": "إن علياً كان أهلاً لها ولأكثر منها، ويعرفها له خيار المسلمين، ويؤمن بها أهل السنّة كما تؤمن بها شيعته ".
هذا، إلى عقل يتسع لكل شيء، وفراسة لا يكاد يخفى عليها شيء، وحكمة هي الحقيقة والواقع الملموس وبلاغة ليس فوقها إلا بلاغة القرآن. إن هذا العلم والعقل وهذه الحكمة والبلاغة قد جعلت من الإمام ترجماناً للتشريع ومرجعاً في جميع العلوم الإسلامية، وقدوة لكل مذهب من مذاهب المسلمين. لم يكن للمسلمين علوم مدوّنة في عهد الإمام، ولما صار لهم علوم منظمة، لها أبواب وفصول، ووضعوا الكتب في الفقه، والأصول والتفسير والحديث، وعلم الكلام والتوحيد، والأدب وتاريخه، والبلاغة، وفي المذاهب والفرق، وما إلى ذلك استعان بنور علمه وحكمته كل عالم ومؤلف، و احتج بقوله وبلاغته كل أديب وكاتب .

كان علي عالماً بالأصول والأنظمة التي قررها القرآن والرسول، والتي تحقق للناس الرخاء والهناء فحرص عليها، وأمر عماله بالعمل بها.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد