مصيبة ما أعظمها وأعظم رزيّتها في الإسلام وفي جميع السماوات والأرض.[1]
إِنَّ لِقَتْلِ الْحُسَيْنِ حَرَارَةً فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَبْرُدُ أَبَدا.[2]
القيادات الربّانيّة تتوغّل إلى أعماق النفوس، فتُبدل العقائد وتبني الإيمان وتصنع المشاعر وتوجد التوجّهات وتُحوّل مسار مجتمعات. ابتُليت الأمّة الإسلاميّة بعد رسول الله بمرضٍ عُضال استفحل في جميع مفاصلها، وحال دون إكمال مسيرتها التقدمية، وكان سببًا لكل المصائب والفتن التي عانت منها فيما بعد، رغم أنّ نبيّها قد حذر منه مرارًا، وأكد على أنه أخوف ما يخافه على أمته.. وكان هذا المرض هو مرض حبّ الدنيا الذي ظهر بصورة حب المال، فأضحى الموجه الأكثر تأثيرًا في حركة المسلمين وأنشطتهم. وبدل أن تتّجه الأمّة نحو الفضائل والكمالات، صار حبّ الدنيا وطلبها تيّارًا عامًّا يسير عليه الناس ويتسابقون.
بالنسبة لأي أمة في العالم، قد يكون حب الدنيا دافعًا قويًّا للنشاط الاقتصادي والإنتاجي، وعاملًا رئيسًا للتقدم والثراء. لا يوجد أي اقتصادي في العالم يعدّ مثل هذا التوجّه أمرًا هدّامًا، ذلك لأنّ الفكر الاقتصادي الذي يقوم على الرؤية الكونية المادية سيرى هذا الاندفاع بركة للاقتصاد. ولكن إذا كانت هوية الأمّة وماهيتها عبارة عن التوجّه إلى الفضيلة، وكان هذا التوجه مما يُفترض أن يتجلّى بالسعي نحو الآخرة عبر تبديل العالم الـمُلكي الطبيعي إلى عالمٍ ملكوتي سماوي، فسوف يكون طلب الدنيا مناقضًا لهذا التوجُّه، مؤذنًا بزوال الهويّة وموت الرسالة في النفوس.
إن قراءة معمقة للتحليلات العديدة التي قدّمها أمير المؤمنين(ع) للواقع الذي وصل إليه المجتمع المسلم في زمانه تُبين بشكل قاطع أنّ السبب الأول وراء تلك الانحرافات والمشاكل والمصائب والتيارات التي قامت بوجه مشروعه الإصلاحي هو حب الدنيا؛ حيث أضحى هذا الاندفاع غالبًا ومهيمنًا على سائر القيم الأخرى. وإنّ الكلام المنسوب إلى الإمام الحسين عليه السلام: "الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم" يشير إلى العلاقة الوطيدة بين حب الدنيا وخواء الدين. ويحفل نهج البلاغة بالخطب والكلمات التي يذكر فيها الإمام عليه السلام، هذه المشكلة وآثارها على المستوى الاجتماعي الديني. مثل خطبته المشهورة بالشقشقية حيث يقول:
"فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالأمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ، وَمَرَقَتْ أُخْرَى، وَفَسَقَ [قسط] آخَرُونَ، كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا اللهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: {تِلْكَ الدَّارُ الاخِرَةُ نَجْعَلُهَا للَّذِينَ لاَ يُريدُونَ عُلُوًّا في الأرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}، بَلَى! وَاللهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَوَعَوْهَا، وَلكِنَّهُمْ حَلِيَتَ الدُّنْيَا في أَعْيُنِهمْ، وَرَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا!".[3]
وممّا يؤسف له هو أنّ معظم الذين عملوا على دراسة هذه المرحلة الحسّاسة من حياة الأمّة، لم يسلطوا الضوء بالقدر الكافي على هذا العامل الأساسي رغم عظيم أثره. واكتفوا بعرضه في الأبحاث الأخلاقية ذات الطابع الفردي.
تركيزنا على تحميل الحكّام والولاة المسؤولية التامة عن الوقائع والأحداث، قد يُعمي عن هذه المشكلة، فيحصر المعالجة في الإطار السياسي الضيّق، ويمنعنا من مقاربة الأوضاع والمآلات من زاوية القيم التي هي أوسع نظرًا.
صحيح أنّ للحكّام وكل من يتولّى شؤون المجتمع وقضايا الناس الدور الأكبر في توجيه المجتمع وإصلاحه، على قاعدة: "إنّه لا تصلح الرعيّة إلا بصلاح الوُلاة"،[4] لكن صلاح الوُلاة بدوره يحتاج إلى قاعدة أخرى وهي: "وإنّه لا يصلُح الوُلاة إلا باستقامة الرعيّة".[5] وهذا يعني أنّ الوُلاة والمسؤولين إن هم تصدّوا للشؤون العامّة، يجب أن يولوا قضية القيم الأولوية المطلقة.
القرآن حافل بالآيات التي تُشير إلى وخامة التعلُّق بالدنيا وسوء عاقبته، وتعدّه مناقضًا تمامًا للتوجّه للآخرة، مثل قوله تعالى: {مَنْ كانَ يُريدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُريدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصيب}.[6] وقوله عزّ مِن قائل: {إِنَّ الَّذينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُون * أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُون}.[7] {الَّذينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجًا أُولئِكَ في ضَلالٍ بَعيد}.[8] {ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُريدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُريدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزيزٌ حَكيم}.[9]
والأحاديث النبوية التي لا تحصى في هذا المجال، تعكس جانبًا مهمًّا من سنّة النبي وسيرته في التعامل مع هذه المشكلة الحسّاسة. عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (ص) مَرَّ بِنَا ذَاتَ يَوْمٍ وَنَحْنُ فِي نَادِينَا وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ وَذَلِكَ حِينَ رَجَعَ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَوَقَفَ عَلَيْنَا فَسَلَّمَ فَرَدَدْنَا عَلَيْهِ السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ: "مَا لِي أَرَى حُبَّ الدُّنْيَا قَدْ غَلَبَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ حَتَّى كَأَنَّ الْمَوْتَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا عَلَى غَيْرِهِمْ كُتِبَ، وَكَأَنَّ الْحَقَّ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا عَلَى غَيْرِهِمْ وَجَبَ، وَحَتَّى كَأَنْ لَمْ يَسْمَعُوا وَيَرَوْا مِنْ خَبَرِ الْأَمْوَاتِ قَبْلَهُمْ سَبِيلُهُمْ سَبِيلُ قَوْمٍ سَفْرٍ عَمَّا قَلِيلٍ إِلَيْهِمْ رَاجِعُونَ بُيُوتُهُمْ أَجْدَاثُهُمْ وَيَأْكُلُونَ تُرَاثَهُمْ فَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُخَلَّدُونَ بَعْدَهُمْ. هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ! مَا يَتَّعِظُ آخِرُهُمْ بِأَوَّلِهِمْ. لَقَدْ جَهِلُوا وَنَسُوا كُلَّ وَاعِظٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَآمَنُوا شَرَّ كُلِّ عَاقِبَةِ سُوءٍ وَلَمْ يَخَافُوا نُزُولَ فَادِحَةٍ وَبَوَائِقَ حَادِثَةٍ.
طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ خَوْفُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ خَوْفِ النَّاسِ! طُوبَى لِمَنْ مَنَعَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ إِخْوَانِهِ! طُوبَى لِمَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ عَزَّ ذِكْرُهُ وَ زَهِدَ فِيمَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ مِنْ غَيْرِ رَغْبَةٍ عَنْ سِيرَتِي وَرَفَضَ زَهْرَةَ الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ تَحَوُّلٍ عَنْ سُنَّتِي واتَّبَعَ الْأَخْيَارَ مِنْ عِتْرَتِي مِنْ بَعْدِي وَجَانَبَ أَهْلَ الْخُيَلَاءِ وَالتَّفَاخُرِ وَالرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا الْمُبْتَدِعِينَ خِلَافَ سُنَّتِي الْعَامِلِينَ بِغَيْرِ سِيرَتِي! طُوبَى لِمَنِ اكْتَسَبَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَالًا مِنْ غَيْرِ مَعْصِيَةٍ فَأَنْفَقَهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ وَعَادَ بِهِ عَلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ! طُوبَى لِمَنْ حَسُنَ مَعَ النَّاسِ خُلُقُهُ وَبَذَلَ لَهُمْ مَعُونَتَهُ وَعَدَلَ عَنْهُمْ شَرَّهُ! طُوبَى لِمَنْ أَنْفَقَ الْقَصْدَ وَبَذَلَ الْفَضْلَ وأَمْسَكَ قَوْلَهُ عَنِ الْفُضُولِ وَقَبِيحِ الْفِعْلِ![10]
وعَنِ النَّبِيِّ (ص) أَنَّهُ قَالَ: يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ الْمَسَاجِدَ يَقْعُدُونَ فِيهَا حَلَقًا ذِكْرُهُمُ الدُّنْيَا وَحُبُ الدُّنْيَا لَا تُجَالِسُوهُمْ فَلَيْسَ لِلَّهِ بِهِمْ حَاجَةٌ.[11]
وَقَالَ (ص) لِمُعَاذٍ لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: ادْعُهُمْ إِلَى الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَالرَّغْبَةِ فِي الْآخِرَةِ وَأَنْ يُحَاسِبُوا أَنْفُسَهُمْ. وَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُحِبُّنِي اللَّهُ وَيُحِبُّنِي النَّاسُ، فَقَالَ: ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ.[12]
وعن ابن عباس سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (ص) يَقُولُ: إِنَّهُ مَا سَكَنَ حُبُّ الدُّنْيَا قَلْبَ عَبْدٍ إِلَّا الْتَاطَ فِيهَا بِثَلَاثٍ: شُغُلٍ لَا يَنْفَدُ عَنَاؤُهُ، وَفَقْرٍ لَا يُدْرَكُ غِنَاهُ، وَأَمَلٍ لَا يُنَالُ مُنْتَهَاهُ؛ أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ طَالِبَتَانِ وَمَطْلُوبَتَانِ. فَطَالِبُ الْآخِرَةِ تَطْلُبُهُ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَكْمِلَ رِزْقَهُ، وَطَالِبُ الدُّنْيَا تَطْلُبُهُ الْآخِرَةُ حَتَّى يَأْخُذَ الْمَوْتُ بِعُنُقِهِ. أَلَا وَإِنَّ السَّعِيدَ مَنِ اخْتَارَ بَاقِيَةً يَدُومُ نَعِيمُهَا عَلَى فَانِيَةٍ لَا يَنْفَدُ عَذَابُهَا وَقَدَّمَ لِمَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ مِمَّا هُوَ فِي يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُخَلِّفَهُ لِمَنْ يَسْعَدُ بِإِنْفَاقِهِ وَقَدْ شَقِيَ هُوَ بِجَمْعِهِ.[13]
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ص): إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِيَ الْهَوَى وَطُولُ الْأَمَلِ. أَمَّا الْهَوَى فَإِنَّهُ يَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، وَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِي الْآخِرَةَ. وَهَذِهِ الدُّنْيَا قَدِ ارْتَحَلَتْ مُدْبِرَةً، وَهَذِهِ الْآخِرَةُ قَدِ ارْتَحَلَتْ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ. فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا فَافْعَلُوا فَإِنَّكُمْ الْيَوْمَ فِي دَارِ عَمَلٍ وَلَا حِسَابَ وَأَنْتُمْ غَدًا فِي دَارِ حِسَابٍ وَ لَا عَمَلَ. [الخصال، ج1، ص51]
لا يمكن تشكيل أمّة الفضيلة، ولا يمكن جعلها خير أمّة تخرج للأمم، ما لم تحل هذه المشكلة على صعيد القناعات والنفوس والسلوك. يتطلّب الأمر إبداعًا فريدًا، ينطلق من عملية تثبيت الإيمان بالله واليوم الآخر في العقائد والقلوب، وينتهي إلى الانخراط التام بمشروع الرسالة الإلهية، الذي يهدف إلى تبديل الأرض إلى أرضٍ مُشرقة بنور ربّها، لا بالذهب والفضّة واللؤلؤ والألماس.
وهكذا نعود مرّة أخرى، إلى هذه المشكلة التي ارتبطت بفهم الشعوب المسلمة لهذا المشروع وتبنيه في ثقافتها وحياتها؛ حيث نلاحظ الضعف والجهل والغربة. بيد أنّ حب الدنيا كان العامل الأكبر وراء فشل عملية التعليم والتفهيم ونشر هذه الثقافة الرسالية وانتشارها. لذلك كان الموضوع يتطلب إبداعًا مميزًا. وكان الإمام الحسين(ع) هو مُبدع هذا الحل.
إنّ لحب النبيّ قوة تأثير كبيرة في توجيه النفوس نحو الله والآخرة. وإن لحب عليّ هذا الأثر أيضًا؛ وهكذا هو حب فاطمة بنت النبي الأكرم. لكن أضحى لحب الحسين(ع) ذلك التأثير الفريد على النفوس المتعلقة بالدنيا، حيث يمكن أن ينفذ إلى أعماقها ويقتلع هذه الداهية العمياء من قلوبها.. فالحسين صار رمز المعشوق الذي قتله حبّ الدنيا قبل أن يقتله أهل الكوفة والشام! وهل يمكن أن يحب العاشق من قتل معشوقه؟! وما كان اندفاع القتلة والمجرمين إلى ساحة كربلاء إلا لعاملٍ واحد وهو ذلك الحب والتعلُّق بمال هذه الدنيا والذي أعمى بصيرتهم وسلبهم ألبابهم.
لقد كان قتل الحسين فاجعة لا يمكن أن تمر عليها النفوس مرور الكرام. لذلك كان الحسين والفاجعة، الحسين وكربلاء الأرض، الحسين والمصيبة الأعظم في السماء، صنوان لا ينفكان. وبعد عاشوراء لم يعد بإمكان أي محب للنبي في حسينه أن لا يستحضر مظلوميته وفاجعته الكبرى؛ فاجعة تدفع العشاق إلى التساؤل عن قيمة دنيا يُقتل فيها هذا الولي المعشوق وبهذه الطريقة الفظيعة؛ فاجعة تجعل الدنيا وما فيها فاقدة لأي قيمة؛ ولذلك لا يجتمع حب الحسين وحب الدنيا أبدًا.
ولئن كان أبوه عليّ عليه السلام قد خطّ طريق طلاق الدنيا، وهو يقول: "أَنَا يَعْسُوبُ الدِّينِ وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّ كَثْرَةَ الْمَالِ عَدُوٌّ لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَعْسُوبُ الْمُنَافِقِينَ"،[14] فإنّ الإمام الحسين عليه السلام قد أكمل العمل وقطع رأس الدنيا من قلوب المؤمنين. وهكذا أبدع الحسين الشهيد في حل المعضلة وشفاء الأمّة من ذاك الداء العُضال، ورسم لها مسارًا، إن هي سلكته تحرّرت من قيوده وعولجت من آثاره.
هذا المسار الجليّ الذي كان أوضح محجّة وأسطع ضياء ينير مسار المجتمع، من الممكن أن يتعرّض بدوره للتشويه والتحريف على يد الأعداء القتلة أو الأصدقاء الجهلة؛ لكنّه أيضًا كان من القوّة والإحكام بحيث جعل عمل هؤلاء الـمُحرّفين شاقًّا وصعبًا جدًّا. ولذلك صار سهلًا على من أراد إحياء أمر الحسين وتبليغ رسالة عاشوراء وبث روحها في الأرجاء أن يتلقف هذا الضياء الساطع ويصنع به العلاج الناجع.
ما صنعه الحسين في يوم العاشر من محرم هو ملحمة تحتل موقعًا فريدًا وسط السنّة النبوية القائمة، حيث تضيّق مجال التأويل وتخنق محاولاته.. فمن الذي سيقدر على تجاوز معطيات هذه الواقعة التي تُظهر جريمة لا ينجو مُرتكبوها من الإدانة مهما كان دهاء المؤوّلين.
إنّ مذهبًا يقوم على تبرير هذه الفعلة الشنعاء لأتباعه، لهو مذهب خفيف العقل سطحي الفكر، لا يصمد أبدًا أمام ذكرى عاشوراء وتبعاتها. فالأفضل له إن أراد البقاء، أن يعمل على طمس هذه الواقعة وإخفاء هذه الفاجعة عن الأتباع، وعدم ذكرها ومذاكرتها، بل ومحوها من صفحات التاريخ؛ ثم اختراع أحكام واستحسان فتاوى تنهى عن الحديث عنها والتفكر بها مخافة الفتنة والشقاق!
وإنّ أمّة تقتطع من تاريخها حادثة بهذا المستوى من الأهمية والمركزية سوف تفقد تاريخها كله، ولن تتمكن من فهم مساره والاستفادة من عبره واستخراج عوامل المجد فيه وأسباب الانحطاط. مثل هذه الأمّة أو المذهب سيبقى عاجزًا عن تقديم أي أطروحة أو حل لمشاكل الأمة وأزماتها. ولذلك، ستبقى عالقة في رمال انحطاطها وتخلّفها.
إذًا، تكمن القوة المعنوية لعاشوراء في القدرة على التأثير العميق في النفوس إلى الدرجة التي تستأصل مرض حب الدنيا بالكامل. وبذلك يُعاد رسم المسار الأول لحركة الأمّة نحو الآخرة عبر تبديل هذه الدنيا. وهنا مرّة أخرى نستحضر الدور السماوي للإمام الحسين(ع) والذي سيتحقق حتمًا في رجعته حيث يحكم أرضًا تُشرق نورًا ببهاء سلطانه.
إنّ الأزمات الروحية والنفسية الحادة التي تعاني منها المجتمعات المعاصرة وتتجلّى بصورة كآبة مُفرطة، لهي اليوم من أكبر المشاكل التي تواجهها البشرية. ذاك الحزن الناشئ من العبثية والضياع والتحلّل والتفكّك والآمال الكاذبة والأوهام والانفصال عن الواقع. وفي مقابل هذا النمط من الحزن، يوجد حزنٌ أكبر. وبسبب عظمته وشدته فهو قادر على القضاء على كآبة الشعوب. في الوقت الذي لن يكون سببًا للخمود والجمود. إنه الحزن الكبير الذي يعبئ النفوس ويشحن الطاقات لتسير على طريق الفضيلة والكمال. هذا الحزن ولا شك هو الحزن على سيد الشهداء وأهل البيت في عاشوراء. الحزن بسبب فاجعة مهولة لا تترك المجال للانشغال بأي حزن آخر. وذاك الشاعر الذي قال:
أَنْسَتْ رزيـتُكُم رزايانا التي
سـلـفت وهوّنت الرزايا الآتية
لم يكن يُبالغ أبدًا. فأينما حل حزن الحسين وكربلاء تبخرت معه كل الأحزان، مهما كانت قديمة وموغلة. وبذلك يصنع الحسين الدواء الشافي من أكبر أمراض العصر ويحرّر البشر من أغلاله، لتنطلق في آفاق الحياة وهي ثائرة مندفعة. فإذا استطعنا أن نُعيد رسم المشهد العاشورائي بسياقاته التاريخية، بدءًا من آدم الذي كان أول البكّائين على الحسين، ومرورًا بعيسى الذي ندبه أمام حواريه، ووصولًا إلى محمد الخاتم الذي نعاه وذرف الدموع عليه، سيتجلّى الحسين وتظهر عاشوراؤه كأكبر قضية يمكن أن تتعرّف إليها البشرية بمُختلف أديانها ومذاهبها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]. كامل الزيارات، ص177.
[2]. مستدرك الوسائل، ج10، ص 318.
[3]. نهج البلاغة، ص49.
[4]. نهج البلاغة، ص333.
[5]. نهج البلاغة، ص333.
[6]. سورة الشورى، الآية 20.
[7]. سورة يونس، الآيات 7 - 8.
[8]. سورة إبراهيم، الآية 3.
[9]. سورة الأنفال، الآية 67.
[10]. الكافي، ج8، ص168.
[11]. جامع الأخبار، ص70.
[12]. مستدرك الوسائل، ج12، ص51.
[13]. بحار الأنوار، ج74، ص188.
[14]. التمحيص، ص48.
الشيخ مرتضى الباشا
إيمان شمس الدين
عدنان الحاجي
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد محمد حسين الطهراني
الفيض الكاشاني
الشيخ محمد هادي معرفة
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الشيخ عبد الجليل البن سعد: الانتماء الصادق
الشيخ عبد الجليل البن سعد: القيم والتقوى: ركائز الأمان والتمييز في بحور النفس والمجتمع
عبور لنهر هيراقليطس، أمسية لهادي رسول في الخبر
برنامج أسريّ بعنوان: (مودّة ورحمة) في جمعيّة تاروت الخيريّة
المشكلة الإنسانية، جديد الدكتور حسن العبندي
الأسرة الدافئة (2)
السّيادة والتّسيّد وإشكاليّات التّغيير، الزهراء عليها السلام نموذجًا (2)
حبيبة الحبيب
السيدةُ الزهراءُ: دُرّةَ تاجِ الجَلال
السّيادة والتّسيّد وإشكاليّات التّغيير، الزهراء عليها السلام نموذجًا (1)