إيمان شمس الدين
الموقف الخطابي:
"يعد مصطلح الموقف الخطابي The Rhetorical Situation مصطلحًا محوريًّا في النظريات الخطابية الحديثة، ويشير إلى مزيج من الأشخاص والأحداث والموضوعات والعلاقات التي تشكل ضرورة واقعة بالفعل أو محتملة الوقوع.. ضرورة يمكن التصدي لها بشكل كامل أو جزئي إذا ما تم الاستعانة بالخطاب . وقد تتعلق الضرورة الداعية للخطاب بشخص أو مجموعة أشخاص، أو مجتمع، أو ربما بعدة مجتمعات، وعلى الرغم من أن البعض يُخرج الاتصال الشخصي من دائرة الاتصال الخطابي فإن "للويد بيتزر" نفسه يدخله ضمن الاتصال الخطابي كما نحا ذلك المنحى كثيرون غيره شريطة أن يكون هدف هذا الاتصال إحداث تأثير متعمد في سلوك المتلقي... إن هدف عملية الاتصال الخطابي هو معرفة الحق، أي تلك المعرفة التي تقوم على البرهان، وليس الظن، فإدراك الغايات التي جاء بها الإسلام ليحققها على نحو كامل، لن يصبح أمرًا ممكنًا إذا ما كان الظن هو السيد في الخطابات التي تطرح في فضاء المجتمع الإسلامي، وذلك لأن أي خطاب يطرح على أسس ظنية إذا حقق جانبًا من هذه الغايات أخفق في جوانب أخرى. وإذا ما تعذر الوصول إلى الحق في أمر ما من الأمور فينبغي لمنشئ الخطاب أن يعلن أن ما يطرحه هو مجرد ظن واحتمال وليس يقينًا وإلا كان طرح هذا الظن على أنه حق، نوعًا من الخداع والغش لمتلقي هذا الخطاب.. وهو أمر لن يمر عند الله تعالى دونما عقاب. "
فموقع الخطيب ومضمون الخطاب والهدف منه، والمُرسَل إليه وآليات الخطاب كلها مجتمعة عوامل يجب أخذها في الحسبان في التأسيس لأي خطاب في الوسط الإسلامي، على أسس تأخذ بعدين:
ـ بعد الهوية الخاص، ونعني به الإسلام.
ـ بعد الهوية العام، ونعني بها الإنسانية.
حتى بعد العولمة وتطور وسائل الاتصال واتساع مساحتها، وانفتاح الدول على بعضها البعض وكذلك المجتمعات، فإن هذا الانفتاح سيلعب بلا شك دورًا محوريًّا في تطوير الخطاب وتنضيجه، لكنه يجب أن لا يلغي الهوية الخاصة لكنه يلعب دورًا هامًّا في تنضيجها وتشذيبها.
فلم يعد مقبولًا من الناحية العقلية، أن يكون الخطاب تحت شعار الحفاظ على الهوية موغلًا في القدم وغارقًا في الخرافات والأساطير وفي الكلام المرسل، كذلك ليس مقبولًا من الناحية العقلية تحت شعار الانفتاح ومواكبة التطورات، أن يكون الخطاب منكرًا للهوية الخاصة، بل ناسفًا لها بحجة التجديد.
أهمية الخطاب:
يلعب الخطاب دورًا بارزًا في صناعة وعي الجمهور المُخاطب، وتنشيط الأبعاد التصورية الذهنية، بل صناعة تصورات جديدة تشكل قاعدة بيانات لصنع معارف في حال تكاملت قاعدة البيانات التصورية بالأدلة وشكلت تصديقات، لها دور كبير في توجيه السلوك البشري.
فاللغة وسيلة من وسائل الفعل وليست أداة للتأمل ،وهي أداة لوصف الواقع ، وهو ما يتحقق عبر المقولات الخبرية التي تخضع لمعيار الكذب والصدق حسب مطابقتها لما تخبر عنه مع عدم ذلك، وهو المعيار الوحيد الذي يحكم الجمل والمقولات .
أما الجمل التي لا تصف ولا تخبر فهي من قبيل العبارات التي لا معنى لها .
فاللغة حسب الفيلسوف الإنجليزي جون لانجو أوستن، أداة لبناء العالم والتأثير فيه، وليست مجرد وسيلة للوصف فقط، فثمة الكثير من الجمل لا يمكن أن توصف بصدق ولا بكذب ومن ثم فهي لا تصف شيئًا وإن كان شكلها لا يختلف عن شكل الجمل الخبرية (الوصفية) وبنيتها، لكن لها معنى وأهمية بالغة الخطورة في العالم، يعد مجرد التفوه بها حدثًا أو جزءًا من حدث، ويمثل لها بالجمل الآتية:
قول الرئيس: "أعلنت الحرب".
أنا أسمي هذه الباخرة الملكة إليزابيث .
والكلام أو المقولات لها بعد إنجازي، بمعنى أنها تكتنز أفعالًا ويعتبر النطق بها هو إنجازًا لفعل أو إنشاء لجزء منه.وهو ما تم بحثه في باب الخبر والإنشاء لدى العلماء خاصة في حوزة النجف .
فقد شخص العلماء أن النمط المقابل للإخبار هو إنشاء، وهو المعادل الموضوعي لنظرية أفعال الكلام عند أوستن. والإنشاء هو الإيجاد والإحداث، قال تعالى " إنا أنشأنهن إنشاء"/ الواقعة (٣٥)، أي إنا أوجدناهن وأحدثناهن . وقد عبر أوستن عن الوظيفية الفعلية التي يؤديها الكلام ب " أفعال الكلام"، فالكلام حسب رأيه هو نوع من الفعل . وقد ميز الله تعالى في آياته الكريمة بين الكلام النافع والأفعال النافعة وبين غيرها من خلال تأسيس قرآني لطيف كان محوره كلمة هي " اللغو".
نظرية اللغو في القرآن وتأسيس الخطاب التواصلي:
وردت كلمة اللغو في القرآن في عدة آيات هي:
١. لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ
البقرة/ ٢٢٥
٢. اَنما يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
المائدة/ ٨٩
٣. وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ
المؤمنون/٣
٤. وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا
الفرقان/٧٢
٥. وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ
القصص/٥٥
فاللغو بحسب تفسير صاحب الأمثل في تفسير القرآن الشيخ ناصر مكارم الشيرازي هو : يشمل كل عمل لا ينطوي على هدف عقلائي.
تدور لفظة اللغو حول أسس مهمة تكتمل فيها غالبًا نظرية اللغو القرآنية والتي تتعلق في وجه من وجوهها باللغة والخطاب وسنفصل ذلك لاحقًا، لكن أهم الأسس التي يدور حولها مصطلح اللغو القرآني والتي يمكن استلهامها من الآيات التي ورد فيها هذا المصطلح وهي:
١. اللغو يشمل الألفاظ والأفعال.
٢. يفتقد إلى الهدفية.
٣. يفتقد إلى العزم في النية، فهو عبث فكونه بلا نية عمل فهو بالتالي بلا هدف وبالتالي يعتبر عبثًا.
٤. يعتبر اللغو من مصاديق الباطل والكذب.
٥. يعتبر اللغو من مصاديق اللهو وهو من مصاديق الأقوال والأفعال الهادرة للوقت بلا فائدة.
٦. اللغو من مصاديق الجهل.
٧. اللغو من مصاديق الخرافة.
٨. المؤمن لا يمارس اللغو بكل أشكاله، ولا يتوقف عنده بل يتعداه دومًا إلى العمل الجاد الهادف المنجز.
هذه أهم الأسس التي يمكن استقراؤها من مصطلح اللغو القرآني وفق وروده في سياق الآيات السابقة. وقد يكون لذلك مدخلًا مهمًّا لتأسيس الخطاب المتزن، كونه يوضح معالم اللغو في الفعل والكلام، وأغلب صفات اللغو، وهو ما يدفع لتأسيس خطاب لا يمكن أن تنطبق عليه مواصفات اللغو القرآنية، حتى يكون خطابًا متزنًا مضمونًا وهدفًا ورسالة، وبعيدًا عن أي لغو. هذا فضلًا عن ابتعاد الخطاب عن كل ما اعتاده المجتمع من لغو، كالجهل والخرافة والخوض في الباطل وتضييع الأوقات فيما لا يجب واستنزاف العقول في التفاهات التي لا هدف فيها وتعتبر من العبث في عقول وقلوب الناس، بل إن الخطاب عليه أن يبتعد عن كل قيود اجتماعية غير عقلانية مارسها المجتمع نتيجة إما تقصيره أو قصوره في فهم الواقع والحقيقة، ونتيجة انغماسه في كل مصاديق اللغو.
فاللغو هدر لطاقات العقل فيما لا يجب، ومشتت لطاقات الإنسان ومقيد له عن التكامل، بل هو حاجب غليظ على عقله عن رؤية الحقيقة والواقع كما هو، ومشوشًا لبصيرته، فأي خطاب يمكن أن يمارس ويحقق في عقل الإنسان ما يقوم به اللغو وما ينطبق عليه مصاديق اللغو، فهو بالتالي من اللغو.
وهو ما يؤكد على أهمية دراسة مقامات الخطاب وخلو الخطابات من كل مصاديق ومقومات اللغو، بل ضرورة دراسة الخطيب للبيئة المخاطبة والأخذ بالحسبان ما يجب أن يقال وما لا يجب، وكيف يقال، وقبل كل ذلك لماذا يقال. وإضافة إلى ما سبق هناك نقطة محورية مهمة في الخطاب وهي صدق المضمون وعلميته من حيث برهنته بالأدلة، وعدم كونه مجرد ظنون ونقولات لا دليل عليها، أو مجرد مجموعة أفكار وعقائد موروثة لم يتم تمحيصها. وهو ما يتطلب من الخطيب الارتقاء بمضمون خطابه ومحتواه من الشعبوية إلى الموضوعية والعلمية.
وكلما كانت شخصية الخطيب لها رمزية اعتبارية في المجتمع، وتأثير حقيقي وكبير في سلوك جمهوره، كلما باتت الحاجة أكثر لضرورة التأسيس لخطاب يأخذ في الحسبان كل ما يمكن من شأنه أن يؤثر في وعي وسلوك الجمهور، وأقصد مضمون الخطاب اللفظي، ومقامات الألفاظ، وبيئة المخاطب والمشاكل التي يعاني منها الجمهور في ذلك المجتمع، بل المضمون النفسي لتركيبة المجتمع والجمهور المخاطب. وكل هذا كي يكون الخطاب محفزًا لتحقيق الوعي والتغيير، خاصة إذا كانت المناسبة التي يلقى فيها الخطاب، مناسبة ذات أهمية كبيرة في ثقافة وهوية الجمهور، ولها ثقل في صناعة وعيه وتوجيه سلوكه.
فإذا اجتمعت موقعية الشخصية المُخاطِبة ورمزيتها، مع محتوى الخطاب وما يحويه من فعل كلامي أو إنشاءات، فإن ذلك يحدث تأثيرًا عميقًا في وعي الجمهور، وفي نوعية الأفعال المنجزة من قبله، أي هو توجيه مباشر للسلوك عبر مجموعة الأفكار التي يتم صياغتها عبر الأفكار، لتشكل بنية فكرية تكتنز توجيهات عمل غير مباشرة، وسلوك اجتماعي جمهوري مُوَجَّه من قبل الخطيب.
Lioyd Bitzer,Op.cit, p.6”1”
“2”ص ١١٤،١١٣،١١٢نظرية الخطاب الأسلامي/ قراءة علمية تأسيسية، محمود يوسف السماسيري،
“3” ردة الله بن ردة بن ضيف الله الطلحي، دلالة السياق ص ٢٢٣
“4”فيليب بلانشيه، التداولية من أوستن إلى غوفمان، ص٥٤
“5” الأبعاد التداولية عند الأصوليين، مدرسة النجف الحديثة أنموذجا، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، فضاء ذياب غليم الحسناوي، ص ٤٧
“6” هشام عبد الله خليفة، نظرية الفعل الكلامي، ص٤٠
“7” مصدر سابق ص ٤٧
“8” مصدر سابق، ص ٤٨
“9” محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن ج ١٩، ص ١٢٨
“10 الأبعاد التداولية عند الأصوليين، مدرسة النجف الحديثة أنموذجا، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، فضاء ذياب غليم الحسناوي، ص٨٤
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان