السيد محمد باقر الحكيم
ج ـ الإثارة في الخطاب السياسي .
إنَّ أهمَّ مسألة ركَّز عليها الإمام الحسين (عليه السلام) هي الرابطة التي تربطه برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وكونه ابنه وابن بنته . وأعاد على الأسماع قول الرسول (صلّى الله عليه وآله) : ( الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنَّة ) (6) ، بينما لم يُؤكِّد على قضية : ( الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا ) (7) ؛ لأنَّ في الحديث الأول قدر أكبر من الإثارة .
وفي حديث الإمام مع أهل الكوفة ، كان يذكّرهم بالعهود التي قطعوها له ؛ ليثير فيهم القيم المركوزة في وعيهم ، القاضية بضرورة الوفاء بالعهود ، وأنَّ عدم الوفاء بهذه العهود يعدُّ خيانةً وغدراً . فكان (عليه السلام) يناغي هذه المرتكزات التي أصّلها الإسلام في المجتمع ، والتي لا شك تُؤجِّج عواطف إنسان ذلك الزمن .
هذا يلفت أنظارنا إلى ما يجب مراعاته في الممارسة الإعلامية التي يراد منها استنهاض الأُمَّة أو تعبئتها وتحريكها ، والانطلاق من الواقع المحسوس والملموس والمسلّم في الوسط الاجتماعي المخاطب بالرسالة . لا أن يتحدَّث عن المفاهيم والمبادئ النظرية حتى لو كانت مهمة .
وكل ذلك يحتاج إلى دراسة مستفيضة ونظريات من قبل العلماء والفضلاء ؛ من أجل الخروج بقواعد وقوانين يُؤدِّي مراعاتها إلى تعبئة الأُمَّة واستنهاضها ، وهكذا فعل الإمام الحسين ، إذ تجاوز كل المفاهيم والعقائد والأفكار التي قد تُؤدِّي إلى وضع الفكر أمام مداخلات فكرية وعقلية تعيق الوصول إلى الهدف .
لم يشغل الإمام (عليه السلام) نفسه بشيء من ذلك ، واتجه مباشرة إلى ما به يتحقَّق إنجاز تعبئة الأُمَّة ؛ لذلك تأطّر الخطاب السياسي بكل ما يُثير عواطف الأُمَّة ؛ لعلم الإمام (عليه السلام) بأنَّ الأُمَّة لا زالت تقول : ( أشهد أنْ لا اله إلاّ الله وأنَّ محمداً رسول الله ) ، وأنَّ هذه الأُمَّة لا زالت تحترم بيعتها وتلتزم بها ، وتنظر باستصغار إلى مَن يبايع ويتخلَّى عن البيعة ، فهي عندما تبايع تلزم البيعة . لذلك وجدنا الذين بايعوا الإمام ونكصوا عن البيعة ، أنكروها وادَّعوا أنَّهم لم يبايعوا ، وصاروا يغيّبون وجوهم من ساحة المعركة ، ولا يجرؤن على النظر في وجه الإمام (عليه السلام) أو الاعتراف ببيعتهم له ونقضها ، لأنَّ ذلك يسقطهم من الاعتبار .
وقد ركّز الإمام على هذه القضية لأنَّها مركزية ، فهو إمام على كل حال ، ولا يستمد إمامته من بيعة الناس له ، لكنَّه كان يمر على كل فرد ويسأله : ألم تبايع ؟ ألم تقل كذا؟ وهذا السؤال كان يعني الاعتراف بإلقاء الحجّة على نفسه .
هذا الأسلوب استخدمه الإمام في خطابه السياسي لأنَّه قادر على تعبئة الأُمَّة .
الوسائل الإعلامية :
أمَّا بالنسبة للوسائل الإعلامية ، فإنَّ الإمام لجأ إلى المتاح منها في ذلك العصر . ويمكن أن نشير إلى جملة نقاط في هذا المجال ، هي :
1 ـ مراعاة الخط الإعلامي المضاد .
لقد حاولت السلطة فرض السرّية على تولية يزيد غير المؤهل ؛ لمباغتة الأُمَّة بالأمر الواقع ، وقطع الطريق على ردود الفعل أو حصرها في أضيق نطاق ممكن . وقد فَطن الإمام (عليه السلام) إلى البُعد الذي تتوخَّاه السلطة وسعى إلى اتخاذ مساراً مضاداً لمسارها .
فعبد الله بن عمر و عبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر عندما أرسل يزيد إلى واليه على المدينة يأمره بأخذ البيعة له منهم فظنُّوا بالمراد من استدعائهم إلى دار الإمارة ، لزموا منازلهم واختفوا فيها ... فعبد الله بن الزبير خرج متخفّياً إلى مكّة لكي لا يبايع ... وبموقفه هذا سار في الإطار الذي تريده السلطة حتى وإنْ سعى للتخلُّص من الخضوع لطلبها بقبول البيعة .
أمّا الإمام (عليه السلام) ذو الرؤية الواضحة ، فقد اختار تحويل الصراع إلى صراع علني ؛ ليفوّت على السلطة هدفها ، ولينبّه الأُمَّة إلى ما يجري ؛ لهذا اختار مواجهة أمير المدينة في موكب من بني هاشم . لقد خطَّط لكي يعرف الناس أنَّه رفض البيعة ، فعندما أرسلوا في طلبه ، قال : ( أيُّها الأمير ، إنَّ البيعة لا تكون سرَّاً ، ولكن إذا دعوت الناس غداً فادعنا معهم ) ، فقال مروان : ( لا تقبل عذره ، وإذا لم يبايع فاضرب عنقه ) ، فغضب الحسين ثمَّ قال : ( ويل لك يا ابن الزرقاء ، أنت تضرب عنقي ، كذبت والله ولؤمت ) . ثمَّ أقبل على الوليد ، فقال : ( أيُّها الأمير ، إنَّا أهل بيت النبوّة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة . وبنا فتح الله ، وبنا يختم . ويزيد رجل فاسق شارب للخمر ، قاتل للنفس المحترمة ، ومعلن للفسق ، ومثلي لا يبايع مثله ، ولكن تصبحون ونصبح ، وتنظرون وننظر : أيُّنا أحقُّ بالخلافة ) ثمَّ خرج (8) .
لقد شاء أن يُعلن رفضه وأن يُعلم الناس جميعاً بهذا الرفض ، ومروان المتحرّق لإنجاز هدف السلطة كان يريد أن تتم البيعة بسرعة ، وكان يلحّ على الوالي لأخذ البيعة حتى لو كانت بقوة السيف .
2 ـ مخاطبة أوسع دائرة من المخاطبين .
لقد رمى الإمام إلى إشراك أكبر قدر من أفراد الأُمَّة من وراء الرفض العلني لمبايعة يزيد ؛ ولهذا فقد عاد في اليوم التالي وأعلن بشكل واضح وعلى رؤوس الإشهاد عن رفضه هذا ؛ وبذلك قطع على السلطة سعيها لحصر العلم بالبيعة في أضيق نطاق لتحقيق عنصر المباغتة .
وهذا يدلُّنا على أنَّ التحرُّك بمجمله كان عبارة عن ممارسة إعلامية محسوبة النتائج ؛ تهدف التوصُّل إلى تعبئة الأُمَّة في مواجهة الطغمة المتسلِّطة ، وبالتالي علينا أن نفكِّر مسبَّقاً بنتائج تحرُّكنا الجهادي بدقة وبمدى انفعال الأُمَّة به سلباً أو إيجاباً .
3 ـ مراعاة الزمان والمكان .
وقد دعم الإمام آثار رفض البيعة بالخروج العلني من المدينة ، واختار موسم الحج لهذا الخروج ؛ تقديراً للأثر الإعلامي الذي يُؤدِّيه الخروج في هذا الزمن بالذات .
كان يمكن للإمام أن يخرج قبل هذا التاريخ أو بعده ، لكنَّه اختار الثامن من ذي الحجة ، وأن يخرج في يومٍ تجمَّعَ فيه الناس ؛ من أجل أن يتحرَّكوا في اتجاهٍ خاص ، وهو الخروج إلى منى ؛ لأنَّ هذا اليوم هو يوم التروية ، يخرجون إلى منى ، ومنها في اليوم التاسع إلى عرفات صباحاً ، فيقفون في عرفات اليوم التاسع من ذي الحجة ، من بعد الظهر وحتى غروب الشمس ... .
الناس جميعاً خرجوا من مكَّة إلى منى ، وبالاتجاه المعاكس يتحرَّك الإمام أمام هذه الجموع الغفيرة . ولابد أن يثير فعله هذا التساؤل ... لم تكن في تلك الأيّام صحف أو منشورات أو إذاعة أو ميكرفون ... إلخ ، ولذلك فإنَّ الإمام مجبر على استخدام الوسائل المتاحة آنذاك ؛ ولذا اختار الخروج بركب ، وسار بعكس اتجاه مسير الناس . وحين يُسأل عن ذلك ، كان يُجيب بأنَّه يخرج لأنَّه ليس آمناً في مكَّة . وهذه قضية مثيره للعَجَب !! لأنَّ مكَّة حرمٌ آمن ، يأمن فيها المجرم ، فكيف لا يأمن ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؟! هذه الواقعة لا بد أن تحرِّك عواطف الناس . إنَّها واقعة راسخة في العرف ، ولها جذر تاريخي يمتدّ إلى ما قبل الإسلام . كل مَن دخل مكة فهو آمن ، فلماذا لا يأمن ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؟!
4 ـ الانطلاق من الثوابت والمسلّمات .
من هنا فإنَّنا نلاحظ أنَّ الإمام استخدم كل الوسائل المتاحة . ومَن يراجع خطب الإمام في طريقه إلى كربلاء ، ثمَّ في يوم عاشوراء ، خطبةً بعد خطبة ، يدرك أنَّ للإمام رسالة يريد أن يُؤدِّيها ويوصلها إلى إفهام الناس بكل مضامينها وشعاراتها وأسبابها ، مع الاستدلال على كل ذلك بكل ما يمكن الاستدلال به ؛ لكي تتجلَّى أمام الأعين والقلوب وتتَّضح لجميع الناس .
لقد استخدم الرسائل ، وصار يرسل الرُّسُل إلى جميع البلاد الإسلامية ، ويشرح لهم حركته وأبعادها وأهدافها ، فيقول : ( أيُّها الناس ، إنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال : ( مَن رأى سلطاناً جائراً ، مستحلاً لحرام الله ، ناكثاً لعهده ، مخالفاً لسنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، فلم يغيِّر عليه بفعل ولا قول ، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله ) . ألا وإنَّ هؤلاء لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا عبادة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام الله ، وحرموا حلاله ) (9) .
ثمَّ يقول : ( ما خرجتُ أشراً ولا بطراً ، ولا مفسداً ولا ظالماً ؛ وإنَّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمَّة جدِّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) . أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، وأسير بسيرة جدِّي وأبي ) (10) . كما ذكر ذلك في وصيَّته لأخيه ابن الحنفية وخاطب به جميع بلاد المسلمين .
وهنا برز فضل أهل العراق ، ذلك أنَّهم كانوا الوحيدين الذين استجابوا لهذه الرسائل . أمَّا بقية البلاد ، فلم تستجب للإمام ... . أمَّا أهل العراق ، فقد استجابوا ، غاية الأمر أنَّ الأُمَّة كانت مصابة بمرض الخدر الحضاري من ناحية ، وموت الضمير من ناحية أُخرى ، بحيث إنَّ الأُمَّة لم تواصل طريقها مع الإمام ، فتخاذلت ، ولم يستمر معه إلاّ نفر يسير من الأنصار .
خاتمة :
لقد استهدف الإمام أهدافاً ، واستخدم خطاباً سياسياً ناجحاً قاده إلى إنجاز أهدافه عبر الوسائل المتاحة له في ذلك العصر، وتمكّن مَن تحطيم كل القيود التي حاولت السلطة تكبيل حركته بها .
وما كان له أن ينجح في ذلك لولا جمعه في تحرُّكه بين الهدف الرسالي واستخدام الوسائل المتاحة الموصلة إليه ، مستعيناً بخطاب سياسي مساوق لمجمل أبعاد تحرُّكه ... ولهذا أمكنه أنْ يخلق بشهادته هذا الأثر الضخم في الأُمَّة ، وأن يبقى في حياة المسلمين وعبر كل العصور ، بما فيها عصرنا الحاضر .
ــــــــ
(6) يحيى بن الحسين الأسدي المعروف بابن البطريق ، عمدة عيون الأخبار في مناقب إمام الأبرار : ( إنِّي قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي ، الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ) / ح 48 / ص 68 / مؤسّسة النشر الإسلامي ـ جماعة المدرِّسين.
(7) محب الدين الطبري ، ذخائر العقبى : 129 .
(8) المصدر السابق .
(9) ابن طاووس ، مقتل الحسين : 10 ـ 11 ، والطبري ، تاريخ الأمم والملوك : 4 / 251 .
(10) تاريخ الطبري : 4 / 304 .
(11) الخوارزمي ، مقتل الحسين : 1 / 88 .
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان