مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ علي رضا بناهيان
عن الكاتب :
ولد في عام 1965م. في مدينة طهران وكان والده من العلماء والمبلغين الناجحين في طهران. بدأ بدراسة الدروس الحوزوية منذ السنة الدراسية الأولى من مرحلة المتوسطة (1977م.) ثم استمرّ بالدراسة في الحوزة العلمية في قم المقدسة في عام 1983م. وبعد إكمال دروس السطح، حضر لمدّة إثنتي عشرة سنة في دروس بحث الخارج لآيات الله العظام وحيد الخراساني وجوادي آملي والسيد محمد كاظم الحائري وكذلك سماحة السيد القائد الإمام الخامنئي. يمارس التبليغ والتدريس في الحوزة والجامعة وكذلك التحقيق والتأليف في العلوم الإسلامية.

ما شاء الله نجار

 

الشيخ علي رضا بناهيان
قصدتُ مدينةً فاقترحوا عليَّ هناك زيارة منزل رجلٍ يقيم مجلس عزاء. كانت أيّام محرم وصفر. قالوا: هو رجل طيّب، وقد حدثت له قصة خاصة، يشهد عليها إمام جمعة المدينة، والدكتور فلان، والدكتور فلان.. دعه يحكي لك القصة بنفسه. 
قصدنا المكان فإذا بفسحة رحبَة، ومنبر، وعلاماتِ سواد. كانت عشرةُ مجلسه قد انتهت، فلم يكن تلك الليلة مجلساً، لكن ما زالت آثار السواد موجودة. حيّيناه وجلسنا وقد أحاط به أبناؤه الذين بلغوا ـ ما شاء الله ـ مبلغ الرجال.  
فخاطبَ الذين معي الرجلَ: اقْصُص قصّتَك.
فتردّد وقال مجاملاً: بل قصّوها أنتم.
فقالوا: كلا، قُصَّها أنت، نريد أن نسمعها منك.
فقال السيد "ماشاء الله نجار": مرضتُ ذات يوم أيّام شبابي وكان أولادي هؤلاء صغاراً. كنا نعيش في هذه الحجرة (الحجرة التي أجلسونا عند بابها) وكان فِناء دارنا بهذا المقدار. كنت حينذاك أعمل بالنِّجارة، فأصِبتُ بفشل كليَتَيَّ. 
وشرح تفاصيل علاجه ثم قال: إلى أن وضعوني، حين استشرى المرضُ في جسدي، أسفل سلالم المستشفى، ثم أرسلوني إلى البيت لأقضي أيّامي الأخيرة قائلين: لم يبقَ حيّاً إلى الآن إلاّ لقوّة بنيته.. خذوه إلى داره. 
قال: جاؤوا بي إلى الدار، وكنت عاجزاً حتى عن الكلام، ما كان يدخل عليَّ أحد إلا ما ندر، أصحوا حيناً وأغيب عن الوعي حيناً. كانت أيّام المحرَّم. دخلَت أمّي عائدة من مجلس عزاءِ أبي عبد الله الحسين(ع) فأخذَت بالبكاء، كانت تحمل خرقة. 
قالت: أريد أن أمسح بدنك بها ففيها دموع عزاءِ أبي عبد الله الحسين(ع)، الحسين(ع) هو الذي يشفيك! 
أردتُ أن أومئ إليها أنْ: أُمّاه، لقد فات أوان هذه المسائل.. جسدي متآكل.. (وكان الدود قد اجتاح جسده، كما قال) فمَن الذي عساه أن يُصلح ما فسد؟! فأخذَت تنتحب، وتمسح بدني بالخرقة، وتقول: يا أبا عبد الله.. منكَ أريدُ ولدي!
فقلت، وقد انكسر قلبي لأنينها.. قلت: سيدي.. إذا شافيتَني.. فسأقيم لك مأتماً، وأوزّع الطعام، أوزّع الطعام في الأزقّة. وظلّت عبارة: " أوزّع الطعام في الأزقة" تتردّد في ذهني.
يقول: مر يوم أو يومان، وبدلاً من أن أقضي آخر لحظات عمري فوجئتُ برجل قد جلس إلى جانبي على كرسي هيّأه لنفسه. كان من الجمال والبهاء ما أنساني مرضي وعجزي. فاستويتُ جالساً، دون أن أدري أكنتُ في حُلُمٍ أم يقظة. 
قلت: يا الله! لا شك أن مرادهم من "النظر إلى وجه العالم عبادة" هو أنت. 
فقال لي: حسنٌ، ماشاء الله نجار.. 
(وقد بالغ ما شاء الله في الإطراء على صوت الرجل أن: ما أروع صوته!) 


قال: ما حاجتُك؟
قلت: لي حاجة عند مولاي الحسين(ع)، أريد أن يشفيني.
قال: حسنٌ، أنا الحسين! أما ترى أنك شُفيت؟
فانتبهتُ إلى أنّني جالس!
قال: قم واشرب بعض الماء لترى كيف أنّك على ما يرام.
فقمتُ من السرير، وخرجت إلى الفناء وشربت من حنفية في وسطها
فقال: لكن قلتَ ستقيمُ مأتماً، فلا تخلف الوعد! كم يوماً سيكون المأتم؟ 
ولم أكن قد فكّرتُ بعدد الأيام.. كل ما شغل ذهني هو أن أوزّع الطعام في الأزقة
قلت: لا أدري، عشرة أيّام.
فقال: ولماذا عشرة؟ اجعلها ثمانية عشر تذكاراً لأمّي ذات الثمانية عشرة!
إنه كلام الرجل. شخصيّاً أنا أرفض نقل هذه القصص، لكن لكثرة ما أرَوني من الوثائق والشواهد عليها، بل جميع أهالي البلدة يعلمون أنه مات وعاد إلى الحياة. 
يقول: هرعتُ إلى أهلي فأيقظتُهم، ورأوني في مظهري الجديد، وبدأ الصراخ والعويل، وتراكض الجيران معتقدين أنّي قضيتُ نحبي فبُهتوا أن، كلا، إنّه..!
يضيف الرجل: يشهد الله، كنت أذهب إلى المسجد فيتعجب الناس قائلين: هذا الرجل كم يشبه المرحوم ما شاء الله، ما القصة، خبّرنا؟


فأقول: هو أنا يا ناس! 
يقول: في العام التالي، في الوقت ذاته، كنّا في فقر مُدقِع تحلّ علينا الصدقة. قلت: يا أبا عبد الله، وعدتُ أن أقيم لك مأتماً، لكنّي مُفلس! 
قالت أمي: اشترِ شاياً ووزّعه عند رأس الزقاق، إلى أن تصبح ميسوراً، ماذا تصنع وما عندك مال؟
يقول: يشهد الله أنّي لم أتوجّع بسبب مرضي قدرَ ما توجّعتُ لأنّني وعدتُ مولاي أنْ: سأقيم لك العزاء وأوزّع الطعام، وإذا بي مفلس! أقسم بالله، لقد جلستُ في فِناء الدار أبكي وأنتحب فإذا بي أرى مولاي ثانية.. لا أدري في أية حال. 
قال لي: ماشاء الله نجار، ما الذي جرى؟ أراك غارقاً في همومك ثانيةً!
قلت: سيدي، أريد أن أقيم مأتماً، وما عندي شيء.
قال: قم وأقم مأتمك، والباقي علَيّ! وأردَف: ما شاء الله نجار، أقم المأتم هنا في الفِناء. اذهب وائتِني بمكنسة، أريد أن أكنُس بنفسي طريق أقدام المُعزّين! 
دعونا من باقي المشهد..! يقول: نهضتُ.. ودموعي تنهمر.. ورتّبتُ المكان، وصلّيت. وبينما أنا أفرش الفناء بالأغطية، طرق أحدُهم الباب، فخرجتُ، وإذا بأحد كَسَبة البلدة وقد جلب، بسيارة حمل، أثاثاً، وأرزّاً، وسماورات، وقدوراً كبيرة، وهو يُنزِلها ويبكي! 
قلت مستغرباً: ما هذه؟
قال: اصمُت، كل ما شاهَدْتَه أنت بالأمس شاهَدْتُه أنا أيضاً!


يقول: كان فناء دارنا ضيقاً جدّاً، فأخذ الأصدقاء يشترون أفنية الدور المجاورة ويلحقونها بها. هذا المكان مثلاً كان داراً فألحقوها به أيضاً. وصرنا، كل محرّم، ننصب سقفاً ونقيم المأتم..
فقمتُ ورُحتُ أتجوّل في أرجاء الفناء، وقرب المنبر. وبينما أنا في هذه الحال خاطبني: أترى روعة المشهد يا عزيزي؟ ونشر ذراعيه وقال: أترى أنّ كلّ وجودي من الحسين(ع)! كل وجودي من الحسين(ع)! داري من الحسين، الفناء من الحسين، كل شيء من الحسين..! 
أيّ لذّة يشعر بها هذا الرجل! ما أحلى هذه الحياة! كل وجودي من الحسين(ع)!