مقالات

ثورة الحسين لـمَن؟ (2)

أنطوان بارا

وكان (عليه السّلام) قادراً على فعل ذلك، إلاّ أنّه لم يرضَ بهذا الأسلوب الوقتي. وهذا ما أعلنه في خطابه للذين بايعوه؛ كي تظلّ ثورته صافية، لا يتّهم بأنّه استأجر لها أنصاراً ولأفكاره مؤيّدين، إضافةً إلى كونه (عليه السّلام) كان عارفاً بأنَّ ثورته في حساب الخسارة والربح، لا بدّ خاسرة، لكنّه كان يستقرئ المستقبل لربح أعظم يتعلّق بدوام صفاء العقيدة، وإلّا، لكان بإمكانه الاعتصام في شعاب الحجاز، وقيادة ثورته من ركن قصي آمن، موفّراً نفسه وأنفس أهل بيته وخلّص أصحابه، ولكن كلّ ذلك لم يكن كافياً لإقناعه (عليه السّلام).

ونقول إقناعه، ونحن على فَهْمٍ تامّ بأنَّ عدم قناعته كانت تستند إلى وحي إلهيّ؛ لإتمام المسيرة التي لا بدَّ منها لخير الأمّة.

وفي المقابل، كان ثمّة إجماع ممَّن حوله يستدعي البقاء حيث كان، ويدعو إلى عدم الخروج من مكّة، والاستعاضة عن الجهاد ببذل النّفس بقيادة الثورة من بعيد. فكان أمام الحسين (عليه السّلام) أكثر من بديل للموت، وأكثر من اقتراح للسّلامة، وكان (عليه السّلام) عالماً بكلّ هذه البدائل والطّرق الموصلة إليها وإلى نقيضاتها، إلّا أنّ الحكمة الإلهيَّة التي كانت تخطِّط لثورته أكبر من فهم البشر، وأعظم تَجلَّة من أن تدخل في نطاق بصيرتهم، لذا فقد سارت ثورة الحسين (عليه السّلام) كما أوحي إليه بها، ونجحت ذلك النجاح القياسي الهائل، والذي لم تكن لتبلغه لو سارت على نهج تقليدي على هَدي ما قدّم من اقتراحات وبدائل.

وذات الوحي الإلهي الّذي حدّد مسار ثورة الحسين (عليه السّلام) وتوقيتها، أزال الغشاوة عن العيون، وبدّد الأوهام التي رانت على العقول والضّمائر، والتي ظنّت ساعة قيام الثورة أنّها كانت لمناوأة حكم الأمويين، وبأنّها ستنطفئ بانطفاء جذوتها، وتخمد بانخماد شراراتها المشتعلة. فعرفت هذه العقول، وقنعت هذه البصائر، بأنّ ثورة الحسين (عليه السّلام) كانت يقيناً ربضاً في أعماق الصّدور، ووحياً استلهمه كلّ مظلوم على مرّ الأجيال والقرون، وعلى اختلاف البشر ونحلهم ومللهم، وأنّها كانت نبراساً يضيء للناس، وحرارة تستعر في قلوب المؤمنين.

ألم يقل رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً»؟! أمَا خطر لأولئك الّذين شرحوا ثورة الحسين (عليه السّلام) بأنَّها حركة رجل ضدّ رجل بعد اختلاف على الحكم والمبادئ، كي يستلهموا كلماته (صلوات الله عليه) ويستنبطوا معانيها الجليلة الخالدة؟ أمَا خطر لهم أن يتساءلوا: ولِمَ يظلّ لقتل الحسين تلك الحرارة التي لا تبرد أبداً في قلوب المؤمنين ما دامت حركة زمنيّة مؤقّتة لا انتفاضة روحيّة عقائديّة، جعلت القيم الدينيّة والشّريعة محلّ اهتمامها، والإنسانيّة محور وسائلها والحقّ مطلبها؟

وأولئك الذين نظروا إلى حركة الحسين بكثير من قصر النّظر، وأيضاً الذين أرّخوا لها وكتبوا عنها، ألم يلفت نظرهم أنَّ هذه الثورة لا يجوز أخذها بمأخذ الثّورات التقليديّة؟ كي يعلموا أنّها كانت صراعاً بين خُلقين ومبدأين، وجولة من جولات الصّراع بين الخير والشّرّ، بين أنبل ما في الإنسان وأوضع ما يمكن أن تنحدر إليه النفس البشريّة من مساوئ؟

ألم يعوا كيف تحوّلت هذه الملحمة العظيمة بتقادم العهد عليها إلى مسيرة؟ وكيف صارت الشّهادة التي أقدم عليها الحسين (عليه السّلام) وآل بيته وصحبه الأطهار، رمزاً للحقّ والعدل؟ وكيف صار الذبيح بأرض كربلاء، منارة لا تنطفئ لكلّ متطلّع باحث عن الكرامة التي خصّ بها سبحانه وتعالى خلقه بقوله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}؟

والسيرة العطرة لحياة سيّد شباب أهل الجنّة، واستشهاده الذي لم يسجّل التاريخ شبيهاً له، كانا عنواناً صريحاً لقيمة الثّبات على المبدأ، وعظمة المثاليّة في أخذ العقيدة وتمثّلها، فغدا حبّه كثائر واجباً علينا كبشر، وحبّه كشهيد جزءاً من نفثات ضمائرنا، فقد كان (عليه السّلام) شمعة الإسلام أضاءت ممثّلة ضمير الأديان إلى أبد الدهور، وكان درعاً حمى العقيدة من أذى منتهكيها، وذبّ عنها خطر الاضمحلال، وكان انطفاؤه فوق أرض كربلاء مرحلة أولى لاشتعالٍ أبدي، كمثل التوهّج من الانطفاء، والحياة في موت.

فلو كان فرخ النبي (عليه السّلام) ضنيناً بمبدأ، ولو لم تكن له عقليّة متصوّرة موحى لها، لَما استطاع أن يفلت من ربقة الأطماع التي كانت بمثابة دين ثانٍ في ذلك العهد، ولَما كان ارتفع بنُبلٍ قلّ نظيره فوق الدوّامة التي دوّمت الجميع، أولئك المتزلّفين، يزيد على خطى مَن سبقهم في تزلّف والده معاوية.

كان (عليه السّلام) لو شاء لأصبح - بانحناءة رأس بسيطة - أميراً مطلقاً على ولاية ما، أو يقنع بزعامة شيعة أبيه (عليه السّلام)، بينما تنتهك حرمات الدِّين على يد أمير مؤمنين مزيّف.

لكنّه لم يؤثر السّلامة، ولم يرنُ إلى تطلّعات أرضيّة، فقد كان هدفه أعظم، ورسالته أعمق غوراً وأبعد فهماً لعقليّة الإنسان آنذاك.

كان يريد أن يقول: مادامت السنّة قد نزلت، ومادام الإسلام وليداً يحبو، فما على المسلم إلّا أن يكون حفيظ سنّته، وراعي عقيدته، لا من أجله فحسب، بل من أجل كلّ مَن سيولد في الأحقاب التالية على هذه السنّة، فجاءت صيحته نبراساً لبني الإنسان في كلّ عصر ومصر، وتحت أيّة عقيدة انضوى، إذ إنَّ أهداف الأديان هي المحبّة والتمسّك بالفضائل، لتنظيم علاقة الفرد بربّه أوّلاً، وبأخيه ثانياً.

فلعمري! أيّة ثورة تقوم على الحقّ القراح الخالي من أغراض الهوى، ولا تجد لها سبيلاً إلى المهج والحنايا! ألم تكن دعوة الحسين (عليه السّلام) دعوة للتّفريق بين الحقّ والباطل؟ أمَا قيل إعجاباً بهذه الثورة: إنّ الإسلام بدؤه محمّدي وبقاؤه حسيني؟

ولنطرح جانباً آراء أولئك الذين رأوا في حركة الحسين (عليه السّلام) حركة عاطفيّة بحتة، ألقى فيها الشهيد المقدَّس بنفسه وآل بيته وصحبه الأطهار في معركة كانت معروفة النتائج سلفاً، والتي تمثّلت بوقوف ثلاثة وسبعين مقاتلاً في مواجهة خمسين ألف مقاتل.. فتلك الآراء إنّما تمثّل الجانب الفكري ناقص النّضج، والذي وضع حركة الحسين (عليه السّلام) في إطار الثّورة للثّورة ولا شيء عداها. ولم ينظر إليها ما هي، وكما هدفت إليه كمنعطف خطير لمسيرة العقيدة الإسلاميّة، والتي لولاها، لَما كان وجد المؤرّخون شيئاً يتحدّثون به عن الإسلام.

ولعلّ خير مَن وصف هذه الثّورة، كان ماربين الألماني في كتابه (السياسة الإسلاميّة)، إذ قال: إنّ حركة الحسين في خروجه على يزيد، إنّما كانت عزمة قلب كبير عزّ عليه الإذعان، وعزّ عليه النّصر العاجل، فخرج بأهله وذويه ذلك الخروج الذي يبلغ به النصر الآجل بعد موته، ويحيي به قضيّةً مخذولةً ليس لها بغير ذلك حياة.

من هذا الفهم، يتّضح أنّ قضيّة السنّة الإسلاميّة كانت قضيّة مخذولة عندما قام الحسين (عليه السّلام) بثورته، وما كان له محيص من السّير بها بالشكل الذي بدت به، غير ضانٍّ بنفسه وبأنفس أهل بيته وصحبه الأطهار؛ لعلمه الأكيد بأنّ ثورته وإن كانت ضعيفة بتركيبتها الماديّة، إلاّ أنّ لها صلابة الصّخر والمبدأ بتركيبتها الروحيّة والرمزيّة، وأنّه بالِغ بها النصر والاستمرار للعقيدة، ما لم يكن ليبلغه بإيثار السّلامة من مذبحة كربلاء.

والحسين (عليه السّلام) عندما ثار، لم يثَر لأجل نوال كرسي الحكم، إذ لم تكن منطلقاته من قاعدة فرديّة أو زمنيّة، بل كانت أهدافها تتعدّاه إلى الأعقاب والأجيال القادمة، التي ستعرف كيف كان شكل الفداء دفاعاً عن عقيدة سُلِّمت لها متلألئة. إنّها عقيدة الشهداء البررة التي لا تنخدع بسراب المطامع الدنيويّة، ولا ترضى بمبدأ المساومة في ميدان العقيدة.

ورفض الخداع والمساومة مقرون دوماً بالاستعداد لبذل الحياة وإطفاء شعلة النّفس إذا كان في إطفائها ما ينير شمعة تهدي السّائرين على طريق الحقّ والعدل.

وهذا المبدأ المنبثق عن هكذا عقيدة، من الصعب إدراك معانيه في أوانه، سيّما إذا كانت الموازين آنذاك هي الموازين التي نَصّبها حكّام ظالمون لأمّة تدجّنت روحها، وذبلت عقيدتها، فما عادت تفرّق بين الخطأ والصّواب.

وعلى هذا المقياس الذي لا يرفعه إلا الصّفوة المختارة من الصالحين، أصاب الحسين (عليه السّلام) بثورته في المدى البعيد، وأخفق في المدى القريب، طلب إحقاق الحقّ في وقته فلم يصل إليه، لكن أمّة الإسلام أدركته بمماته، ولم يقف الأمر عندها على مستوى إدراكه فحسب، بل صار جزءاً من وجدانها العقائدي، وضميراً يستصرخها ويستحثّها في كلّ مواقف الضعف، وحيال مختلف أشكال التدجين والظلم والانحراف عن السّنة.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد