مقالات

الـملّا علي بن فايز: ريادة شعريّة حسينيّة بالغة

عليّ بن فايز بن سلمان بن حسين بن عبدالله الحجّيّ الأحسائيّ الـهفوفيّ، الـمعروف بالـملّا علي بن فايز، واحد من كبار الـخطباء الحسينيين، وشاعر شهير ذاع صيته، وعمّ الأرجاء وطاف بها وطبّقها، كأحد أبرز شعراء الرّثاء في تاريخ أدب الطّفّ.

ولد في (الأحساء) في (حيّ الرّفعة الشماليّة) بمدينة (الـهفوف) بحدود العام ألف ومئتين وخمسة وأربعين للهجرة، وبـها نشأ وترعرع.

 

عاش أوّل أمره في مدينة الـهفوف بالأحساء، وكان يـمتهن الحياكة لتأمين معيشته وأخته، التي كان يرعاها بعد فقد أبويه، وكان صاحب صوت عذب رقيق جميل للغاية، ما حدا به ليكون منشدًا وقارئًا للأهازيج والمدائح في الأعراس وبعض المناسبات الاجتماعيّة المختلفة، كما كان يتمتّع بقدرة فائقة جاذبة على سرد قصص التّاريخ، فانتشر اسـمه وعرف واشتهر.

وحين سـمع به الأتراك الذين كانوا يحكمون الأحساء وسائر الخليج في أوائل النّصفِ الثّاني من القرن الثالث عشر الهجريّ، طلبوا إليه أن ينشد لـهم بعض الأشعار، ليصبِح كالـموظّف عندهم، يـحضر كلّ يوم، ويطلق لـحنجرته البوح بالأشعار والأهازيج.

 

وانتقلت السّريّة التي كان يعمل بـها "بن فايز" إلى القطيف فطلب منه أن يرافقها، فاعتذر أوّلاً لرعايته أخته، وحين قدّموا إليـها مرتّبًا شهريًّا، انتقل معهم، وفي القطيف سـمع باسـمه حاكمها آنذاك "منصور بن جمعة" فاستضافه واقترح عليه أن يجعل صوته وأشعاره حكرًا على أهل البيت عليهم السّلام مدحًا ورثاء، وبعد تردّد لكونه أمِّيًّا لا يـحسن قراءة العزاء والـخطابة، صعد "بن فايز" منبر الحسين عليه السّلام في مجلس "بن جمعة" نفسه، وأطلق أبياته الشّهيرة التي منها: (نوحي على الأولاد يا زهره الحزينة)، فضجّ النّاس، وعمّ خبره الأرجاء وصولاً إلى البحرين حيث طلب منه القدوم إليها، فقصدها وحطّ فيها رحاله خطيبًا حسينيًّا من الطّراز الرّفيع، وشاعرًا يلهج بأبياته القريب والبعيد والقاصي والدّاني.

 

وفي (البحرين) تزوّج بامرأة من قرية (سند)، واستقرّ في تلك الدّيار حتّى وفاته، وكان جلّ سكناه في جزيرة (سترة)، كما سكن غيرها من المناطق، لكنّ الـمحطّة الأخيرة له كانت في (سند) حيث توفي فيها في العام ألف وثلاثمئة واثنين وعشرين للهجرة، وقبره بها لا يزال معروفًا.

ولطالـما تردّد على الأحساء بين فينة وأخرى، صاعدًا أعواد منبر الحسين عليه السّلام، قارئًا مؤثّرًا، وقد كان باسط اليدين بالجود والعطاء، وجلّ ما كان يحصل عليه من بركة الإمام الحسين عليه السّلام، كان يصرفه على المحتاجين، مكتفيًا وزوجته باليسير القليل.

 

لـم يـخلّف له ولدًا بعده، ولـم يترك وراءه إرثًا دنيويًّا، إنّما خلّف ديوانًا شعريًّا كبيرًا جدًّا في الأدب الحسينيّ، نهلت وتنهل منه أجيال من الخطباء، فعاش اسمه وخلد وسيعيش ويخلد ما دام للإمام الحسين عليه السّلام ذكر وسيرة.

لـمع اسم "بن فايز" كشاعر فذّ بعد وفاته، ذلك لأنّ الشّعر يعيش أبدًا في صدور الـمتلقّين، وتتناقله الأجيال جيلاً بعد جيل.

 

يقول عنه الكاتب سالم النويدري في كتابه (أعلام الثّقافة الإسلاميّة في البحرين): «هو الخطيب والشّاعر البحرانيّ الكبير الـملاّ عليّ بن حسين بن فايز، أشهر شاعر شعبيّ عرفته البحرين في القرن الثالث عشر الهجريّ وما بعده، وما زالت أصداء شعره تتردّد في رحاب المحافل الحسينية فتشدّ القلوب إلى ذكرى السّبط الشّهيد عليه ‌السلام ومأساة كربلاء الدّامية».

 

وفي مقال بعنوان: رائد الرّثاء الحسينيّ الخالد، للسيّد هاشم الشّخص، وحين وصوله إلى دراسة شعره وأدبه، يقول إنّ شعره الشعبيّ امتاز بـميزات عديدة منها: التّصوير الرّائع الـمفجع لـمأساة كربلاء، بحيث يجعل السّامع لشعره يعيش وكأنّه أمام الـمأساة. والسّلاسة والتّلقائيّة، فلا تـجد في شعره تكلّفًا أو ابتعادًا إلى خيال غير واقعيّ. واللّهجة الشّعبيّة البحرانيّة التي اعتمدها في شعره: وهذه جذبت النّاس إلى شعره أكثر، لأنّه خاطبهم بلغتهم الّتي يعيشونـها ويفهمونـها.

 

كذلك يشير الشّخص إلى ابتكاره وزنًا جديدًا في الشّعر الشّعبيّ لم يكن موجودًا قبله، نسب إليه، وعرف بـ:(الفايزي)، كما ابتكر وزنًا آخر لم يكن مسبوقًا إليه أيضًا، لم يعرف باسم خاصّ ومن أمثلته مطلع القصيدة المعروفة، الّتي يردّدها الخطباء: حطّوا على هالوادي، حطّوا على هالوادي.

وكان الشّعر عند "بن فايز" ملكة وهبة ربّانيّة خالصة، يـجري من قلبه على لسانه جريَ السّريّ إلى مصبّ النّهر الحسينيّ الكبير، كان يقوله ارتجالاً وعلى السّليقة، وأحيانًا كان يصّعّد منه كزفرات حرّى وهو على منبره، فلا يفرّق النّاس بين محفوظاته وإنشائه الجديد.

 

وإلى اليوم لا يستغني الخطباء عن أشعاره في شتّى بقاع الأرض، في كلّ موسم عاشورائيّ، ورغم أنّ أغلب أشعاره مكنونة في صدور كثير من النّاس، لكنّهم ما إن يسمعوا بها من جديد، حتّى يردّدوها، ويحفظوها من جديد بدهشة جماليّة، وكأنّهم يتلقّفونها أوّل مرّة.

و"بن فايز" كان ينشئ الشّعر بكثرة ودون تكلّف، ولو جـمع ما قاله من الشّعر في حياته لبلغ أضعاف ما هو موجود اليوم من شعره، لكن للأسف ضاع جلّ شعره، وما جـمع بعد وفاته هو من محفوظات تلامذته ومحبّيه، ولا يزال عدد من القصائد يحفظها النّاس، لم تدوّن في ديوانه المطبوع.

بقيت الإشارة إلى أنّه طبِع باسم "بن فايز" ديوانان هما: الفائزيّات الكبرى، وفوز الفائز، إضافة إلى دواوين أخرى جلّها تجاريّة، وهذا يشير إلى أهميّة إعادة النّظر بجمع تراثه وضبطه وتهذيبه لغويًّا وأدبيًّا، ثمّ طبعه طبعة حديثة جميلة، ليكون بالمستوى اللّائق بهذا الشّاعر الحسينيّ الكبير.

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد