مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

هل يمكن أن يتفوق أهل الباطل قيميًّا؟

يتصور الكثيرون أنّهم إذا كانوا على حق فهم أفضل من أهل الباطل من جميع الجهات. وفي هذا خطأ فادح لأنّه يُعمي عن العيوب التي يجب إصلاحها. قد يهدي الله تعالى شخصًا سيئ الأخلاق فاقدًا للكثير من القيم الجميلة، يهديه إلى الحق وإلى الصراط المستقيم عسى أن يبدأ رحلة الإصلاح. فهدايته هذه لا تعني أنّه وصل وأدرك المطلوب. ولعله من هذه الجهة نسأل الله تعالى في كل فاتحة أن يكون الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم لا المغضوب عليهم ولا الضالين. فداخل الصراط المستقيم يجب أن تجري عملية تصفية أيضًا، خصوصًا ممّا يمكن أن يستجلب الغضب الإلهي أو الضلالة.

 

وهناك من يسلك سبيل الباطل ويمشي على طريق الضلالة رغم أنّه يتمتع بالكثير من القيم الإيجابية، مثل اعتناقه لأهمية الإبداع والحرية والمشاركة والوحدة وروح الجماعة والعمل الفريقي. بل قد يكون أشد إيمانًا بباطله من إيمان المؤمن بحقه. فهناك من قد يكون مؤمنًا بالله ضعيف الإيمان متزلزل القلب مما آمن به، في حين أنّ هناك من يؤمن بالباطل ويكون راسخ الإيمان. ولعله إلى هذا الإشارة في قول الله تعالى: {وَالَّذينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ‏ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُون}.[1]

 

وقد قيل بأنّ الله ينصر الذين آمنوا حتى لو كانوا مؤمنين بالباطل، ينصرهم على ضعفاء الإيمان بالحق المضطربين المشككين. قال ذلك من أخذ الإطلاق في قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ}.[2]

 

ولأنّ المعركة في هذا العالم هي في الحقيقة صراعٌ قيمي أكثر من أيّ شيء آخر، فإنّ الانتصار يكون لمن كانت منظومته القيمية أفضل من غيره. فعلى سبيل المثال، قد ينصر الله تعالى الوفي بالعهد والملتزم بالاتفاقية حتى لو كان كافرًا، لأنّ قيمة الوفاء بالعهد هي عند الله من أعلى القيم الاجتماعية التي بها تُحفظ المجتمعات وتبقى. وبقاء المجتمع الإنساني أولى من كل شيء عند الله، لأنّه ببقاء الإنسان ونسله يتحقق الوعد الإلهي في النهاية، وهو المقطوع المحتوم. يقول أمير المؤمنين(ع): وَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَظُنُّ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ سَيُدَالُونَ مِنْكُمْ‏ بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ و تَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ وَبِمَعْصِيَتِكُمْ إِمَامَكُمْ فِي الْحَقِّ وَطَاعَتِهِمْ إِمَامَهُمْ فِي الْبَاطِلِ وَبِأَدَائِهِمُ الْأَمَانَةَ إِلَى صَاحِبِهِمْ وَخِيَانَتِكُمْ وَبِصَلَاحِهِمْ فِي بِلَادِهِمْ وَفَسَادِكُمْ، فَلَوِ ائْتَمَنْتُ أَحَدَكُمْ عَلَى قَعْب لَخَشِيتُ أَنْ يَذْهَبَ بِعِلَاقَتِه‏".[3]

 

ومن جملة ما نراه في سنن الله الاجتماعية أنّ الله تعالى قد ينصر أهل الباطل لمسارعتهم، على أهل الحق لإبطائهم، كما حصل في المواجهة الكبرى بين جيش الإمام علي عليه السلام وجيش معاوية، وذكر لنا أمير المؤمنين سر ذلك حين قال: "أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيَظْهَرَنَّ هؤُلاَءِ الْقَوْمُ عَلَيْكُمْ، لَيْسَ لأنَّهُمْ أَوْلَى بِالْحَقّ منكم وَلكِنْ لإسْرَاعِهِمْ إِلَى بَاطِلِ صَاحِبِهِمْ، وَإِبْطَائِكُمْ عَنْ حَقِّي".[4]

 

صحيح أنّ المسارعة قد لا تبدو كقيمة إيجابية بحد ذاتها، لكن لو تأملنا في مقتضيات الإيمان بأي قضية لوجدنا أنّه كلما تعمَّق الإيمان بشيء كان صاحبه أسرع إلى نجدته وطلب مقتضياته ولوازمه. وهذا ما يرجع إلى قيمة الإيمان بحد ذاتها بمعزل عن متعلقاتها!

 

الصراع الجوهري في هذا العالم لا يجري بين العقائد كما يُتصوَّر، بل يجري بين القيم؛ لأنّ الحياة على الأرض تعتمد على القيم. ويجب أن يفهم أهل الحق هذه الحقيقة إن كانوا يسعون للانتصار على أعدائهم في الدنيا. أمّا في الآخرة فلا شك أنّ الحساب سيكون على أساس الحق والباطل، وإن كان الكثير من أهل الحق سيصلون إلى الجنة بعد معاناة طويلة ربما تكون بدأت معهم في هذه الدنيا أيضًا.

 

قوانين عالم الدنيا ترتبط بالحياة الاجتماعية وقوانين عالم الآخرة ترتبط بالفرد. فالدنيا تقوم على الاجتماع والآخرة تقوم على الفردانية: {وَكُلُّهُمْ آتيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْدا}.[5] والذي يريد الغلبة في الدنيا يجب أن يراعي قوانينها الاجتماعية التي تظهر في القيم. فالمجتمع الذي يتمتع أفراده بالشعور بالحرية سيكون أقوى من المجتمع الذي لا يشعر أبناؤه بذلك، حتى لو كان الأمر على عكس ذلك في الواقع. فإنّ الشعور بالحرية يمنح الناس طاقة عظيمة للتحرك والإبداع والمشاركة، وهذا ما يجعل المجتمع قويًّا مفعمًا بالثمار والنتاج.

 

صحيح أنّ معدل الحرية في مجتمعنا أعلى من معدل الحرية في معظم المجتمعات الغربية؛ وربما لا يمكن المقارنة بينهما من حيث الحقيقة، لكن الغرب تفوّق علينا بوهم الحرية؛ فتجد الناس في أفضل المجتمعات المسلمة اليوم لا يشعرون أنّهم أحرار بما يكفي لينطلقوا بكامل طاقتهم للمشاركة السياسية التي تُعد الركن الأساس لكل الأنشطة الثقافية والفكرية والاقتصادية وغيرها.

 

وينظر أبناء المجتمعات الضالة إلى المجتمع المسلم نظرة دونية فيتعاظم شعورهم بأنّهم على حق أو أنّهم أخيار، ويقوى عندهم النزوع إلى قتال المسلمين وإبادتهم عن بكرة أبيهم. وليس في هذا سوى غباء مُفرط عند المسلمين الذين يستثيرون عداء الأعداء وحقدهم ممّا يجلب لهم الكثير من الويلات. إنّ من أهم عوامل الغلبة على الأعداء، بل يمكن القول إنّه العامل الأول، هو أن يشعر الأعداء بالدونية كلما نظروا إلى أهل الحق؛ هذا ما يكبتهم حقًّا ويضعفهم صدقًا، حتى لو امتلكوا الكثير من المال والعتاد والأسلحة المتطورة.

 

حين ينظر الأعداء إلى أهل الحق فيرونهم غافلين مستهترين لا يراعون قواعد العقل وسلوك العقلاء في إدارة أمورهم، يزداد كلَبهم عليهم. لقد حذر الإمام علي عليه السلام الخليفة الثاني من مغبة الخروج لمواجهة الروم والفرس بنفسه لأن ذلك سيجعلهم أشد تكالبًا ووحشية: "فَكُنْ قُطْبًا، وَاسْتَدِرِ الرَّحَا بِالْعَرَبِ، وَأَصْلِهِمْ دُونَكَ نَارَ الْحَرْبِ، فَإِنَّكَ إِنْ شَخَصْتَ مِنْ هذِهِ الاَرْضِ انْتَقَضَتْ عَلَيْكَ الْعَرَبُ مِنْ أَطْرَافِهَا وَأَقْطَارِهَا، حَتَّى يَكُونَ مَا تَدَعُ وَرَاءَكَ مِنَ الْعَوْرَاتِ أَهَمَّ إِلَيْكَ مِمَّا بَيْنَ يَدَيْكَ. إِنَّ الاَعَاجِمَ إِنْ يَنْظُرُوا إِلَيْكَ غَداً يَقُولُوا: هذا أَصْلُ الْعَرَبِ، فَإِذَا اقْتَطَعْتُمُوهُ اسْتَرَحْتُمْ، فَيْكُونُ ذلِكَ أَشَدَّ لِكَلَبِهِمْ عَلَيْكَ، وَطَمَعِهِمْ فِيكَ".[6]

نعم أهل الحق يسيرون نحو الهدف الصحيح ما داموا على الحق، وأهل الباطل يسيرون نحو الهاوية ما داموا متمسكين بباطلهم؛ لكن ذلك لا يعني أنّ أهل الحق لن يخسروا ويعانوا كثيرًا بسبب النقص الفادح على صعيد القيم الاجتماعية. في الوقت الذي نرى فيه أهل الباطل أقل عناءً وخسارة بسبب شدة تمسكهم بتلك القيم.

 

يقع حادث في بلد إسلامي فتي حيث تنفجر شاحنة محملة بالوقود فتقتل العشرات، والحادث نفسه يقع في بلد كافر فيُجرح شخصان. كل ذلك لأنّ ذلك البلد الإسلامي لم يكن يعتمد قوانين السلامة التي هي أحد أهم علامات العقلانية، وكان البلد الكافر شديد التمسك والالتزام بها. يتكرر هذا المشهد في كل شيء تقريبًا من حوادث الزلازل والسيول والحرائق والمواجهات العسكرية والأمنية والمسائل الاقتصادية التي لا تُعد ولا تُحصى.

 

هذه فتنة لكل مؤمن غير عارف بأسرار العالم. والفاتنون له هم المؤمنون أمثاله الذين يتحملون مسؤولية كبيرة على صعيد التسبُّب بضعف إيمان الناس جراء استخفافهم بقوانين العالم وسنن الحياة الاجتماعية. وإذا لم يتب هؤلاء صدقًا بإصلاح سيرتهم هذه، فسوف يكون لهم نصيب من العقاب الإلهي ليس في الدنيا فقط.

 

إن الحديث الشريف الوارد عن الإمام الباقر(ع): "قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: "لَأُعَذِّبَنَ‏ كُلَ‏ رَعِيَّةٍ فِي الْإِسْلَامِ أَطَاعَتْ إِمَامًا جَائِرًا لَيْسَ مِنَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَتِ الرَّعِيَّةُ فِي أَعْمَالِهَا بَرَّةً تَقِيَّةً، وَلَأَعْفُوَنَّ عَنْ كُلِّ رَعِيَّةٍ فِي الْإِسْلَامِ أَطَاعَتْ إِمَامًا هَادِيًا مِنَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَتِ الرَّعِيَّةُ فِي أَعْمَالِهَا ظَالِمَةً مُسِيئَةً".[7]  يدل على أنّه يمكن لجماعة الحق أن تكون في سيرتها غير بارّة وغير تقية مثلما يدل على أنّ جماعة الباطل قد تكون بارّة تقية بمعنى أنّها مراعية للقوانين الأرضية.

 صحيح أنّ العاقبة الحسنى ستكون لأهل الحق، لكن هل يمكن أن يبقى الإنسان على الحق وهو يعاني كل هذه المعاناة؟! إذا كان مثال هؤلاء مثل تلك الجماعة التي ركبت حافلة متجهة إلى المقصد الصحيح، رغم أنّها تشاغب كثيرًا داخل الحافلة أثناء الطريق، فهل سيتحمل سائق الحافلة كل هذا الشغب؟ وإلى متى يمكنه أن يستمر في قيادة الحافلة دون أن يتخلص من رؤساء الشغب فيها؟!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]. سورة العنكبوت، الآية 52.

[2]. سورة غافر، الآية 51.

[3]. نهج البلاغة، ص 67

[4]. نهج البلاغة، ص141.

[5]. سورة مريم، الآية 95.

[6]. نهج البلاغة، ص203.

[7]. الكافي، ج1، ص376.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد