مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

حين تصبح الشّهادة حياة الأمّة

تقديم النفس في سبيل الله لا يعني تحقيرها والاستخفاف بها أبدًا. قد يشعر المؤمن بالحقارة الذاتية حين يغلب عليه النّظر إلى تقصيره وأخطائه، لكنّه لا يمكن أن يستخف بنفسه التي هي أعظم أمانة بين يديه. وفي قوانين العشق، العاشق لا يُقدّم لمعشوقه إلا أغلى ما لديه وأنفس وأجمل. أي شيء أقل، يعني عدم وجود العشق الحقيقي. ولذلك حين نطلّ على مدرسة العشق التي تجلّت في أعلى مظاهرها في عاشوراء، نجد الإمام الحسين (ع) وأصحابه، وفي الوقت الذي كانوا فيه مقبلين على الموت، بل ويتسابقون إليه، إلّا إنّهم سعوا حتى الرّمق الأخير لبذل كل ما يمكن أن يبذله الإنسان في الحياة من جهد وتدبير.

لا شيء أغلى في الحياة من الحياة. ولأنّ الحياة درجات، فإنّ الذي يتمتّع بأعلى درجات الحياة هو الذي يعرف معنى العشق الحقيقي حين يسعى لتقديم أعلى وأغلى حياة. نتعلّم من الإمام الحسين وأصحابه تقديس هذه الحياة العليا التي تتمثّل في بذل كل جهاد للحفاظ عليها وصيانتها أثناء تقديمها للمعشوق. وهذا ما يظهر بالتخطيط الدقيق والتدبير الـمُحكَم للإمام الحسين أثناء مواجهة الأعداء، حيث سعى بكل ما يمكن وفوق ما نتصوّر لقتل أكبر عددٍ ممكن من المجرمين قبل شهادته.

 

عاشوراء ملحمة الدم والموت والقتل؛ لكنّها ملحمة الحياة أيضًا. فحين يوضع الإنسان أمام خيارين: إما حياة الذلّ أو الموت بعزّ، فإنّه يختار الحياة الحقيقية التي هي الموت بعزّ، لأنّ الحياة بذلٍّ ليست حياةً أصلًا. ولذلك قال الإمام علي(ع): "فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ‏ وَالْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ‏ قَاهِرِين‏".[1]

إنّ كل الدروس التي يُقدّمها لنا هذا القائد الرسالي هو درس الحياة الحقيقية، والتي تتجلّى في هذا العالم بأن يعيش الإنسان كل لحظةٍ فاعلًا مقدامًا، وعند مواجهة الطواغيت قاهرًا. فإذا عرف الإنسان ما تعنيه الحياة الحقيقية في الدّنيا توجّه إلى تمديدها والحفاظ عليها بأطول ما أمكنه.

ولو قُدّر للإمام الحسين(ع) أن يعيش ساعةً واحدة في هذه الدنيا أزيد ممّا عاشه لما قصّر لحظة. ولو قُدّر للإمام الحسين(ع) أن يعيش ساعة، بل ساعات وأيام أزيد ممّا عاشه في هذا العالم، لما كانت لتكون عيشًا وحياةً، بل موتًا بكل ما للكلمة من معنى. الموت الذي يكون بالوجود مع الظالمين والسكوت عنهم.

 

ما كان الإمام الحسين(ع) ليموت في سبيل الله، أو بتعبيرٍ صحيح، ليقدِّم نفسه مقتولًا، إلا من أجل أن يحفظ الحياة الحقيقية التي عاشها طوال عمره. فما فائدة كل هذا العمر إن كان سينتهي بالموت الواقعي الذي هو موت الروح. فكان القتل لهؤلاء حياةً، لأنّهم أرادوا بهذا القتل الحياة.

وهذا الفعل هو أبعد ما يكون عن اليأس من الحياة، بل هو يأسٌ كامل من حياة ليس فيها حياة، فهو يأسٌ وزهدٌ وتنازل عن موت، ولذلك كانت لهم الحياة. لقد كانت كلمات مسلم بن عقيل الأخيرة أكبر شاهدٍ على هذا المعنى حين بكى في لحظاته الأخيرة، كما جاء في بعض التواريخ، وسأله عمرو بن عبيد الله بن عباس مستهجنًا: إنّ من يطلب مثل الذي تطلب إذا نزل به مثل الذي نزل بك لم يبكِ. فقال مسلم: إنّي والله ما لنفسي أبكي ولا لها في القتل أرثي، وإن كنت لم أُحب لها طرفة عين تَلَفًا، ولكن أبكي لأهلي المقبلين إلي، أبكي لحسين وآل حسين.[2]

فانظر إلى هذا البطل الذي قدّم نفسه في سبيل الله غير نادمٍ أو مستنكفٍ كيف يقول: "وإن كنت لم أحب لها طرفة عين تَلَفًا"، تعرف حينها كيف يُصنع الشهداء الحقيقيون. فالشهادة هي طلبٌ للحياة الحقيقية ولا يمكن لمن يطلب هذه الحياة إلا أن يُقدّرها أعلى تقدير، فلا يجب أن يتلف منها طرفة عين. ولأنّنا لم نُدرك هذا المعنى، فإنّنا لم نعتنِ بهذا الجانب الأصلي من قيادة الإمام الحسين في عاشوراء، ولم نشتغل في الكشف عن أبعاده وتفاصيله التي يمكن أن تحمل الكثير من دروس التدبير والتخطيط العسكري والميداني. فتركّز همّنا على بلوغ المصرع والتطرُّق إلى المفجع ونحن مستغرقين في تصوير أشكال الموت، فحُرمنا من تلك الدروس القيادية.

 

وقد جاء في كتاب البداية والنهاية عن أبي جناب: "وكثرت المبارزة يومئذٍ بين الفريقين، والنصر في ذلك لأصحاب الحسين بقوة بأسهم وأنّهم مستميتون لا عاصم لهم إلا سيوفهم. فأشار بعض الأمراء على عمر بن سعد بعدم المبارزة".

موضع خيام الإمام الحسين عليه السّلام ودورها في ساحة القتال

اختار الإمام الحسين عليه السلام عند وصوله كربلاء موقعًا لنصب الخيام تكون لها فيه مزيّتان في حال وقوع القتال:

1. عدم استطاعة العدو الهجوم عليها إلّا من جهةٍ واحدة.

2.  تمتّع النساء والأطفال فيها بأمن أكثر.

ولذلك، فقد أمر الإمام بأن تُضرب الخيام في منطقة تمتدّ خلفها قصباء، بحيث لم يكن بمقدور العدوّ أن يُهاجم جيش الإمام عليه السلام من الخلف، فقد جاء في رواية الطبري: فَسارَ [الحُسَينُ عليه السلام]، فَلَقِيَتهُ أوائِلُ خَيلِ عُبَيدِ اللّهِ، فَلَمّا رَأى ذلِكَ عَدَلَ إلى كَربَلاءَ، فَأَسنَدَ ظَهرَهُ إلى قَصباءَ وخَلًا؛ كَيلا يُقاتِلَ إلّا مِن وَجهٍ واحِدٍ، فَنَزَلَ وضَرَبَ أبنِيَتَهُ.

ونقرأ في رواية ابن أعثم: فَنَزَلَ القَومُ، وحَطُّوا الأَثقالَ ناحِيَةً مِنَ الفُراتِ، وضُرِبَت خَيمَةُ الحُسَينِ عليه السلام لِأَهلِهِ وبَنيهِ، وضَرَبَ عَشيرَتُهُ خِيامَهُم مِن حَولِ خَيمَتِهِ.

مضافًا إلى ذلك، فقد كانت خلف الخيام أو خلف القصباء التي كانت الخيام أمامها، حفرة تشبه الجدول، حيث تفيد رواية الطبري أنّ الإمام أمر بحفرها ليلة عاشوراء، فحفروا ما يشبه الخندق وألقوا فيه حطبًا وقصبًا كي يُضرموا فيه النار عند هجوم العدوّ، ويوجِدوا مانعًا آخرَ أمام هجوم العدوّ من الخلف، وهذا هو نصّ الرواية:

"وأمَرَ بِحَطَبٍ وقَصَبٍ كانَ مِن وَراءِ البُيوتِ يُحرَقُ بِالنّارِ؛ مَخافَةَ أن يَأتوهُم مِن وَرائِهِم. قالَ: وكانَ الحُسَينُ عليه السلام أتى بِقَصَبٍ وحَطَبٍ إلى مَكانٍ مِن وَرائِهِم مُنخَفِضٍ كَأَنَّهُ ساقِيَةٌ، فَحَفَروهُ في ساعَةٍ مِنَ اللَّيلِ، فَجَعَلوهُ كَالخَندَقِ، ثُمَّ ألقَوا فيهِ ذلِكَ الحَطَبَ وَالقَصَبَ، وقالوا: إذا عَدَوا عَلَينا فَقاتَلونا ألقَينا فيهِ النّارَ؛ كَي لا نُؤتى مِن وَرائِنا، وقاتَلنَا القَومَ مِن وَجهٍ واحِدٍ. فَفَعَلوا وكانَ لَهُم نافِعا".

 

الإجراء الآخر الذي تمّ في ليلة عاشوراء بأمر الإمام عليه السلام للحيلولة دون هجوم العدوّ من الخلف، هو أنّ خيام أصحاب الإمام نُصبت إلى جانب بعضها بعضًا وربطوها مع بعضها بحبلٍ من ثلاث جهات، ولم يتركوا سوى طريق واحد من الأمام لمواجهة العدوّ، فلنتأمّل الرواية التالية:

"وخَرَجَ [الحُسَينُ عليه السلام ] إلى أصحابِهِ، فَأَمَرَهُم أن يُقَرِّبوا بَعضَ بُيوتِهِم مِن بَعضٍ وأن يُدخِلُوا الأَطنابَ بَعضَها في بَعضٍ، وأن يَكونوا هُم بَينَ البُيوتِ إلَا الوَجهَ الَّذي يَأتيهِم مِنهُ عَدُوُّهُم".

ولو لم تكن هذه الإجراءات الحكيمة، لما كان باستطاعة جيش ابن سعد أن يُهاجم أصحاب الإمام عليه السلام من الخلف فحسب، بل كان باستطاعته أن يحاصرهم بسهولة ويقتل الإمام عليه السلام وأصحابه، أو يأسرهم من الخلف في أيسرِ قتالٍ.

ولكن فوجئ العدوّ عندما همّ بالهجوم في صباح عاشوراء، حيث رأى نفسه أمام ألسنة النيران والدخّان التي كانت تحيط بأطراف خيام الإمام عليه السلام وأصحابه، يقول الضحّاك المشرقي في هذا المجال: "لَمّا أقبَلوا نَحوَنا، فَنَظَروا إلَى النّارِ تَضطَرِمُ فِي الحَطَبِ وَالقَصَبِ، الَّذي كُنّا ألهَبنا فيهِ النّارَ مِن وَرائِنا لِئَلّا يَأتونا مِن خَلفِنا". ويضيف قائلًا: إنّ خيام أصحاب الإمام عليه السلام ضُرب حولها طوقٌ من النيران والدخّان، بحيث إنّ الشمر عندما مرّ بالقرب منها لم يكن يرى سوى نيران وسحب من الدخّان كانت تتصاعد منها!

 

واستنادًا إلى هذه الخطّة، وبفضل هذا التنظيم العسكري، استطاع جيش الإمام عليه السلام الذي لم يكن عدده يتجاوز 72 نفرًا حسب النقل المشهور، أن يقاوم لساعات أمام جيش العدوّ الذي قدّر عدده بـ 35 ألفًا، وأن يقتل عددًا كبيرًا منه، حيث يُصرّح الطبري في هذا المجال:

"وقاتَلوهُم حَتَّى انتَصَفَ النَّهارُ، أشَدَّ قِتالٍ خَلَقَهُ اللّهُ، وأخَذوا لا يَقدِرونَ عَلى أن يَأتوهم إلّا مِن وَجهٍ واحِدٍ؛ لِاجتِماعِ أبنِيَتِهِم، وتَقارُبِ بَعضِها مِن بَعضٍ".

وقد أدّت شدّة مقاومة أصحاب الإمام الحسين عليه السلام في المواجهة المباشرة، إلى أن يأمر عمر بن سعد مجموعة من جيشه بأن يُطيحوا بخيامهم كي يستطيعوا محاصرتهم.

ولكنّ هذه الخطّة لم تنفع هي الأخرى؛ ذلك لأنّ أصحابَ الإمام عليه السلام كانوا ينصبون الكمائن بين الخيام في مجاميع مؤلّفة من ثلاثة أشخاص أو أربعة، فكانوا يقتلون الأعداء الذين كانوا منشغلين بإطاحة الخيام.

وعندما لم يجنِ ابنُ سعدٍ فائدةً من هذه الخطّة، أصدر الأمرَ بإيقافها من أجل الحيلولة دون تكبُّد خسائر أكبر في الأرواح، ثمّ أمر من جديد: "أحرِقوها بِالنّارِ، ولا تَدخُلوا بَيتا ولا تُقَوِّضوهُ، فَجاءوا بِالنّارِ، فَأَخَذوا يُحرِقونَ".

فأراد أصحاب الإمام عليه السلام منعهم من إحراق الخيام ولكنّ الإمام عليه السلام خاطبهم قائلًا: "دَعوهُم فَليُحرِقوها؛ فَإِنَّهُم لَو قَد حَرَقوها لَم يَستَطيعوا أن يَجوزوا إلَيكُم مِنها".

وبذلك فقد أحرق العدوّ قسمًا من خيام أصحاب الإمام عليه السلام والتي كانت تحول دون نفوذه، ولكنّهم وكما أنبأهم الإمام عليه السلام لم يستطيعوا في هذه المرّة أيضًا أن ينفذوا في الحلقة الدفاعيّة لأصحاب الإمام، وبذلك استطاع الإمام وأصحابه الأبطال والأوفياء أن يقاوموا حتّى آخر مقاتل وحتّى آخر نفس، أمام جيش الكوفة الذي كان قد تدفّق عليهم كالسيل من كلّ جانب.

 

ويمكننا أن نستنتج استنادًا إلى الروايات السابقة:

1. إنّ انتشار خيام أصحاب الإمام عليه السلام كان على شكل قوس بحيث كانت خيام النساء في وسطه، وكان ضلعاها يمتدّان من الجانبين وحتّى ساحة الحرب. ومن المحتمل أنّ هذين الضلعين كانا يُمثّلان خيام أصحاب الإمام التي كانت خالية في الغالب؛ بسبب وجود سكّانها في ساحة القتال، وكانوا يستخدمونها كمتاريس أو حواجز دفاعيّة، وقد أُحرقت في نهاية المطاف بأمر عمر بن سعد.

2.  لم تكن هناك مسافة كبيرة تفصل بين خيام أصحاب الإمام عليه السلام وبين ساحة المعركة، ونحن نُلاحظ هذا المعنى في روايات أُخرى أيضًا عن ساحة القتال، كالذي جاء في الرواية المتعلّقة بشهادة عليّ الأكبر عليه السلام: "فَحَمَلوهُ مِن مَصرَعِهِ حَتّى وَضَعوهُ بَينَ يَدَيِ الفُسطاطِ الَّذي كانوا يُقاتِلونَ أمامَهُ".

3.  كان أهل بيت الإمام عليه السلام يشاهدون عن كَثَب شجاعة أعزّائهم وقساوة الأعداء وبطشهم، ولذلك يُمكننا أن نتصوّر ما حدث للنساء والأطفال الذين رأوا بأّمّ أعينهم أعزّاءَهم وهم يُقطّعون إربًا، إربًا!!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]. نهج البلاغة، ص89.

[2]. تاريخ الطبري عن قدامة بن سعيد الثقفي، ج5، ص374.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد