الشيخ محمد جواد مغنية
تعرضت كتب التاريخ و التراجم لسيرة الملوك و الأمراء ، و قادة الجيش ، و لم تتعرض بالذات لحياة الفقراء الكادحين ، و مع ذلك فباستطاعة الباحث أن يتعرف على حياة الجماهير من خلال دراسته لحياة القادة و الحكام ، لأن حياة هؤلاء و تاريخهم يرتبط ارتباطاً تاماً بالحياة الاجتماعية و تاريخ المجتمع على أن المؤرخين و أصحاب السير قد ترجموا لعدد كبير من الشعراء و رجال الدين و علماء اللغة الذين عانوا آلام البؤس و الشقاء ، ترجموا لهم لأنهم من أهل الذكاء و المعرفة ، لا لأنهم من ذوي الفقر و الفاقة ، فمن هؤلاء :
عبد الوهاب بن علي المالكي كان بقية ذوي الفضل ، و قد ضاق به العيش في بغداد فهجرها ، و لدى خروجه شيَّعه خلق كثير من سائر الطوائف ، فقال لهم : لو وجدت بين ظهرانيكم رغيفين في كل غداة ما عدلت ببلدكم بلوغ أمنية .
و منهم الاخفش الصغير علي بن سليمان النحوي عاش أياماً على اللفت النيء حتى انتهت به الحال إلى أن مات جوعاً .
و منهم الخليل بن أحمد النحوي العروضي الشهير كان يقيم في خص من أخصاص البصرة لا يقدر على فلسين ، و الخص خيمة من القصب .
و منهم أبو الطيب الطبري طاهر بن عبد اللّه ، كان شيخ الشافعية في عصره و بلغ من العمر مائة و ستين سنة صحيح العقل و الفهم و الأعضاء ، يفتي و يقضي و يدرس ، كان له و لأخيه عمامة و قميص ، إذا لبسها هذا جلس الآخر في البيت و إذا أراد غسلها جلسا فيه معاً ، و في ذلك قال الشاعر :
قوم إذا غسلوا ثياب جمالهم *** لبسوا البيوت إلى فراغ الغاسل
و منهم السيرافي النحوي الحسن بن عبد اللّه ، كان ينسج و يأكل من كسب يده ، و منهم الشيخ أبو حامد الأسفرايني ، قيل في سيرته : انه إمام المذهب على الإطلاق و شيخ الإسلام و المسلمين قاطبة ، و كان يحضر مجلسه ثلاثمائة متفقه ، كان هذا الشيخ يشتغل حارساً في الليل لبيوت الناس ، و يقرأ و يطالع على ضوء فانوس الحرس .
و منهم الزبيدي محمد بن يحيى تزيد مصنفاته على مائة تصنيف في شتى العلوم و الفنون ، و قد بلغ به الفقر و الجوع أن يضع نواة في حلقه يلوكها ليتعلل بها .
و منهم عبد القادر السهروردي كان يبقى اليوم و اليومين لا يذوق الزاد ، و كان ينقل الماء بالقربة بأجر زهيد .
و كان الشهيد الثاني زين الدين العاملي على علمه و مكانته ينقل الحطب على ظهره إلى أهله لعجزه عن أجرة الخادم .
و باع الشيخ عبد المحسن الصوري عمامته ليشتري بثمنها قوت يومه ، و يكفي هذا العدد اليسير مثالاً لحياة قادة الفكر و أئمة الدين و اللغة البائسين ، و تمهيداً لبيان فكرة الزهد و أسبابها .
عاش الخليل في خص من القصب لا يملك فلسين ، و اشتغل شيخ الإسلام و المسلمين حارساً ، و مات الأخفش من الجوع ، عاش هؤلاء و أمثالهم في الحرمان و هم يرون أن الأموال تجبى من العامل و الفلاح و غيرهما في شرق الأرض و غربها ليبذرها الخونة و المقامرون على الحرام و الفسوق ، و يمتلكون بها الدور الشاهقة و الضياع الواسعة ، و كان من نتيجة هذا الوضع الشاذ أن تراكم السخط و الاستياء في نفوس الشيوخ المحرومين من الذين قدمنا ذكرهم ، و الذين لم نأت لهم على ذكر ، و عوضاً عن أن يحملهم هذا الاستياء على النضال و جهاد القائمين على الظلم ، فقد انقلب في نفوس الكثير إلى يأس من الإصلاح ، و تبدل الحال و تولد من هذا اليأس فكرة الزهد في الحياة الدنيا ، و التهوين من شأنها . و كان لهذه الفكرة خطورتها و تأثيرها في الحياة الاجتماعية بين المسلمين ، فكتب علماؤهم في الزهد و أطالوا ، و دعوا إليه في المساجد و المحافل ، و ألبسوه ثوب الدين و القداسة ، و الزهد بمعنى الإعراض عن طيبات الحياة ليس له مصدر في الكتاب الكريم ، و لا في السنة النبوية ، و إنما انعكس في أذهان البائسين من فقرهم و فاقتهم ، إن أفكار الإنسان و رغباته لا تأتيه عفواً ، و لا تهبط عليه من السماء ، و إنما تتولد من واقع حياته ، و الظروف التي تحيط به .
و لولا وجود الفقراء المعذبين في الأرض ، لولا الطمع و ظلم الإنسان للإنسان ، لو طبق مبدأ التعاون الأخوي ، و المساواة دون اعتبار لطبقة أو فرد ، لما عرف الناس معنى الزهد ، و لما كان للفظه في قواميس اللغة عين و لا أثر ، و يكفي للدلالة على هذه الحقيقة زهد الإمام علي عليه السلام ، و أبي ذر ، و غيرهما من أنصار الحق ، و دعاة العدالة .
قال الإمام : هيهات أن يغلبني هواي ، و يقودني جشعي إلى تخير الأطعمة ، و لعل في الحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ، و لا عهد له في الشبع .
و قال أبو ذر : عندما خصه عثمان بمبلغ من المال لا أقبل عطاء لا يعُمُّ كل معوز .
أعرض الهداة المتقون من الزهاد عن متاع الحياة و طيباتها لا رغبة عنها ، بل احتجاجاً على من استأثر بها ، و احتكرها لنفسه دون سواه . أرادوا أن تكون الحياة و خيراتها للجميع ، أرادوها اجتماعية عامة لا فردية خاصة ، أرادوا القضاء على الفوارق و الامتيازات ليعيش الجميع في أمن و سلام ، فلا تكالب و لا تطاحن على أرزاق الشعوب ، و لا حقد و لا حسد على الرغيف .
زَهَد الإمامُ في لذائذ العيش ، و هو الحاكم المطلق ليفهم الأجيال أنه ليس لمن يتولى أمور الناس أن يشبع ، و فيهم جائع واحد .
إن الإعراض عن متاع الحياة مواساة لمن حرم منها ، كما فعل الإمام ، إن دل على شيء فإِنما يدل على قيمة الحياة و أهميتها لا على احتقارها و ازدرائها ، و قد ثبت في الحديث الشريف أن حرمة الأموال كحرمة الدماء ، فالاعتداء على قوت إنسان اعتداء على دمه و حياته ، فكيف بالغاصبين المحتكرين أقوات الشعوب و موارد ثرواتهم !
أما الآيات و الروايات التي استدل بها بعض الزهاد ، فلا تدل على الترغيب في التقشف و الإعراض عن اللذائذ ، إِنما تدل على وجوب الزهد في المحرمات ، و الكف عن السلب و النهب ، و الخيانة و الكذب ، على أن يضحي الإنسان بالنفس و المال في سبيل الحق ، و لا يؤثر الخبيث على الطيب .
قال اللّه سبحانه و تعالى : ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ 2
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ ... ﴾ 3
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ 4
المُحَرَّم هو اعتداء الإنسان على حق أخيه و تهاونه بنصيبه من هذا الحق .
و قد جاء في الحديث الشريف : " ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة ، و لا الآخرة للدنيا ، و لكن خيركم من أخذ من هذه و هذه - المؤمن القوي خير و أحب إلى اللّه من المؤمن الضعيف " .
و لا ريب أن الإنسان يقوى بالمادة ، و ما تقدمت الإنسانية إِلا بعد أن كشف العلم عن حقيقتها ، و سلك بها سبيل الخير و العمار ، لا سبيل الشر و الدمار .
و بعد ، فإن الإسلام دين القوة و العمل ، لا دين الرهبانية و الكسل .
1. نشر هذا المقال في مجلة رسالة الإسلام في نيسان 1954 م .
2. القران الكريم : سورة القصص ( 28 ) ، الآية : 77 ، الصفحة : 394 .
3. القران الكريم : سورة الحج ( 22 ) ، الآية : 65 ، الصفحة : 340 .
4. القران الكريم : سورة المائدة ( 5 ) ، الآية : 87 ، الصفحة : 122 .
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
الشيخ حسين مظاهري
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
رؤية المدرسة الإماميّة في جمع القرآن
الشيخ عبدالكريم الحبيل: أخلاق فاطمة الزهراء عليها السلام
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (5)
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (4)
مقدّمات البحث
تأبين الشّيخ الحبيل للكاتب الشّيخ عباس البريهي
حاجتنا إلى النظام الإسلامي خاصّة
القرآن يأسر القلب والعقل
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (3)
تقييم العلمانية في العالم الإسلامي