مقالات

قد نودِيَ بالرّحيل

 

اعلم، أيّها العزيز، أنَّ أمامك رحلة خطرة لا مناصَ لك منها، وأنَّ ما يلزمها من عدّة وعدَدٍ وزادٍ وراحلة هو العلم والعمل الصّالح. وهي رحلة ليس لها موعدٌ معيَّن، فقد يكون الوقت ضيِّقاً جداً، فتفوتك الفرصة. إنَّ الإنسان لا يعلم متى يُقرَع ناقوس الرّحيل للانطلاق فوراً. 
إنَّ طول الأمل المعشعِش عندي وعندك النّاجمَ من حبِّ النّفس ومكائد الشّيطان الملعون ومغرَياته، تمنعُنا من الاهتمام بعالم الآخرة ومن القيام بما يجب علينا. وإذا كانت هناك مخاطر وعوائق في الطّريق، فلا نسعى لإزالتها بالتّوبة والإنابة والرّجوع إلى طريق الله، ولا نعمل على تهيئة زادٍ وراحلة، حتّى إذا ما أَزِف الوعد الموعود اضطررنا إلى الرّحيل دون زادٍ ولا راحلة، ومن دون العمل الصّالح، والعلم النّافع، اللّذَين تدور عليهما مؤونة ذلك العالم، ولم نُهيّئ لأنفسِنا شيئاً منهما. 
حتّى لو كنّا قد عملنا عملاً صالحاً، فإنّه لم يكن خالصاً بل مشوباً بالغشّ، ومع آلافٍ من موانع القبول. وإذا كنّا قد نِلنا بعض العِلم، فقد كان علماً بلا نتيجة. وهذا العلم إمّا أنْ يكون لغواً وباطلاً، وإمّا أنّه من الموانع الكبيرة في طريق الآخرة. ولو كان ذلك العلم والعمل صالحَين، لكان لهما تأثير حتميٌّ وواضح فينا نحن الذين صرَفنا عليهما سنواتٍ طوالاً، ولَغَيّرا من أخلاقنا وحالاتِنا. فما الذي حصل حتّى كان لِعَملنا وعِلْمنا مدّة أربعين أو خمسين سنة تأثيرٌ معكوس بحيث أصبحت قلوبُنا أصلب من الصَّخر القاسي؟ ما الذي جَنيناه من الصّلاة التي هي معـراج المؤمنين؟ أين ذلك الخوف وتلك الخشية الملازمة للعِلم؟ لو أنَّنا أُجبرنا على الرّحيل ونحن على هذه الحال، لا سمحَ الله، لكان علينا أن نتحمّل الكثير من الحسراتِ والخسائرَ العظيمةَ في الطريق، ممّا لا يُمكن إزالتُه! 
يحسن بنا أن نفكّر قليلاً في سيرة أمير المؤمنين والنّبيّ الكريم صلّى الله عليه وآله، وهما من أشرف خلق الله ومن المعصومين عن الخطأ والنسيان والزَّلل والطّغيان، لكي نقارن بين حالنا وحالِهم. إنَّ معرفتَهم بطول السّفر ومخاطِره قد سَلبت الرّاحةَ منهم، وإنَّ جهلَنا أوجدَ النِّسيانَ والغفلةَ فينا. 
إذاً، اعلم أنَّ الرّحلة كثيرةُ المخاطر، وإنّما هذا النّسيان الموجود فينا ليس إلّا من مكائد النّفس والشّيطان، وما هذه الآمال الطّوال إلّا من أحابيل إبليسَ ومكائده. فتيقَّظ أيُّها النّائم من هذا السُّبات وتنبَّه، واعلم أنّك مسافرٌ ولك مقصد، وهو عالَمٌ آخر، وأنّك راحلٌ عن هذه الدُّنيا، شئتَ أم أبَيْت. فإذا تهيَّأت للرّحيل بالزّاد والرّاحلة لم يُصِبك شيء من عناء السّفر، ولا تُصاب بالتّعاسة في طريقه، وإلَّا أصبحتَ فقيراً مسكيناً سائراً نحو شقاءٍ لا سعادة فيه، وذِلّةٍ لا عـزّة فيها، وفقرٍ لا غنى معه، وعذابٍ لا راحةَ منه. إنّها النـّار التي لا تنطفئ والضّغطُ الذي لا يخفَّف، والحزنُ الذي لا يتبعُه سرور، والنّدامة التي لا تنتَهي أبداً.
فيا أيّها القلبُ الغافل! انهضْ من نومك وأعِـدَّ عدَّتك للسَّفر، «فـَقـَدْ نُـودِيَ فِـيكُمْ بِالـرَّحِـيلِ».

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد