من الشعائر الإسلامية التي أكد عليها القرآن الكريم هي شعيرة التسبيح، تلكم الشعيرة التي تزيد في إيمان الإنسان وتضيف عليه هالة من النورانية عبر أداء هذه الركيزة الإسلامية التي أكد عليها القرآن الكريم في كثير من آياته المباركة فقد جاء في قوله تعالى ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ ليؤكد على هذه الحقيقة الخالدة التي أثبتها الله تبارك وتعالى لجميع الأشياء، فالكون يسبح والنجوم تسبح في مداراتها الغارقة في أعماق الفضاء والشجر والنباتات والحيوانات بكل صنوفها تشترك في هذا الموكب الرهيب الذي يثير الدهشة ويجتذب القلوب، وفي ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَه﴾1 .54
وأيضاً قوله تعالى: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيم﴾.. أي نزّه الله سبحانه عن السوء، والشرك وعظمه بحسن الثناء عليه، ومعناه أيضاً نزه اسمه عما لا يليق به... فلا تضف إليه صفة نقص أو عملاً قبيحاً.. ومعناه أيضاً قولوا سبحان ربي العظيم.. والعظيم في صفة الله تعالى معناه كل شيء سواه يقصر عنه فإنه القادر العالم الغني الذي لا يساويه شيء ولا يخفى عليه شيء جلت آلاؤه وتقدست أسماؤه.
وورد في التفسير المروي في هذه الآية المباركة: أي فبرئ الله تعالى مما يقولون في وصفه، ونزهه عما لا يليق بصفاته، وقيل معناه قل سبحان (لله) ربي العظيم، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لما نزلت هذه الآية قال "اجعلوها في ركوعكم " وراجع في ذلك تفسير مجمع البيان ليتضح لك الحال والبيان.
ولقد ورد في القرآن الكريم عدة ألفاظ للتسبيح فتارة يأتي على نحو صيغة الأمر تسبح وتارة أخرى بصيغة الماضي أو الحاضر.. يسبح.. تسبّح.. وسبحان الله.. وهذا يعني أن التسبيح له صفة الاستمرارية في كل شيء وكما قلنا فالكون يسبح.. الخ.
وإذا تفحصنا القرآن الكريم نجد زخماً كبير من الآيات المباركة تصل العشرات تؤكد على مسألة التسبيح ومنها: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾2. ﴿يسَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْض﴾3 . ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا﴾4. ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى *الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى﴾5 .
إذن رحلة التسبيح في القرآن الكريم عظيمة وكبيرة جداً كل ذلك ليكون إيمان الإنسان عبر التسبيح في القرآن الكريم عظيمة وكبيرة جداً كل ذلك ليكون إيمان الإنسان عبر التسبيح أعظم وأفضل ما يكون عليه الإيمان، وقد ذكرنا هذه المقدمة لتكون لنا عوناً على استيعاب الموضوع الذي نحن فيه ـ تسبيح الزهراء عليها السلام ـ ومن الطبيعي جداً نرجع إلى المصدر الأول للمسلمين الذي هو القرآن الكريم لنرى كيف أكد على هذا التسبيح، وبعد ننطلق ونسبح في فضاء تسيبح الصديقة الطاهرة فاطمة عليها السلام.
فالقرآن الكريم قال ان الكل يسبح ولكن لا نعرف نحن القاصرون عن إدراك الكثير من الحقائق التي تخصنا نحن كبشر في حياتنا، وإلا فالكل يسبح ولكن نحن لا نعرف لغة هذا التسبيح الذي يخص الكائنات الأخرى سواء النباتية أو الحيوانية وأو الجمادية أو الأفلاك المتحركة، فإن لهذه الوجودات لغات خارجة عن تصوراتنا وعن حدود معرفتنا، وليس لنا القابلية في معرفة هوية هذا التسبيح الخاص بها، إلا من وفقه الله تعالى في مجاهدة نفسه ووصل إلى مرحلة الكشف والشهود لكثير من الحقائق الكونية.. وهذا ما نجده متحقق في كثير من الأنبياء عليهم السلام كما في قصة سليمان عليه السلام الذي أعطاه الله تبارك وتعالى معرفة لغة الحيوانات ﴿عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْر﴾ ويقول الله تعالى في ذلك: ﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا﴾6 .
فسليمان يعرف لغة الغير من الحيوانات كالنمل والطير وإلا لو كان لا يعرف لغة النمل لما تبسم ضاحكاً من قولها، وعلى هذا الأساس فإن لكل شيء في هذا الكون لغة ومنطق ولكننا لا نفقه لغته ولا نعرف منطقه ولا ندرك ذلك إلا لمن أعطاه الله تبارك وتعالى نور البصيرة في كل شيء ﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾.
إذن فكل شيء له لغة وله منطق غير أننا لا نفقه تلك اللغات اللهم إلا أن يكون الإنسان نبياً أو وصي نبي أو أحد الأئمة الهداة الذين علمهم الله منطق كل شيء وكما ورد ذلك في كتاب مدينة المعاجز الذي يعطيك عشرات الشواهد على ذلك.. أما نحن فلاحظّ لنا من ذلك على الإطلاق، وفي حديث أن الحصى كانت تسبح في كف النبي والصحيح هو أن النبي كا يسمع صوت الحصى حينما تسبح الله وتقدسه... وإلا فالحصى هي مسبحة لله تعالى في يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي يد غيره من البشر غاية ما في الأمر أن الأنبياء لهم القدرة على سماع هذا التسبيح بشكل واضح وملموس. وبعد أن وقفنا بعض الشيء مع معالم التسبيح في القرآن الكريم نأتي الآن إلى نورانية تسبيح فاطمة عليها السلام الذي يعبتر من الشعائر الدينية لدى الشيعة والسنّة والذي يعتزون به كأفضل الأعمال عقيب الصلاة المفروضة.
ولقد جاء الحث عليه من قبل الأئمة عليهم السلام في كثير من الأحاديث التي وصلت إلينا عبر الرواة والمحدثين ومنها ما جاء عن لسان أبي جعفر عليه السلام قال: "ما عبدالله بشيء من التمجيد أفضل من تسبيح فاطمة عليها السلام، ولو كان شيء أفضل منه لنحله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة عليها السلام "7.
وعنه عليه السلام قال: "من سبّح تسبيح الزهراء عليها السلام ثم استغفر غفر له وهي مائة باللسان، وألف في الميزان، وتطرد الشيطان، وترضي الرحمان "8.
وجاء عن هارون المكفوف، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: "يا أبا هارون ! إنا نأمر صبياننا بتسبيح فاطمة عليها السلام كما نأمرهم بالصلاة فالزمه، فإنه لم يلزمه عبد فشقي "9.
وأيضاً عن الصادق عليه السلام قال: "من سبح تسبيح فاطمة عليها السلام قبل أن يثني رجله بعد انصرافه من صلاة الغداة غفر له ويبدأ بالتكبير " ثم قال أبو عبدالله عليه السلام لحمزة بن حمران: "حسبك بها يا حمزة "10 .
تشريع التسبيح
من منّا لا يعرف كفاح فاطمة عليها السلام وكيف كانت حياتها تجري في بيت زوجها علي أمير المؤمنين ـ عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام ـ فالتاريخ يحدثنا أنها كانت قليلة الهجوع في لليل، وكانت تستغفر الله في الأسحار، فتقف في محرابها للصلاة حتى تورمت قدماها من كثرة العبادة والدعاء... وكانت تذوب رقة وخشوعاً في صلاتها وعند دعائها، ولدى قراءتها القرآن الكريم... فإذا مرت بآية فيها وعد أو وعيد رددتها في بكاء وحزن ودموع...
هذا كان بعض شأنها في الليل... أما في النهار، فقد كانت فاطمة تطحن بالرحى حتى أثّرت الرحى بيدها، واستقت بالقربة حتى أثرت القربة بنحرها، وكنست البيت حتى اغبرّت ثيابها، وأو قدت تحت القدر حتى طبع الدخان أثره على ملابسها وترك لونه على ثيابها وقت العمل بالطبع 11 وبلغ بها الحال أن دخل عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات صباح، وهي تطحن بالرحى وعليها كساء من وبر الإبل، وطفلها يبكى إلى جانبها، فبكي النبي، وقال "تجرعي يا فاطمة مرارة الدنيا لحلاوة الآخرة "12.
وذات مرة، وقفت فاطمة الزهراء عليها السلام بين يدي أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنظر اليها، وقد بدت آثار التعب على وجهها، من شدة الجوع والكفاح، فوضع يده الكريمة على صدرها، ورمق السماء بطرفه، وراح يدعو لها، والدموع تترقرق في عينيه، وهو يقول: "يا فاطمة تجرعي مرارة الدنيا، لحلاوة الآخرة ". وقد تكرر هذا الموقف من رسول الله لفاطمة، وفي كل مرة يكرر عليها هذه العبارة: يا فاطمة تجرعي مرارة الدنيا لحلاوة الآخرة... وفي ذلك درس عظيم لكل فتاة تبحث عن النجاح في الحياة.. فيه درس عظيم لكل امرأة تفتش عن السمو.. تفتش عن التكامل في الإسلام.
يقول جابر بن عبدالله الأنصاري رحمه الله: رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابنته فاطمة، وعليها كساء من أجلة الإبل، وهي تطحن بيدها، وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: يا بنتاه تجرعي مرارة الدنيا لحلاوة الآخرة، فقالت: الحمد لله على نعمائه، والشكر لله على آلائه 13 .
إن فاطمة الزهراء من خلال سيرتها الذاتية هذه تعطي الفتاة المسلمة أعظم درس في الحياة، يؤدي بها إلى سلوك الصراط المستقيم لتعيش في ظلال رحمة الله سبحانه.
أجل.. إن فاطمة تعلم المرأة كيف تصبح فتاةً مسؤولية...، تتحمل مسؤولية الأسرة، والمجتمع في ثقة وشجاعة.
ونعلم من سيرة الزهراء أنها لما أرهق بدنها الكدح والنضال، وأتعبها الطحن بالرحي، جاءت أباها تمشي على استحياء، تطلب منه خادمةً تساعدها على تخفيف أعباء المنزل، وثقل الحياة العائلية التي كانت تكابدها ليلاً نهاراً، علّها تخفّف عنها بعض همومها. وقفت بين يدي أبيها رسول الله، مطرقةّ برأسها حياة بعد أن سلمت عليه، فرد عليها السلام، وكان من عادته أنه إذا أقبلت عليه فاطمة، كان يقوم إجلالاً لها ويقبل يدها ثم يجلسها في مجلسه، فجلست وهي مطرقة برأسها إلى الأرض، وما كادت تجلس في مكانها، حتى سألها الرسول الأعظم قائلاً: ما جاء بك... وما حاجتك أي بنية ؟ فغلبها الحياء ولم تتمكن من سؤال النبي، فقالت: جئت لأسلم عليك.. وبعد لحظات قامت فودعها النبي، ورجعت إلى دارها دون أن تحقق هدفها الرامي إلى طلب فتاة لخدمة المنزل.
وبعد هذا اللقاء بأيام وجدت فاطمة نفسها لا تستطيع مواصلة العمل دون وجود فتاة إلى جانبها في البيت، فقررت أن تشكو حالها إلى أبيها الحبيب المصطفى لعله هذه المرة يلبي نداءها، ويستجيب لدعوتها، خصوصاً وقد انتصر المسلمون في معارك الجهاد، فأحرزوا غنائم كثيرة وأموالاً عظيمة.. فقامت فاطمة الزهراء عليها السلام من ساعتها، وأتت أباها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطلبت منه خادمة، فقال لها: يا فاطمة أعطيك ما هو خير لك من خادم وم الدنيا وما فيها 14. قالت: وما ذلك يا رسول الله ؟ قال: "تكبّرين الله بعد كل صلاة أربعاً وثلاثين تكبيرة، وتحمدين الله ثلاثاً وثلاثين تحميدة، وتسبحين الله ثلاثاً وثلاثين تسبيحة، ثم تخنمين ذلك بلا إله إلاّ الله، وذلك خير لك من الذي أردت ومن الدنيا وما فيها ".
1-النور: 41.
2-الحديد: 1.
3-الحشر: 24.
4-ق: 31.
5-الأعلى: 1.
6-النمل: 18 ـ 19.
7-الكافي: 3 / 343 / ح 14، الوسائل: 4 / 1024 / ح 1.
8-ثواب الأعمال: 196 / ح 2، الوسائل: 4 / 1023 ح 3
9-أمالي الصدوق: 464 ح 16، ثواب الأعمال: 195، الكافي: 3 /343 ح 13.
10-قرب الإسناد: 165.
11-صفوة الصفوة: 2 / 6 و كتاب فاطمة الزهراء لمحمد علي دخيل: 63.
12-أعلام النساء لعمر كحالة 3 / 216 وكتاب فاطمة الزهراء لمحمد علي دخيل: 63.
13-سفينة البحار: 1/ 571 وكتاب فاطمة الزهراء لمحمد علي دخيل: 65.
حيدر حب الله
عدنان الحاجي
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
فلسفة العمل ومبدأ التنمية المتواصلة
كيف يسمح الدّماغ بشعورين متناقضين؟
المعروف والمنكر والأكثريّة الصّامتة
الإسلام ونظريّة الأخلاق
رؤية المدرسة الإماميّة في جمع القرآن
الشيخ عبدالكريم الحبيل: أخلاق فاطمة الزهراء عليها السلام
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (5)
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (4)
مقدّمات البحث
تأبين الشّيخ الحبيل للكاتب الشّيخ عباس البريهي